بداية، ينبغي أن نؤكد أن التشريع الإسلامي لم يقف ضد طلب الصدارة في العموم، فيوسف عليه السلام وهو نبي مرسل طلب الصدارة حينما قال للملك: (اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف: 55)، ولكنه طلبها ليقيم العدل في توزيع الغذاء على الناس، أما حينما يكون طلب الصدارة الهدف منه حب الدنيا والظهور فالإسلام يرفضها ويذمها.
وهذه عقبة كؤود في الطريق إلى الله تعالى تقعد بصاحبها عن العمل لله تعالى، بل قد تجعله عدواً للمؤسسة التي عمل بها لعشرات السنين!
والرغبة في الصدارة مع حب الظهور في ميزان الإسلام شيء مذموم ومنهي عنه، بل ورد فيه الوعيد الشديد، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحد الرجلين: يا رسول الله، أمِّرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل، وقال الآخر مثل ذلك، فقال: «إنا والله لا نولي على هذا العمل أحداً سأله، ولا أحداً حرص عليه» (متفق عليه).
وعن عبدالرحمن بن سمرة رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبدالرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة، فإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها، فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك» (متفق عليه).
وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: «يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها» (رواه مسلم).
العاقبة
وللرغبة في الصدارة وحب الظهور عواقب وخيمة على الفرد وعلى العمل الإسلامي، أما على مستوى الفرد: فيحرم من عون الله تعالى له، وذلك أن أمثال هؤلاء تتضخم عندهم «الأنا»، ويظنون أن بإمكانهم فعل كل ما يريدون!
وكذلك يعرِّض نفسه للفتن، وذلك لأن الحريص على الصدارة دائماً ما يتعرض للمواقف التي من خلالها قد يتعرض للفتن، ومن ثم تتضاعف أوزاره وسيئاته، وأتعابه.
أما على مستوى العمل الإسلامي فيتسبب في كثرة التكاليف وطول الطريق، وذلك لأن العمل عندما يكون القائمون عليه يرغب بعضهم في الصدارة وحب الظهور لا يمكن أن يستقيم أبداً، وكيف لهذا العمل أن يستقيم وفيه من أغرتهم الدنيا بزخرفها، وبريقها، وزهرتها، وزينتها!
الأسباب
لوقوع البعض في هذه العقبة أسباب كثيرة ومتنوعة، منها:
– البيئة والنشأة: وذلك أن البعض قد ينشأ في بيئة لم يتعود فيها على السمع والطاعة لأحد، ولو لمرة واحدة، ومثل هذا حينما يوضع في عمل جماعي يعز عليه ويكبر في نفسه أن يكون فوقه أحد لذلك نراه تتعلق نفسه دائماً بالصدارة وحب الظهور.
– حب الدنيا والحرص على أعراضها: وذلك أن حب الدنيا رأس كل خطيئة، فحينما يتعلق البعض بالحياة الدنيا، ويجعلها غايته نراه يحرص على إصابتها من أي باب تيسر له حلالًا كان هذا الباب أو حرام، ومثل هؤلاء يتصورون أنهم إذا كانوا في الصدارة سيتحقق لهم كل ما يريدون!
– الغفلة عن تبعات الصدارة وعواقب التقصير فيها: ذلك أن تبعات الصدارة ضخمة فصاحبها يجوع حيث يشبع الآخرون ويظمأ حيث يروى الآخرون ويسهر حيث ينام الآخرون ويتعب حيث يستريح الآخرون، فإذا قصر صاحب الصدارة تعرَّض لعقاب الله تعالى في الدنيا والآخرة.
العلاج
علاج الرغبة في الصدارة وحب الظهور يكمن في:
1- دوام النظر في السُّنة النبوية: فإن فيها تحذيراً شديداً من سؤال الولاية، أو تعلق القلب بها، بل فيها بيان بليغ لتبعات وعواقب التقصير في هذا الأمر.
2- دوام التذكير بتبعات هذا الأمر وعواقبه الدنيوية والأخروية: فإن الإنسان بفطرته ينسى ولا علاج لهذا النسيان إلا بالتذكير، قال تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (الذاريات: 55).
3- التذكير بسيرة السلف وموقفهم من الصدارة، وحب الظهور: فإن سيرة السلف الصالح مليئة بكراهية هذا الأمر والنفور والتحذير الشديد منه تقديراً لتبعاته وعواقبه، فهذا أبو بكر رضي الله تعالى عنه يخطب في المسلمين بعد قبوله الخلافة قائلاً: «يا أيها الناس: إن كنتم ظننتم أنى أخذت خلافتكم رغبة فيها أو إرادة استئثار عليكم وعلى المسلمين فلا والذي نفسي بيده ما أخذتها رغبة فيها ولا استئثار عليكم ولا على أحد من المسلمين ولا حرصت عليها يوماً ولا ليلة قط ولا سألت الله سراً ولا علانية، ولقد تقلدت أمراً عظيماً لا طاقة لي به إلا أن يعين الله، ولوددت أنها إلى أي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يعدل فيها، فهي إليكم رد ولا بيعة لكم عندي فادفعوا لمن أحببتم فإنما أنا رجل منكم»(1).
ولما كان عمر في النزع الأخير جعل الأمر شورى في ستة من المسلمين، فأشار عليه المغيرة بن شعبة بابنه عبدالله بن عمر، ليكون خليفة، فغضب عمر ورد عليه قائلاً: «قاتلك الله، والله ما أردت الله بهذا، لا إرب لنا في أموركم، وما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي، إن كان خيراً أصبنا منه، وإن كان شراً فبحسب آل عمر أن يحاسب منه رجل واحد، ويسأل عن أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم أما لقد جهدت نفسي، وحرمت أهلي، وإن نجوت كفافاً لا وزر، ولا أجر إني لسعيد»(2).
ولما ولي عمر بن عبدالعزيز، جاءه صاحب الشرطة ليسير بين يديه بالحربة على عادته مع الخلفاء قبله، فقال له عمر: مالي ولك؟ تنح عنى، إنما أنا رجل من المسلمين ثم سار وساروا معه حتى دخل المسجد، فصعد المنبر واجتمع الناس إليه فقال: أيها الناس قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان منى فيه ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم، ولأمركم من تريدون، فصاح المسلمون صيحة واحدة: قد اخترناك لأنفسنا ولأمرنا ورضينا كلنا بك(3).
4- التذكير بمكانة ومنزلة الدنيا من الآخرة، على نحو ما جاء في القرآن الكريم والسُّنة النبوية، قال تعالى: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) (النساء: 77)، وقال تعالى: (فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) (التوبة: 38)، وقال تعالى: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) (غافر: 39).
وقال صلى الله عليه وسلم: «والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع» (متفق عليه)، وقال صلى الله عليه وسلم: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء» (أخرجه الترمذي)، فإن هذا التذكير قد يحمل العقلاء على أن يكونوا مغمورين بعيداً عن أماكن الصدارة، وحب الظهور حتى يخرجوا من الدنيا سالمين غانمين فيظفروا برضوان الله تعالى والجنة(4).
_____________________
(1) حياة الصحابة، محمد يوسف الكاندهلوي (2/ 248).
(2) الكامل في التاريخ، ابن الأثير (3/ 65).
(3) الإسلام وأوضاعنا السياسية، عبدالقادر عودة (1/ 155).
(4) آفات على الطريق، د. السيد محمد نوح (1/ 226) بتصرف.