عبدالحافظ الصاوي
الديون الحكومية، من أكثر أدوات الدين نيلاً لثقة الدائنين، فهي عادة ما تكون أعلى من سعر الفائدة على باقي أدوات الدين الأخرى، كما أنها عديمة المخاطرة الائتمانية، لذلك تستهوي الديون الحكومية، متخذي قرارات الائتمان في البنوك وباقي المؤسسات المالية، وصناديق المعاشات.
لكن إذا فقدت الدولة مصداقية الوفاء بديوانها فإنها تُعرض العديد من المؤسسات المالية لكثير من الأخطار، وعلى رأسها البنوك، التي قد تفقد جزءاً كبيراً من ودائع عملائها، فضلاً عما يسببه ذلك من انهيارات في أسواق المال الخاصة بهذه الدولة، وما يرتبط بها من أسواق مال إقليمية ودولية.
وعقب وقوع الأزمة المالية لأوروبا في عام 2009م، كأحد توابع الأزمة المالية العالمية عام 2008م، ظهرت الأزمة المالية لليونان، حيث تبين وجود تلاعب وفساد في حقيقة التصنيفات الائتمانية، التي كانت تصدرها وكالات التصنيف الائتماني من قبل، والتي بموجبها توسعت الحكومات اليونانية اللبرالية بموجبها في الاقتراض، عبر آلية الاستقرار المالي الأوروبي، ومن صندوق النقد الدولي، ومن دول أخرى.
الدواء الخاطئ
مع بدء ظهور أزمة اليونان المالية في عام 2009م، تم التوجه لمعالجة الأزمة من قبل صندوق النقد الدولي وبرنامج الاستقرار المالي الأوروبي، عبر آلية الدين، والدخول في تطبيق برامج تؤدي إلى الانكماش الاقتصادي وتؤثر على الواقع الاقتصادي والاجتماعي للأفراد.
وكانت الأجندة المفروضة على اليونان، تقتضي تسريح أعداد كبيرة من العاملين بالحكومة، ورفع سن التقاعد، وتقليص قيم الرواتب والمعاشات، وفرض المزيد من الضرائب، والدخول في خصخصة المؤسسات العامة، ولكن كل هذه الإجراءات لم تحول دون تفاقم أزمة اليونان.
ودل ذلك من خلال أداء الناتج المحلي الإجمالي، فحسب ما ورد في قاعدة بيانات البنك الدولي، فإن الناتج المحلي اليوناني في تناقص مستمر على مدار الفترة من عام 2008 – 2014م، ففي عام 2008م بلغ الناتج المحلي الإجمالي 354 مليار دولار، ولكن في عام 2014م بلغ 237.5 مليار يورو، أي أن الانخفاض في الناتج بلغت قيمته 116.5 مليار دولار على مدار خمس سنوات، وبنسبة تصل إلى 33%.
وبالتالي من الطبيعي أن تعجز اليونان عن سداد التزاماتها، فهبوط الناتج اليوناني بنسبة 33%، يؤدي إلى ارتفاع معدلات الركود والانكماش الاقتصادي، وتراجع الصادرات، واتساع رقعة البطالة، وانخفاض حصيلة الضرائب؛ مما يجعل الحكومة عاجزة عن إدارة مقدراتها الاقتصادية المحلية، فضلاً عن سداد الديون الخارجية.
إن اتجاه الاتحاد الأوروبي لتكوين صندوق إنقاذ بلغ رأسماله نحو تريليون يورو، كان يستلزم أن تكون المساعدة للدول المتورطة في أزمات مالية، ومن بينها اليونان، أن توجه هذه الأموال للاستثمارات، وليس إلى الدفع بمزيد من القروض، لسداد التزامات جارية واستهلاكية.
طريق مسدود
تسببت الأزمة المالية لليونان في تغيير حكوماتها، وإقصاء الحكومات الليبرالية التي أدت إلى التوسع في الديون، وممارسة الفساد، والوقوع باليونان في براثن المديونية، وأتت حكومات يسارية، ولكن مساحات الحل أمام هذه الحكومات كانت ضئيلة، وإن كانت حكومات اليسار تميزت بمصارحة الشعب بحجم الأزمة، وحاولت الوصول لبرامج إنقاذ مع الدائنين، وبخاصة الاتحاد الأوروبي، وصندوق النقد الدولي.
مع مطلع يونيو 2015م، كانت اليونان على موعد لسداد مستحقات لصندوق النقد الدولي تقدر بـ1.5 مليار دولار، ولكنها عجزت عن السداد، وأعلن عن مفاوضات مع الدائنين، لمحاولة الوصول لتيسيرات جديدة، لإطالة فترات السداد، ولكن هذه المرة لم تلقَ دعوة اليونان استجابة كاملة، ولا رفضاً تاماً، نظراً لما يحوط بالأمر من ملبسات تتعلق بمستقبل الاتحاد الأوروبي، في ظل وجود أكثر من حالة مشابهة لليونان لدول أخرى أعضاء في الاتحاد الأوروبي.
واستطاعت حكومة اليونان أن توجد مناخاً ضاغطاً على الاتحاد الأوروبي، وإيقاف التصعيد من إجراءات عزل اليونان اقتصادياً، فقامت الحكومة بطرح برنامج الدائنين على الشعب، والذي رفض تطبيق البرنامج بنسبة 62%.
ولم يكن الاستفتاء هو الورقة الوحيدة التي لعبت بها الحكومة اليسارية باليونان، ولكنها سعت لتوظيف سياسي لأزمتها، لتستفيد من حالة الصراع الموجودة الآن بين روسيا وأوروبا، وأعلن رئيس الحكومة في منتدى اقتصادي بروسيا منتصف يونيو الماضي، بأن أوروبا لم تعد مركز العالم، وأن هناك قوى اقتصادية جديدة، وعلى أوروبا ألا تُلجئ اليونان على الخروج من الاتحاد الأوروبي.
سيناريوهات الأزمة اليونانية
إذا كانت الحكومة اليسارية باليونان، قد لجأت للاستفتاء الشعبي للتعامل مع برنامج الدائنين، الذي حاول الاتحاد الأوروبي فرضه عليها، فإن دولاً كبرى بالاتحاد الأوروبي تعاني هي الأخرى من ضغوط شعوبها بألا تدفع أموال دافعي الضرائب لمساعدة اليونان الذي لم تفلح معه برامج المساعدات على مدار خمس سنوات ماضية، وعلى رأس هذه الدول ألمانيا، وهي أكبر دائني اليونان، بنحو 68.2 مليار يورو، وينظر اليونانيون إلى ألمانيا على أنها سبب أزمتهم الحالية، وأنها هي التي تدفع لعدم الوصول لبرنامج تسهيلات جديد.
بينما فرنسا والتي تعد ثاني أكبر دائن لليونان بنحو 43.8 مليار يورو، تعلن أنها لن تسمح بخروج اليونان من الاتحاد الأوروبي، ولكن لا ينبغي أن يفهم من هذا التصريح الفرنسي، بأن فرنسا تساعد اليونان على استمرار ظاهرة “الركوب مجاناً”، ولكنها قد تساعد في تخفيف حدة الشروط الواجب على اليونان تطبيقها، مراعاة للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الحادة التي تمر بها اليونان منذ سنوات، وكانت سبباً في عدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها تجاه الدائنين.
ولا يمكن النظر إلى موقف صندوق النقد الدولي من أزمة اليونان بعيداً عن موقف الدول الأوروبية وأمريكا، فالمفترض عقب تخلف اليونان عن سداد قسط صندوق النقد، أن يعلن الصندوق إفلاس اليونان لعدم قدرتها على السداد، والوفاء بقسط قدره 1.5 مليار دولار في 21 يونيو 2015م تقريباً، ولكن الصندوق لم يفعل، وأعلن عن استمرار التفاوض حول الوضع في اليونان، وأنه سيسعى للوصول إلى اتفاق بشأن الديون اليونانية، والتوافق مع بقية الدائنين.
إلا أن الموقف الحالي يضع اليونان أما سيناريوهين، هما:
الأول: سيناريو الإفلاس والخروج من الاتحاد الأوروبي:
إذا كانت اليونان تعرضت للإفلاس غير مرة، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين (1827، 1843، 1893، 1932م)، فإن تعرضها للإفلاس هذه المرة، سيفرض عليها الكثير من الضغوط الاقتصادية، وبخاصة إذا ما كانت خطة اليونان الانضمام إلى روسيا وتجمع “البريكس” فإن الظروف غير مواتية لهذا السيناريو، وسوف يكلف اليونان الكثير على الجانب الاقتصادي، فروسيا تعاني من أزمتها الاقتصادية، بسبب العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من قبل أوروبا وأمريكا؛ وبالتالي لن يكون بمقدورها أن تقدم مساعدات تفي بقيام أو تعافي دولة من الإفلاس، وكذلك الوضع في تجمع “البريكس”، فإن المصالح الاقتصادية ستحول دون أن تتحالف دول التجمع مع اليونان والوقوف بجانبه، نظراً لارتباط دول التجمع بمصالح اقتصادية ضخمة.
وبالتالي سيكون سيناريو خروج اليونان من الاتحاد الأوروبي أكثر كلفة، ولن تستطيع اليونان تحمله بمفردها، ولا في إطار شركاء محتملين.
ويجب ألا ينظر إلى إفلاس اليونان على أنه مجرد تخلص اليونان من ديون قدرها 320 مليار يورو مستحقة لبرنامج الاستقرار المالي الأوروبي وغيره من الدول، ولكن إفلاس اليونان يعني معايشتها لواقع اقتصادي غاية في الصعوبة لسنوات قد تمتد لعقدين من الزمن، وعزلتها دولياً على الصعيد الاقتصادي.
الثاني: سيناريو السداد والبقاء بالاتحاد الأوروبي:
وهو السيناريو المرجح من وجهة نظرنا؛ لاعتبارات وشواهد يؤديها الواقع وتفرضها ضرورات أخرى غير الجانب الاقتصادي، فمن حيث الواقع فإن الحكومة اليونانية أعلنت السبت 11 يوليو الحالي عن توصلها لبرنامج وافق عليه البرلمان، ويلقى استحساناً من بعض الدول الدائنة، وأنه سيتم التفاوض بشأنه، وإن كان هذا البرنامج سوف يعرض الحكومة اليونانية لبعض الاعتراضات الشعبية، وإن كانت الحكومة عبر الاستفتاء قد قللت من حدة هذه الاعتراضات.
أما الضرورة الحضارية، التي ستفرض نفسها على أوروبا لتكون حريصة على بقاء اليونان داخل الاتحاد الأوروبي، فهي أن أوروبا ظلت خمسة عقود من المفاوضات وبناء المؤسسات لإقامة الاتحاد، وأن خروج اليونان يعني انهيار هذه المنظومة التي كانت حلماً في مطلع خمسينيات القرن العشرين، وأصبحت واقعاً مع بداية الألفية الثالثة.
وعليه فسيناريو السداد والبقاء، سوف يجنب اليونان شبح الإفلاس، ويحافظ على التجربة الأوروبية في وحدتها، إلا أنه يستلزم أن تقوم اليونان بتطبيق جاد لما سيتم عليه التوافق، وسيعيش الشعب اليوناني سنوات عجاف خلال السنوات المقبلة، في ظل التوصل إلى حل، ولكنها أخف بكثير من التعثر وإعلان إفلاس اليونان.
ولكن لابد من تغير آلية المعالجة للأزمة اليونانية، من قبل الاتحاد الأوروبي، وهي الانتقال من آلية الدين إلى آلية المشاركة، عبر الاستثمار الأجنبي المباشر، والذي بإمكانه أن يمثل ضخ أموال جديدة في شرايين الاقتصاد اليوناني، بلا تكلفة تمويلية.
وإذا تم التوصل لبرنامج سداد، ونجحت في تطبيقه الحكومة اليونانية، فمن شأن ذلك أن يرفع من قيمة الناتج المحلي الإجمالي، وينشط من حركة الاقتصاد، لتكون نسبة الديون الخارجية، أقل مما هي عليه الآن، والبالغة 177% من الناتج المحلي، فضلاً عن القدرة على السداد، ولكن في ظل هذا السيناريو المتفائل، لأن الاقتصاد اليوناني أمامه على الأقل من 3 – 5 سنوات، ليشهد حالة من التعافي الاقتصادي.