وهذه المهمة لن تكون سهلة لا حزبياً ولا تركياً في الداخل ولا على الصعيد الإقليمي والدولي على “داود أوغلو”
بعد تداولات عميقة ومطولة في أروقة حزب “العدالة والتنمية” التركي، استقر القرار- كما توقعناه من قبل – على وزير الخارجية الحالي “أحمد داود أوغلو”، ليخلف رئيس الوزراء التركي الحالي والفائز بانتخابات رئيس الجمهورية “رجب طيب أردوغان” في رئاسة الحزب، وستوكل إليه رئاسة الوزراء أيضاً، كما أعلن الحزب بعد تولي “أردوغان” منصب رئاسة الجمهورية.
وهذه المهمة لن تكون سهلة لا حزبياً ولا تركياً في الداخل ولا على الصعيد الإقليمي والدولي على “داود أوغلو”، بل وقد تعتبر من أصعب المراحل التي يمر فيها الحزب منذ تأسيسه، خاصة إذا علمنا أن “أردوغان” مها قال: إنه سيكون في الميدان ورئيس جمهورية تنفيذياً وليس بروتوكولياً، لكنه لا قانوناً ولا عملياً يستطيع أن يحافظ على سيطرته الكاملة على المساحة السياسية التي كان يشغلها كرئيس وزراء؛ المنصب الذي يعتبر الأكثر فعالية في النظام السياسي التركي البرلماني، ولن يستطيع متابعة شؤون الحزب الداخلية بشكل تفصيلي، وسيترك المنصب لـ”داود أغلو”، وفيه الكثير من القضايا المصيرية والمعقدة ليتحمل مسؤولية متابعتها وحلها.
فعلى الصعيد الحزبي، فإن “داود أغلو” مطالب بالحفاظ على وحدة وقوة الحزب وكتلته، ولكن في الوقت نفسه عليه أن يحميه من بعض الأصوات والأفكار المخالفة التي ستظهر فيه خلال الفترة القصيرة القادمة.
ولمعرفة تفاصيل هذا الأمر لننظر وبسرعة على تركيبة حزب “العدالة والتنمية”؛ فهو حزب ديمقراطي محافظ، وإن اتسمت قيادته الأكثر شهرة بأنها تحمل الفكر الإسلامي؛ إلا أنه شُكِّل من أربعة تيارات رئيسة؛ وهي التيار الإسلامي والذي يشكله الملتحقون من حزب “الفضيلة”، وتيار “المللي جوروش” الإسلامي، ومنهم “أردوغان”، و”عبدالله غول” و”داود أغلو” نفسه، والتيار الليبرالي والذي انتمى للحزب في بدايات تأسيسه عدد من قياداته، وهؤلاء بدؤوا بالانفضاض عن الحزب غالباً بعد تفوق التيار الإسلامي والمحافظ عليهم في تسيير الحزب، رغم بقاء بعض العناصر منهم، ومن أشهر المنسحبين وزير الثقافة السابق اليساري الليبرالي “إرتوغرول قوناي”، والتيار الثالث هو تيار الوسط المحافظ والذي قوَّاه “أردوغان” حديثاً بضم بعض شخصياته للحزب، أمثال “سليمان صويلو” والذي أصبح نائب رئيس الحزب لشؤون التنظيم، والتيار الأخير تيار خاص، وهو تيار “جماعة فتح الله جولن” الذين انسحب منهم علناً عدد من النواب ولكن ما زال في داخل الحزب من هم محسوبون أو مقربون منه سواء في البرلمان أو في القيادات المحلية للحزب.
وهذه التركيبة المعقدة للحزب وخاصة في ظل الأزمة التي مازالت نارها تشتعل تحت الرماد رغم انطفاء الشعلة الظاهرة لها بين تيار “جماعة جولن” وقيادة الحزب، وعلى رأسهم “أردوغان”، الذين يتهمهم ورفاقه أنهم يعملون ضمن أجندة داخلية ودولية لإسقاط تركيا الحديثة، وضرب حزب “العدالة والتنمية” ومشاريعه التصحيحية, بالإضافة إلى هذه المشكلة؛ فمشكلة تيار الحكماء أو المحاربين القدامى في الحزب والذي قد يجبر بسبب قرارات النظام الداخلي التي تمنع القيادي في الحزب في منصبه لأكثر من ثلاث دورات مختلفة؛ مما يعني أن عدداً كبيراً من القيادات المؤسسة للحزب ستفقد حقها في الترشح للبرلمان أو الحكومة؛ وهو ما سيخلق فراغاً في القيادات، أو قد يتسبب عدد من هؤلاء بتشكيل لوبيات داخل الحزب؛ نظراً لفقدانهم مواقعهم المؤثرة، وإن كان الحزب قد أعلن أكثر من مرة على لسان “أردوغان” وغيره من القيادات أن هذه الشخصيات المهمة لن تنسحب من العمل السياسي أو الحزبي، ولكنها ستنشغل في مناصب حزبية داخلية لدورة واحدة لإعطاء فرصة لتجديد الدماء في الكادر القيادي، وفتح الطريق لأسماء تعطي الحزب زخماً جديداً.
المشكلة الرئيسة الثانية التي قد تواجه “داود أوغلو” هي الوضع السياسي الإقليمي الذي تعيشه تركيا، خاصة وأن البعض يتهم “داود أوغلو” صاحب فكرة تصفير المشكلات مع الجيران والتي نجحت في فترة من الزمن حتى مرحلة الحراك العربي الذي أفقد تركيا صداقاتها بالعديد من الأطراف في المنطقة؛ كمصر وسورية والحكومة المركزية في العراق، وأثر على علاقتها بإيران، إلا أن تركيا وإيران تحاولان منع تدهور هذه العلاقة لما للبلدين من مصالح في بقائها, وبالطبع العلاقة مع الكيان الصهيوني التي يعتبر بعض المراقبين أنها السبب الرئيس في تأليب الغرب والولايات المتحدة الأمريكية على تركيا وحكم “العدالة والتنمية”؛ مما دفعهم لدعم أي حراك شعبي أو محاولات ما سمي بالانقلاب القضائي الذي قاده تيار محسوب على “جماعة فتح الله جولن” في الشرطة والقضاء، وهذه سنأتي عليها بالتفصيل، وفي هذه المعضلة وفي هذه القضية يبدو أن تركيا مقبلة على تخفيف حدة التوتر مع العديد من الفرقاء، وقد تسعى لترميم علاقاتها مع بعضها والمشاركة في بعض المبادرات الإقليمية لحل بعض الأزمات، في محاولة لاستعادة دورها الإقليمي الذي تضرر بشكل كبير مع أزمات ما بعد “الربيع العربي”، ومحاولات إثارة الفوضى الداخلية في تركيا، ويجب ألا يتفاجأ، بل ويجب أن يستعد بعض محبي حزب “العدالة والتنمية” لمواقف قد لا تسعدهم كثيراً في ملف العلاقات التركية مع دولة الاحتلال الصهيوني.
أما مشكلة محاربة ما تسميه الحكومة وأنصارها بـ”النظام الموازي” للدولة أو الدولة الموازية، وهو التنظيم الحركي لـ”جماعة فتح الله جولن” في داخل مؤسسات الدولة، فهي مشكلة معقدة، وقد تكون الأخطر على الحزب في هذه المرحلة، حيث إن أنصار الجماعة والمؤتمرين بأمرها دون أمر الدولة قد تغلغلوا خلال فترة العلاقة الجيدة بينهم وبين الحزب الحاكم الذي كانوا يعتبرون جزءاً منه أو على الأقل تياراً أساسياً داعماً له في الدولة، وعملية محاربتهم قد لا تنجح في بعض الساحات، خاصة في القضاء، حيث إنه وبالتعديل القضائي الذي أقره الشعب التركي في استفتاء سبتمبر 2010م قد فتح الطريق أمام المحسوبين على الجماعة للوصول لمعظم المناصب المهمة والتي يصعب تغييرها في السلك القضائي، وحتى في الانتخابات القادمة لمجلس القضاة والمدعين العامين من المتوقع أن يحصل المحسوبون على الجماعة غالبية ساحقة؛ مما سيعيق كما يحدث الآن محاسبة أي مخالف للقانون من المحسوبين على الجماعة في الدولة وخارجها، وهذا ما يحدث الآن في قضايا التنصت غير القانوني الذي تقول الحكومة: إن شبكة جاسوسية كبيرة في جهاز الشرطة من العناصر التابعين لـ”جماعة جولن” قد قاموا به ضد كل أركان الدولة من رئيس الجمهورية وحتى عناصر وقيادات في جهاز المخابرات، ورئيس الوزراء “أردوغان” نفسه لم يستثن من هذا التنصت، وهو الذي نتج عنه العديد من التسجيلات الأمنية والسياسية الخاصة في محاولة – قبيل الانتخابات البلدية – لكسر هيبة الحزب الحاكم وإفشاله.. ومن ناحية أخرى، فإن التوسع في مثل هذه العمليات قد يحولها لعملية انتقامية تستثير حفيظة المواطن التركي العادي؛ لذلك على الحكومة أن تفي بما وعدت به الجمهور بعمل كل شيء لتمنع سيطرة أي عصابة! كما يسمونها على القضاء، ولكن ضمن دولة القانون، دون تحولها لعملية ما يسمى بمطاردة الساحرات التي تطول كل من ينتمي للجماعة أو مقرب منها.
ومن التحديات المهمة التي تواجه رئيس الوزراء التركي القادم “داود أوغلو” هو النجاح في رفع عدد مقاعد الحزب في البرلمان في الانتخابات المتوقع انعقادها في منتصف يونيو من العام القادم ليكون على الأقل 332، والتي ستمكن الحزب من طرح مشروع الدستور الجديد الذي وعد به “أردوغان” ناخبيه منذ الانتخابات الماضية لكنه لم ينجح، حيث إن هذا الدستور سيكون بمثابة نقطة التحول في حياة الدولة التركية، حيث يتوقع أن يطرح فيه الحزب تعديل النظام السياسي للبلاد من برلماني لرئاسي؛ لما في النظام الحالي من تعقيدات تعيق عمليات ما يسمى بالتصحيح التي يسعى الحزب لتنفيذها في كل أركان الدولة؛ من حقوق الأقليات وخاصة الأكراد لمنع تغول الأحزاب الصغيرة في حال الحكومات الائتلافية التي أنهكت تركيا على مدار عشرات السنوات قبل وصول “العدالة والتنمية” وغيرها من القضايا.
ومن التحديات المهمة التي تنتظر “داود أوغلو” هو مشروع المصالحة الداخلية، أو كما يسميه أنصاره من الحزب الحاكم والأكراد مرحلة السلام في تركيا، وهو المشروع الذي قطع فيه الحزب الحاكم مسافات مهمة بداية من إعطاء الأقليات وعلى رأسها الأكراد الذين حاربوا الدولة لأكثر من ثلاثين عاماً الكثير مما حرموه من الحقوق المدنية والثقافية، حتى إن الحزب أوقف عمله العسكري منذ أكثر من ثلاثة أعوام باستثناء بعض الحوادث غير المؤثرة هنا وهناك، والتي تصدر في الغالب عن تيار لا يرغب في الحل السياسي مع تركيا، ووصل إلى إقرار قوانين تحمي كل موظفي الدولة الذين يقومون باللقاءات والأنشطة التي تتم ضمن هذا المشروع، وذلك لحماية عناصر وقيادات جهاز الاستخبارات وقيادات الدولة الذين يلتقون بقيادات حزب “العمال الكردستاني” والذي تصنفه تركيا والعديد من الدول الغربية على أنه حزب إرهابي، وقد تكون المرحلة القادمة هي الأهم؛ حيث إنها قد تعطي بعض الحقوق للأكراد التي قد تثير حفيظة الحزب القومي ومن لهم ميول قومية داخل الحزب أيضاً، ولكنها أيضاً قد تكون خطوات توقف نزيف الدم والاقتصاد التركيين اللذين أرهقا تركيا دولة وشعباً، حتى جعلها لفترات رهينة لتجار الدم والسلاح من المنظمات والدول، ويبدو أن “داود أوغلو” يسير على خطى قائده السياسي “أردوغان”، ولهذا قد يبقي على رئيس الاستخبارات “حاقان فيدان” مهندس اللقاءات والتفاهمات السرية بين الدولة وحزب “العمال الكردستاني” في منصبه ليكمل المشوار دون انقطاع، رغم أن الكثير من التوقعات تقول: إنه سيرث منصب وزارة الخارجية من “أوغلو”.
وآخر ما سنبحثه من تحديات هو التحدي الاقتصادي؛ حيث إن المراقبين ومؤسسات المال الدولية كلها تنتظر ما سيحدث في السياسة الاقتصادية التركية لكي تقرر في آلية التعامل مع الاقتصاد التركي في الفترة القادمة، خاصة وأن مؤسسات التصنيف الائتماني الدولية مثل “ستاندارد أو بورز وموديز أعلنتا أن التغيرات السياسية التركية قد تؤثر سلباً على الاقتصاد التركي فيما فهم أنه إشارة منها لرغبتها بالإبقاء على السياسة الاقتصادية التركية دون تغيرات جذرية؛ حتى لا تؤثر على المودعين والمستثمرين الكبار، ويبدو من تصريحات العديد من الاقتصاديين المقربين من الحكومة التركية وبعض الشخصيات الوازنة في الحزب أن تغيرات طفيفة قد تحدث، ولكنها لن تكون مؤثرة، وأن حكيم الاقتصاد التركي الوزير “علي باباجان” لن يترك منصبه على الأقل في المرحلة التي تسبق الانتخابات البرلمانية.
وفي الخلاصة.. يبدو جلياً أن “داود أغلو” ورغم أنه ليس مندوباً لـ”أردوغان” على رأس الحزب، فإن الحزب يحمل استمرارية فكرية وسياسية تجعل غياب الأشخاص أو تبديل مناصبهم شيئاً لا يؤثر تأثيرات جوهرية على المشروع ككل، وكما قال أمس “داود أغلو” في خطابه أمام الجمعية العمومية الاستثنائية للحزب والتي نتج عنها انتخابه رئيساً للحزب خلفاً لـ”أردوغان”: إن حزب “العدالة والتنمية” مشروع أكبر من حزب، وإن هذا المشروع مستمر إلى يوم القيامة. ن ا