إذا تأملنا في نماذج الأنبياء عليهم السلام، أكرم الخلق على الله تعالى، فلو كان لأحد أن يرى له استحقاقًا على الله تعالى لكرامته لكانوا هم، ومع ذلك تجدهم أكمل الخلق في الأدب مع الله تعالى والإذعان لحقيقة أنه ليس للعبد من الأمر شيء، وأن الأمر كله حقيقة وحقًّا لله تعالى.
– سيدنا نوح عليه السلام طلب من الله تعالى أن ينجز له وعده بأنه ينجيه وأهله، {قَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ}، فكان الرد الإلهي: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [نوح: 46]، فأتبعه الرد النبوي بأكمل تسليم: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
– سيدنا إبراهيم عليه السلام الذي وعد أباه أن يستغفر له، {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تبرّأ منه} [التوبة: 114].
– سيدنا المصطفى عليه الصلاة والسلام، أكمل الخلق وأكمل الأنبياء عليهم السلام، دعا عمّه أبا طالب على فراش الموت ليدرك الإسلام: “أَيْ عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ”[1]، فتأمل إحكام العبارة، إذا بدون موافقة الإذن الإلهي ودخول حماه لا يحق للداعي أن يسأل ما لم يأذن الله تعالى بسؤاله. وعلى محبته عليه الصلاة والسلام لعمّه الذي آواه وحماه، مات أبو طالب على الكفر، فقال المصطفى عليه الصلاة والسلام: “لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ” فَنَزَلَ قول الله تبارك وتعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113]، ثم نزل قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56].
ألم يكن الله تعالى قادرًا أن يهدي الكافر ويأذن بالمغفرة إكرامًا لخواطر الأنبياء عليهم السلام؟
بلى! لا ريب!
فإذن؟
قد جرت مشيئته تعالى بغير ذلك، وله سبحانه الحُكم والحكمة، فمحلّ الامتحان ليس قدرة الله تعالى وإنما تسليم العبد لمشيئة الله تعالى موقنًا بحكمته سواء تبدّت له أم لا، وسواء وافقت هواه أم لا.
ولم يقم الله تعالى هذا الوجود لأجل أن يوافق أهواء البشر منه ومراداتهم، بل لامتحان العباد في عبوديتهم وتسليمهم لمراد الله تبارك وتعالى. والخِيَرة دائمًا وأبدًا فيما يختاره الله ويُقدِّره. ولله تبارك وتعالى ما أعطى، وله تبارك وتعالى ما منع، وكل شيء عنده بمقدار. والأمر كله إليه هو، وليس لأحد من الأمر شيء.
من لا يدخل على الله تبارك وتعالى مدخل العبودية، لم يدخل عليه تبارك وتعالى، لأنه ليس لمقام الألوهية مدخل إلا مدخل العبودية والتسليم.
تأمل في هذا المثال: من يذهب ليخطب ود فتاة بباقة ورد، فتسعد الفتاة وتقبل أن تُخطب إليه، هل عين الباقة هو ما حقق ود الفتاة، أم أن المتوسّل بالباقة إليها هو المهم، شخص المتوسّل وليس مجرد الباقة؟ وكذلك مدى توسّله بهذه الباقة وبغيرها. فمن ذا الذي يرجو خطبة فتاة يكتفي بإرسال باقة ورد أو تقديمها ذات مرة؟ بل هو يستمر في تكرار وتنويع وسائل التوسّل حتى يتحقق له المدخل إلى قلبها.
ولله تعالى المثل الأعلى مطلقًاَ. فعندما يحصل لك مراد، ليس ذلك لأنك قمت بطلب ذلك الطلب، عندما يحدث لك مراد فإنما ذلك مردُّه لمشيئته تبارك وتعالى وحده، لا لأيّ عامل آخر. ولذلك ليست المسألة في قيامك بطلب طلب معين من الله تبارك وتعالى، ليس هذا حقيقة مفهوم وجوهر الدعاء، وإنما المسألة كلها في قيامك بالعبودية عند طلبك ذلك الطلب. فتكون طلبات العبد ومراداته وأهواؤه من أسباب دفعه إلى التوسل إلى الله تبارك وتعالى، والتودد إلى مقام الألوهية. فبحسب ما تُري الله تبارك وتعالى من صدق عبوديتك وتعدد وسائل التوسّل والتذلّل والافتقار، يكون ترقّيك في مراتب العبودية وتحقُّقك بها، ومحبة الله تبارك وتعالى لك.
ولذلك بهذا المعنى، كان الدعاء مخ العبادة، أي جوهرها وروحها. ليس لكونه مصباحًا سحريًا نقصُرُه على تحقيق المرادات والشهوات والأهواء الدنيوية، فهذا رزق كغيره من الأرزاق سيأتي منه ما يشاء الله به وما كتبه لك، ولن يأتيك منه ما لم يأذن الله تعالى به ولم يكتبه لك. لكنك في جهة العبد، في موضع العبد، لا تدري الغيب ولا تعلم ما المكتوب ولا غير المكتوب، ولا ما الذي قُسِم لك ولا ما الذي لم يُقسَم لك، فتكون مراداتك ورغباتك وأهواؤك من أبواب دفعك إلى الافتقار إلى الله تبارك وتعالى. فلذلك تكون المسألة كلها في مدى حقيقة افتقارك، وحقيقة يقينك أن الله تبارك وتعالى يسمع ويرى. ثم في يقينك بالإجابة لا من حيث تشرّط الجواب على هيئة معينة، ولا من حيث كونك مستحقًا للإجابة، وإنما من حيث إن الله تعالى هو المجيب، وهو سبحانه أجود من سُئل وأوسع من أعطى، وله الحكمة البالغة قطعًا وأبدًا.
لكننا في زمن يأبى العبد أن يلَزم حدّ عبوديته، ويُصرّ أن يجعل من نفسه ندًّا لمقام الألوهية. فيرى أن له الحق أن يسأل ويسائِل، ويرى نفسه مستحقًا للجواب والتبرير لفعل الألوهية، وكشف الحساب من مقام الربوبية، تبارك الله وتعالى.
وليتنا يوم نَسأل عما لم نُؤتَ لماذا لم نُؤته ونحن نرى أننا مستحقون له، ليتنا نسأل كذلك عما أُوتيناه! لماذا لا نسأل عما أعطانا الله تبارك وتعالى من نِعَم؟ لأننا كذلك نرى أننا مستحقون لها. فنحن مستحقون للنعم التي أُعطيناها ومستحقون للنعم التي لم نُعطَها ونطلبها، وغير مستحقين لأي نوع من أنواع الابتلاءات. هذه خلاصة استقرت في قلوب كثير، وعنها تتفرّع مثل هذه التساؤلات، فنحن نفترض على الله تبارك وتعالى افتراضًا الممتن بعبوديتنا وإسلامنا له، نرى أننا نستحق عليه كذا وكذا، ونتشرّط تشرط ندًّا، مع أن إسلامنا يفرض علينا أن نتأدب بأدب العبد الذي يوقن حقيقة أنه ليس له من الأمر شيء، وأن الأمر كله لله، والملك كله ملك الله تبارك وتعالى. فمن المستحق ومن القادر ومن المكافئ لمقام الألوهية حتى يَسأله؟
إن الله تعالى مستجيب ويستجيب طالما التزم الداعي الدعاء المشروع، انتهت المسألة من جهة مقام الرب تبارك وتعالى. وإنما الشأن كل الشأن في جهة العبد وموضع العبد وقيامه بالعبودية، فيكون سؤالك يوم تسأل: “هل دعوت الله حقاً؟ هل دعوت الله على وجه الدعاء الذي يدعو به عبد مولاه؟” وإنك إذا قدّرت ربك تبارك وتعالى شيئًا من حق قدره العظيم، لكنت دائمًا في تذبذب وتشكّك من جواب هذا السؤال من جهتك أنت، فأين ما يضمن للداعي أنه دعا الله تعالى يوم دعاه حق الدعاء، وأنه تعبد إليه تبارك وتعالى يوم تعبد حق العبودية؟ ولذلك بدل أن ندخل على الله تبارك وتعالى مدخل متشرط الند، أو مدخل المتشكك المتذبذب قاطع الرجاء والأمل، فلندخل عليه مدخل العبد الذي يطمع طمع العبد، فيسأل المالك من ملكه، ويرجوه رجاء العبد الذي يوقن أن سيده لايريد به إلا خيرًا، وأن كل ما يقضي به خير، وكل ما يكون من الجميل جميل، منحًا ومنعًا.
___________________
[1] صحيح البخاري: كتاب مناقب الأنصار، باب قصة أبي طالب (3884).