كان ولا يزال الفسق عن أمر الله سبباً لهلاك القرى وأهلها
كان ومنذ أول الخليقة “الفسق عن أمر الله” سبباً للعن إبليس وطرده من رحمة الله، قال ربنا: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً {50}) (الكهف).
وكان ولا يزال الفسق عن أمر الله سبباً لهلاك القرى وأهلها, فقال ربنا: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً {16}) (الإسراء).
والحقيقة أن الفسق في معناه إنما يشير إلى أي جانب من العصيان ولا يعني فقط الجانب الجنسي كما يتصور البعض بسطحية! قال ربي: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً {16})؛ يعني أمرناهم بالطاعة ففسقوا يعني “عصوا” فحق عليهم العذاب.. ولعلنا ننظر لحال الأمم الآن, فنرى من حولنا ظلماً بيِّناً وعدواناً وطغياناً عظيماً، حتى لا تكاد ترى بقعة من الأرض عامة ومن أرض المسلمين خاصة إلا وفيها طغيان مبين وفساد عظيم، مع أن الله عز وجل نهى عن الظلم وبيَّن عواقبه في القرآن الكريم، ونهى عن الإعانة على الظلم والطغيان ولو بشطر كلمة، ولكن آلافاً وربما ملايين فسقوا عن هذا الأمر الإلهي أو تورطوا في هذا الفسق, ولعلنا نسأل ونتفكر:
في عصرنا الحالي، هل ترى فسق المترفين؟
هل تذكر كم مترف دعم طاغية ظالماً فاسداً؟
كم حكومة وحاكماً أيَّد الباطل ونصره؟
وكم رجلاً وامرأة صفقت لهذه الحكومات ولهؤلاء المترفين في دعمهم للباطل والظلم؟
كم رجل أعمال ساند جباراً يحاصر المسلمين؟
كم عالماً برر لسفاح قتل الأبرياء وسجنهم وحرق جثثهم؟
كم وكم…
مع أن الله عز وجل نهى عن الظلم ونهى عن المعاونة عليه؛ قال ربي: (وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة:2)، (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) (هود:113), وقال الله جل وعلا على لسان موسى عليه السلام: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ {17}) (القصص).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أعانَ ظالِماً بباطلٍ ليدحضَ بباطلهِ حقاً فقدْ برِئ من ذمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ وذمَّةِ رسولهِ” (السلسلة الصحيحة)، وقال أيضاً: “اسْمَعُوا، هَلْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ سَتَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ، مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ، وَلَيْسَ يَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ، وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، وَسَيَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ» (أخرجه النسائي).
وقال ميمون بن مهران: الظالم، والمعين على الظلم، والمحب له سواء.
وجاء رجل خياط إلى سفيان الثوري – رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى – فَقَالَ: إنِّي أَخِيطُ ثِيَابَ السُّلْطَانِ أَفَتَرَانِي مِنْ أَعْوَانِ الظَّلَمَةِ؟ فَقَالَ لَهُ سُفْيَانُ: بَلْ أَنْتَ مِنْ الظَّلَمَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنْ أَعْوَانُ الظَّلَمَةِ مَنْ يَبِيعُ مِنْك الْإِبْرَةَ وَالْخُيُوط.
وإن من أعجب العجب أن يتصور بعض المترفين أنه بدعمه لطاغية، يحفظ لنفسه مكانته وسلطانه! بل إن الظلم والإعانة عليه مما يعجِّل بزوال المكانة والسلطان، فالأمم تبنى بالحق وتدوم بالعدل والخلق الحسن.
وهذا يقودنا إلى سؤال آخر: هل يمكن أن تهلك القرى (البلاد) بأكملها بسبب عصيان طائفة فيهم؟
الإجابة: نعم، وكم أهلك الله من أمم سبق ذكرها في القرآن، لم ينجُ منهم إلا من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر؛ قال ربنا: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) (المائدة:78).
لم لعنوا؟
(ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ {78} كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ {79}) (المائدة).
وفي رواية عن سفيان بن عيينة رحمه الله، قال: “بَلَغَنِي أنَّ مَلَكاً أُمِر أن يَخْسِف بِقَرْيَة، فقال: يا رَبّ، فيها فُلان العَابِد، فأوْحَى الله تعالى إليه أن بِه فَابْدَأ، فإنه لَم يَتَمَعّر وَجْهُه فيَّ سَاعَة قَط”.
فالنجاة من هلاك القرى إذا طغى مترفوها وفسقوا فيها؛ إنما يكون بالتزام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدع بالحق في وجه الطغاة والمترفين وردهم إن استطعنا.
قال ربي: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ {165}) (الأعراف).