جمال خطاب
عرف العالم أسلوبان، قديمان قدم التاريخ، من أساليب الدعاية والحشد، ولكنهما لا زالا الأكثر تأثيرا حتى يوم الناس هذا، وهما الحشد والدعاية عن طريق الموالد أو بطريقة الملاطم.
والمصريون، وأغلب العرب، الذين يعرفون الموالد جيدا لا يعرفون الملاطم، لأسباب ثقافية ودينية ربما. و”الملاطم” جمع ملطمة، وهي مناسبة سنوية، مثل المولد، إلا أنها ليست للفرح والطبل والزمر مثله، ولكنها للنحيب وشق الجيوب ولطم الخدود، ولذلك سميت ملطمة. ومن أشهر الملاطم المعروفة الملطمة الدائمة لليهود علي هيكلهم المزعوم عند الحائط الغربي للمسجد الأقصى والذي يسمونه حائط المبكي، وكذلك الملاطم التي يقيمها غلاة الشيعة في ذكري استشهاد الإمام الحسين بن رضي الله عنهما.
والنسخ الحديثة للموالد والملاطم تختلف قليلا عن النسخ القديمة، وأوضح مثال علي الملاطم الحديثة ملطمة “شارلي إبدو” التي أقامتها فرنسا بحضور زعماء من جميع أنحاء العالم، بعضهم من العالم العربي والإسلامي، بعد مقتل متطرفي جريدة شارلي إبدو، التي دأبت علي مهاجمة الرسول الأعظم محمد صلي الله عليه وسلم برسوم مسيئة، علي يد متطرفين مسلمين غاضبين. وهناك أيضا الملطمة الدائمة التي يقيمها اليهود علي ما يسمي المحرقة اليهودية. وفي مصر ملاطم صغيرة يقيمها النظام عندما يقتل تابع له، شرطي أو عسكري، كبير أو صغير، أو قاضي، وهو النظام الذي لا يمل من قتل وسجن ومطاردة وتشريد المعارضين.
وقد اشتهرت مصر، قديما وحديثا، بالموالد! لا الملاطم، فلا تكاد تخلو قرية من مولد لسيدي العارف بالله فلان بن فلان، الذي طار وهو في طريقه إلي مثواه الأخير، رغم أنه كان في حياته رجلا عاديا، أو العارف بالله علان بن تركان، الذي جاء لأخيه في المنام بعد أن مات وطلب منه أن يبني له مقاما فخما وأنذره بالمصائب والكوارث إن لم يفعل، وهذا شيخ الطريقة الفلانية وهذه ابنة الشيخ الفلاني التي تبتلت وتلك زوجته التي ماتت قبله فكان ذلك دليلا علي ورعها وتقواها. وحتي اليهود وهم قوم ملاطم وبكائيات، يقيمون مولدهم الوحيد عندنا في مصر “المحمية” بال…. مولد “أبو حصيرة”
وقد أبدعت مصر في تطوير الموالد، وابتكرت طرقا حديثة لها، مع احتفاظها واعتزازها بالموالد التقليدية، والمتصفح لتاريخ مصر الحديث والمعاصر يكتشف أن مصر أقامت الكثير من الموالد الحديثة، لعل أفخمها علي الإطلاق كان مولد افتتاح قناة السويس 1869 ،التي مات في حفرها ١٢٥ ألف عامل، بعد عشر سنوات من الحفر بالسخرة،المولد الذي تكلف مليونًا ونصف المليون جنيه آنذاك حصل عليه الخديوي من بيع نصيب مصر فى القناة لسداد تكلفة الحفل! وضاعت حصة مصر في القناة من أجل مولد الافتتاح الذي تكلف فيه الخديوي إسماعيل بكل شيء ابتداء من تكاليف نقل الضيوف من بلادهم حثي عودتهم إليها مرورا بالإقامة الباذخة في قصور أقيمت خصيصا لإقامتهم، والهدايا الثمينة من دماء شعب لم يكن يعرف من الأطعمة سوي “المش” … وخرجنا من المولد بالديون التي جاءت بالاحتلال الانجليزي، وبأوبرا عايدة وزيارة الإمبراطورة أوجيني إمبراطورة فرنسا التي بني من أجلها قصر الجزيرة ” فندق ماريوت الزمالك الآن”…. ومازال الشعب يعاني، وما أشبه الليلة بالبارحة!
وجاء عبد الناصر، الفقير ابن الفقراء، الذي قدم للشعب الغارق علي أنه المنقذ والمخلص من الفقر والجهل والمرض والتخلف، بنسخة مزيدة ومنقحة من الموالد، كان أهمها مولد السد العالي، المولد الذي بدأ قبل تأميم قناة السويس، وأدخلنا بتأميمها في حرب لا قبل لمصر بها مع انجلترا وفرنسا المنتصرتين في الحرب العالمية الثانية، وربيبتهما “إسرائيل” وظل مولد السد العالي منصوبا حتى مات عبد الناصر، قبل اكتماله وافتتاحه رسميا في 15 يناير 1971 …
مات عبد الناصر قبل أن ينفض مولد السد العالي، وتركنا بعد أسوأ هزيمتين في العصر الحديث، ورحل بعد 18 سنة من الحكم، ولم ترحل البلهارسيا، التي أورثتنا أمراضا التليف الكبدي وفيرسات cوbوa و…و…و…و وترك نسبة الأمية لا تقل عن 40% ولازالت، ومازالت مصر من أفقر دول العالم، ببنية تحتية مهترئة، وأمراض متفشية جسمانية واجتماعية واقتصادية، وجاء السادات الذي كان له في كل عام مولد أو اثنين. وخلفه مبارك، الذي أضاع المليارات في فنكوش “توشكي” الذي يبدو أننا سنعود له قريبا!
ومن الموالد الحديثة جدا التي عشناها في مارس الماضي 2015 مولد “المؤتمر الاقتصادي بشرم الشيخ”، الذي ظن بعض البلهاء أنه نهر من المليارات ستفيض علي مصر، معتقدين أن أصحاب المليارات سذج! مثلهم! وأن “الحداية بتحدف مليارات” وأنقل لكم هنا تصريح واحد مازال منشورا علي موقع أخبار مصر الرسمي حتى الآن عن الاستثمارات في قطاع الكهرباء تحت عنوان ” حصيلة الكهرباء خلال مؤتمر شرم الشيخ: 25 اتفاقية باستثمارات 140 مليار دولار”
أما المولد الحالي، مولد ست الحسن والجمال، قناة السويس الجديدة، فقد جمع له 64 مليار جنيه من مدخرات الغلابة، ولا عزاء، ولازال الإعلام منذ ما يقرب من شهر وحتى الآن يتحدث عن المشروع العملاق، في مولد، ليتنا نخرج منه بقبض الريح! ولكننا تعودنا أن نخرج من مثل هذه الموالد بخسائر وديون تثقل كاهلنا عشرات من السنوات!
وبين يدي الاحتفال الأسطوري الذي يقيمه النظام المصري نطرح مجموعة من التساؤلات البريئة، الساذجة،والتي يمكن تخطر علي بال أي متابع عنده أثارة من عقل، لمولد ” التفريعة”
- هل يجوز علميا أن تسمي تفريعة مهما طالت أو اتسعت “قناة السويس الجديدة”، أم أن هذا تدليس وتضليل وكذب؟…وقد قامت الهيئة العامة لقناة السويس بحفر 6 توسيعات جديدة لقناة السويس أهمها ثلاث تفريعات في عام 1955 ، قبل التأميم، هي البلاح بطول 8.9كم والبحيرات بطول 8.4كم وكبريت بطول 7 كم والثلاث تفريعات الأخرى في عام 1980 وهم الدفرسوار بطول 11.8 كم والتمساح بطول 4.3 كم وبورسعيد بطول 40.1 كم ولم يجرؤ أحد على إطلاق اسم قناة السويس الجديدة على أي منها!
- ولماذا أخفيتم منذ البداية ومازلتم تخفون طبيعة “التفريعة” التي سبقتها تفريعات وتوسعات أكبر وأخطر وأهم منها، بدون هذا الصخب وهذه الضوضاء المبالغ فيها، وتسمونها كذبا وزورا وتدليسا ” قناة السويس الجديدة” ؟
- وهل كانت هذه التفريعة “34 كم” تستحق كل هذا الإنفاق؟ 64 مليار جنيه من مدخرات الغلابة، وهل كانت القناة ستتوقف أو تنهار بدونها؟
- ولماذا لا تحدثوا الناس بشفافية وصراحة عن العائد الاقتصادي للتفريعة المسماة زورا “قناة السويس الجديدة”؟
- ولماذا تركتم السذج المخدوعين بإعلامكم يظنون أن المشروع عبارة عن قناة كاملة موازية للقناة القديمة؟
- والعجب كل العجب في التواطؤ الإعلامي العالمي في تسمية تفريعتكم ” قناة السويس الجديدة” فهل يتواطيء الإعلام العالمي، الصهيوني، للمشاركة في تضليلنا؟
- وإذا كنتم تعملون حقا لخدمة مصر والمصريين فلماذا غابت الشفافية في التخطيط والتنفيذ والجدوى ومازالت غائبة؟
- ولماذا ينظم “رئيس!” يطالب المصريين بتقسيم الرغيف أربعة أرباع و”رئيس وزراء!” يسد أبواب الأمل في وجوه الشباب ماعدا “سواقة التوك توك” هذا الاحتفال الأسطوري المكلف؟
- وهل ستسمح التفريعة الجديدة بمرور السفن العملاقة؟ أم أن هذا سوف يحتاج إلي توسعة وتعميق المجري القديم، ومن ثم مئات المليارات الأخرى؟
هذه بعض الأسئلة السريعة التي يمكن أن يسألها أي عاقل بعيدا عن الصخب الإعلامي الفارغ الذي تلجأ إليه كل الأنظمة الدكتاتورية الفاشلة … والأسئلة كثيرة، ومنطقية، ولكن!!
والمضحك المبكي في الأمر، أن المصفقين كثر، والمخدوعين أكثر، وذلك لأن مصر، في القرن الحادي والعشرين، مازالت تحكم بمنطق المماليك في أسوأ صورهم، عندما كان لسان حالهم يقول: “نحن وظيفتنا الحكم فقط، الحكم بمعني التحكم في الشعب،وعلي الشعب أن يدبر أحواله بنفسه، هذه ليست وظيفتنا، يجب علي الشعب أن يشقي ليطعم ويكسو ويعالج نفسه، ويدفع لنا ما نطلبه من الضرائب الباهظة التي تمكننا من الترف والبذخ حتي لو مات هو جوعا!” وأغلب الشعب، الذي تركوا نصفه يعاني من أمية حرفية، والنصف الآخر يغط في أمية ثقافية، يظن أنه لا توجد في العالم نماذج أخري للدولة غير هذه وأن كل الحكام مثل هؤلاء!! وليس في الإمكان أبدع مما كان
الدولة المصرية مازالت تتمسك بصورة وبأساليب الدولة القديمة، دولة القرون الوسطي، حكام يملكون كل شيء، يفعلون كل شيء،ولا يحاسبون علي شيء!! الصورة التي انقرضت أو كادت في عالم القرن الحادي والعشرين، ولكنها تزدهر في مصر “المحروسة” و”المحمية”!