عقب انصراف آخر شعاع لنور شمس اليوم الأخير من رمضان، لا تنفلت من أصفادها مردة الجن فقط، بل شياطين الأنس أيضاً، معربدين في شوارع مصر وكأنما كانوا في سجن طويل.
ليلة العيد وأيامه، هي مواسم للتحرش الصريح المتجاوز لكل حد، في ظاهرة تكرر كل عام وتحير أولي الألباب في تفسيرها، غير أن رأياً معتبراً يفسر هذه الظاهرة بالقول: إن لها ارتباطاً وثيقاً بالمادة الإعلانية التي تدق رأس المشاهدين بلا تردد، ولا توقف طوال الشهر الكريم، الذي حولته الأنظمة المتعاقبة إلى شهر للمسرات المرئية، والسهرات التلفزيونية، متجاوزة إلى حد الصدمة كل قيمة واعتبار للشهر الفضيل ومراميه الإسلامية.
هناك شبه إجماع من خبراء الإعلام في العالم على أن المادة الإعلانية المشاهدة أشد خطراً من المادة الإعلامية أو الفنية المنتجة على هيئة مسلسلات وأفلام؛ ذلك لأن الإعلانية رسالتها جيدة الصنع مكثفة ومركزة وملحة بتكرار يجعل من رسوخ مضامينها أمراً لا مفر منه.
الإعلانات غير المسلسل التلفزيوني الذي يراه المرء لمرة أو اثنتين في العمر، وغير الفيلم السينمائي الذي يمكن ألا يراه المرء مطلقاً، وساعتها لا يلومن إلا نفسه لو رأى ما لا يسره.. إعلانات القنوات الفضائية المصرية في رمضان، تقتحم عليك بيتك، وتشاركك هواء الغرفة، وتتقاسم معك عيون وآذان الأبناء، وتتكرر كل عدة دقائق، فأين المفر؟
هذا العام، كانت الإعلانات كارثة بكل المقاييس، فيما تطرحه من رسائل مباشرة وغير مباشرة، انتهكت بها كل المحظورات في سبيل تسويق منتج أو خدمة، غاية بررت بها الشركات سلوكها كل وسيلة، واستباحت في سبيل هذا الهدف كل قيمة.
ليس من تفسير لانحطاط مستوى محتوى الإعلانات إلا بانحطاط الذوق العام، نتاج المناخ الانقلابي الذي قلب كل المعايير في البلاد واستباح كل المحرمات، فلم يكن غريباً إذن أن تأتي المخرجات الفنية، موافقة للمدخلات السياسية.
الاستعراض السريع لإعلانات هذا العام يكشف عن حجم الكارثة التي أفضت إلى التوحش الموسمي الذي شهدناه عقب انفضاض شهر الصيام.
البداية مع كوارث الإعلانات في رمضان كانت بإعلان ملابس “قطونيل” الداخلية، الذي ظهر فيه ممثل شهير مسن ممسكاً بشورت داخلي متراقصاً به مخلاً بوقاره، وجارحاً حياء الناس في البيوت، دون أن يتعلم من الدرس الذي تلقاه سابقه الممثل الكوميدي الشاب الذي اضطرت الشركة تحت رد فعل الجماهير المصدوم لإلغائه.
بينما جاء الإعلان السياحي عن قرية “موسى كوست” ليقوم بطل الإعلان بالتحرش بالفتيات الغاديات والرائحات في القرية، وأثار الإعلان صدمة ورد فعل قوياً جعل الشركة تضطر لتعديله، ولكن بعد مئات المرات من المشاهدات التي كانت قد رسخت الرسالة في أذهان الشباب وجعلت من التحرش فضيلة، وتفرداً.
أما إعلان شركة “اتصالات” الذي جاء نظيفاً خالياً من كل ما يجرح الحياء العام، فكان يحمل بُعداً آخر، فقد اعتمد في فكرته على منافسته “فودافون” حيث “استولى” على بطل إعلانها “عفريت فودافون”؛ الأمر الذي جعل كثيرين يتساءلون: هل أصبح الاستلاب على مرأى ومسمع من الجماهير، شيئاً اعتيادياً بعد أن استولت السلطات القائمة علي أفكار ومشاريع سابقة التجهيز وقامت بتنفيذها ونسبتها لنفسها؟
لذلك كان من الطبيعي أن يأتي إعلان عن مشروب “تيربو”، مصوراً المواطن يسير في مدينة مليئة بالحيوانات المتوحشة، منتهياً بعبارة ناصحة “استرجل (كن رجلاً).. أنت في غابة”، وطبعاً لم يكذب الإعلان في توصيف الواقع المعاش بالبلاد.
وتأكيداً على تآكل الطبقة المتوسطة في مصر، جاءت إعلانات العقارات لترسخ للطبقية، وتوسع الهوة بين الشعب وتؤجج الحقد الطبقي، حيث يشعر من يراها بأنه فعلاً “هم شعب وإحنا شعب”، حسب الأغنية الشهيرة التي قسمت المصريين عقب الانقلاب.
أما أكثر الإعلانات التي أثارت الاستياء، فكانت إعلانات التسول التي انتشرت بشكل غير مسبوق، طلباً لتبرعات الجماهير لمستشفيات وجمعيات خيرية.. إلخ؛ الأمر الذي جعل منها مادة للسخرية والقول: إن حكومة بكاملها لا تستحيي من التسول باسم كل شيء ومن كل أحد، فهل نعتب بعد ذلك على مؤسسات خيرية؟
لقد كانت كل تلك الإعلانات نتاج ثقافة اجتاحت البلاد عقب الانقلاب على كل شيء، وكانت كذلك سبباً في شيوع تلك الثقافة بين الجميع.. لنرى ما رأيناه.