“ليس في الإسلام تطرُّف”.. هذه العبارة أبدأ بِها مقالتي؛ لأُذكِّر بعض المسلمين – قبل غيرهم مِمَّن انساق وراء إدانة حوادث العنف التي طالتْ كلَّ أبناء الشَّعب الْمِصري، ولَم تستثن طائفةً أو فئة أو طبقة – بأنَّهم قد يذهبون بعيدًا لإرضاء الآخَر، حين يُساعدون خصومهم بإلصاق تُهْمة الإرهاب والتطرُّف بعقيدتِهم، والمؤمنين بِها؛ إرضاءً للآخَر، أو إرضاءً لِسُلطة، أو تَملُّقًا لزعيمٍ هنا أو هناك، أو رُبَّما نِفاقًا وتزلُّفًا، أو حتَّى لِنَيل مغْنَم، أو إصابة فائدةٍ، أو تحقيقًا لأمل أو وعد.
هذه المقولة صادرة عن وعي كامل بِما نصَّ عليه الوحْيُ الإلَهِي من كتاب الْمُسلمين والسُّنة النبوية الشريفة، وهُما أساس التَّشريع، ومصدر الفكر الإسلامي، وهذا ما أجمع عليه كلُّ العلماء والكُتَّاب والمفكِّرين، الذين توافرت لَهم فرصة دراسة الإسلام، وقراءة مصادره وأصولِه، وآراء الفقهاء وغيرهم من أهل الْحَلِّ والعَقْد والإفتاء.
ومن القرآن الكريم والسُّنة أخذ المسلمون أصول دينهم، وثوابِتَ عقيدتِهم، كما أنَّهما أهَمُّ مرتكزات فِكْر المسلمين في جَميع العصور وتنَوُّعِ البيئات والثَّقافات، كما أنَّهما كانا مضمونَ وصيَّة النبِيِّ الْمُصطفى في خطبة الوداع، حين طالب الْمُسلمين بالتمسُّك بِهما في حياتهم الْمُستقبليَّة، وأنَّهما ضَمانُ بقاء الإسلام، وضمان حياة أمَّة الإسلام على مرِّ العصور.
ورد في “مختار الصِّحاح” في مادة وسط، أنَّ كلمة توسيط بِمَعنى: جعل الشَّيء في الوسط، والتوسُّط بِمَعنى: قطع الشَّيء إلى نصفين، والوسط من كلِّ شيء؛ أيْ: أعْدَله، وشيء وسط يعني بَيْن الجيِّد والرَّديء.
وفي نفس الْمَعاني يقول “الْمُعجم الوجيز”: والأوسط يعني المعتدل في كلِّ شيءٍ، وجَمْعها: أواسط.
ولقد ورد لفظ “الوسط” ضمْنَ العديد من المعاني والتفسيرات الَّتي تدور حول هذا المعنى؛ فهناك “الصَّلاة الوُسْطى” التي تعني: الصَّلاة الفُضْلى، وهناك أوسط الطَّعام بِمَعنى الطعام الجيِّد الذي يأكله الإنسان، وقيل في الأوسط: ما بين القِلَّة والكثرة، وهناك الأجود والأفضل، وهو الْمَعنى الغالب، وقيل: الأوسط بمعنى الأعدل، وهو ظاهرٌ؛ لِما قاله من طلب التَّسبيح والنُّصح بالمعروف، وقيل: أوسطهم عمرًا، وقيل: الوسط بِمَعنى التوسُّط بيْن طرفَيْن، أو كما يقول الفلاسفة: وسَطٌ بين نقيضَيْن.
ويأتي “الوسط” هنا بِمَعنى الاعتدال، والبُعْد عن الغلُوِّ والتطرُّف.
ورغم تشعُّب المعاني التي ترمي إليها كلمة وسط وما خرج منها من كلماتٍ وتعاريف، إلاَّ أنَّها تظَلُّ في إطارٍ واحد، هو الاعتدال والأفضليَّة، ومن هنا كان وصف الله – جلَّ وعلا – لأمة الإسلام بأنَّها أمة وسط، “الآية 143 من سورة البقرة”؛ حيث أشارت هذه الآية إلى وصف أمَّة الإسلام بثلاثة معانٍ تشمل: العدالة، والخيارَ الأجود، وثالثها: الاعتدال والتوسُّط، وكلُّها معانٍ لا تتَزاحَم لِتَتعارض، ولكنها تتجمَّع؛ لتعطي معنًى محدَّدًا هو الاعتدال والخيريَّة والأفضليَّة، وأعتقد أنَّها معانٍ تتكامل في سياقها العامِّ، وفي مدلولِها الثقافي والاجتماعيِّ، والسياسي أيضًا.
ولا شكَّ في أنَّ وسطية الإسلام هنا ليست ظاهرة فلسفيَّة، كما أنَّها ليست ميزة عِرْقيَّة، ولكنها تعني خصيصة أو ميزة إسلاميَّة ودينيَّة عقَدِيَّة.
والوسطية بِهَذا الْمَعنَى ليست وسَطًا بين نقيضَيْن كما يقول الفلاسفة، أمثال أرسطو؛ حيث إنَّ الوسطيَّة عنده تعني تداخُلَ الشَّيئيْن؛ لكي يتكوَّن منهما في النِّهاية شيءٌ آخَر ثالثٌ مُختلف، يلغيهما ويقف بدلاً منهما، فيقول أرسطو على سبيل المثال: إنَّ الشجاعة وسَطٌ بين نقيضيْن هُما التهوُّر والْجُبْن، وهذا قياس خاطئ كما يقول العقَّاد؛ فالكرم أو الزِّيادة في الكرم لا تُعَدُّ بأيِّ حالٍ من الأحوال إسرافًا، والزِّيادة في الشجاعة ليست تَهوُّرًا، وأضيف بأنَّ الأخلاق لا يُمْكن أن نضع لَها قياسًا أو ميزانًا حسابيًّا أو هندسيًّا.
ذلك أنَّ مفهوم الإسلام للوسطيَّة لا يُمْكن أن يُلْغي الطَّرفَيْن؛ ليتكون منهما طرَفٌ ثالث، فالجميع يَحْتفظ بوجوده، وهذا ما يتَّفِق مع الطبيعة البشريَّة؛ حيث ينتقل الإنسانُ من حالٍ إلى حال، دون أن يلغي أيًّا من الْحالَيْن، سواء التي كان عليها أو تلك التي سافر إليها.
والمنهاج الإسلامي الواضح، القائم على الإيمان بالله وبوحدانيَّته والشمولية، قائمٌ أيضًا على الوسطيَّة؛ حيث لا إفراط ولا تفريط، ولا غلُوَّ ولا تقصير، هذا المنهاج ظاهِرٌ وجَلِيٌّ في نظرته للقضيَّة الإيمانيَّة والوحدانيَّة، وفي نظرته للقضايا الشَّرعية والاجتماعيَّة والمالية والاقتصاديَّة، وكافَّة مناشط الحياة الإسلامية ومَجالاتِها، فهي لا تقتصر على جانبٍ دون آخَر، وفي زمانٍ دون آخر، بل شيءٌ ملاصق، ومرتبطٌ إلى حدٍّ بعيد بِمُكوِّنات العقيدة الإسلاميَّة، وأيضًا بِمُكوِّنات شخصيَّة الْمُسلم، هذه الْمكوِّنات التي شكَّلَت حياة الأنبياء والْمُرسلين على مدى التاريخ الإنسانِيِّ كُلِّه، وشَملت كذلك الدعوات الإيمانيَّة التي جاء بِها هؤلاء الأنبياء.
هذه الوسطيَّة نلمحها في عدم غلُوِّ المسلمين في معتقدهم الدِّيني، فلم يتطرَّفوا مثلما هو حال النَّصارى الذين غالَوْا في الإيمان بعيسى، ونقلوه من عطاء النُّبوة إلى قدسيَّة الألوهيَّة، حين اتَّخَذوا أحبارَهم ورهبانَهم أربابًا من دون الله، ولَم يلجأ الْمُسلمون إلى تقديس نبيِّهم مثلما قدَّس النَّصارى ابنَ مريم، ولكن النبِيَّ المصطفى كان حريصًا على أن يُلَقِّن أتباعه بأنَّه عبْدٌ من عباد الله، وكان يرشدهم إلى ذلك بقوله: “قولوا: عبْدُ اللهِ ورسولُه”.
وتتجلَّى وسطيَّة الإسلام في دعوة أهْلِه إلى الاعتدال والتَّوازُن في مطالب الحياة، ورغبات الدُّنيا، وكذلك فيما يتعلَّق بِمَطالب الآخرة واستحقاقاتِها، والعمل من أجْلِها، والأخذ أيضًا بالأسباب الموصلة إليها، دون إفراطٍ ولا تفريط، في مثل قول الله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ (القصص:77).
ولا شكَّ في أنَّ الإسلام كان واضحًا تَمامًا في إظهار هذه القيمة التي هي الوسطيَّة، فكان أنْ دعا المسلمين إلى الوسطيَّة في كلِّ أمورهم الدُّنيوية والحياتيَّة، حين طالَبَهم بالكفِّ عن الإسراف، والتقتير، ودعاهم إلى التَّوازن والاعتدال في كلِّ شيء، حتَّى في الإنفاق، وفي العواطف والأحاسيس، فكما أنَّ كلَّ شيءٍ عند الله بِقَدَر، فإنَّ كل شيءٍ لدى المسلم الصحيح باعتدالٍ وتوازُن.
ومن الإنصاف القول هنا بأن المسلمين كانوا أوَّل من سعى إلى إزالة التَّعارض الظاهريِّ بين العقل والنَّقل، والتي ظلَّتْ قضيَّةً أَفْرد لَها أئمَّتُهم العديدَ من الْمُؤلَّفات؛ مِمَّا يدلُّ على رسوخهم في المسائل العقليَّة، وبذلك نأى الْمُسلمون بأنفسهم من الولوج إلى متاهات الفلسفة الإغريقيَّة التي لَم تُنْتِج شيئًا يعتدُّ به في قضايا الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، والتي شبَّهَها بعض فلاسفة الغَرْب المُحْدَثين بأنَّها حرْثٌ في الماء، على حدِّ قول د. عبدالله التركي.
كما تتجلَّى الوسطية الإسلامية في انحيازها إلى الوسطيَّة القرآنية التي غابَتْ عن كُلِّ القوانين الوضعيَّة، فاشتملت على وسطيَّة التشريع الإسلامي، فكان أنِ اتَّصَف بأنه التشريع الوسط والأكمل بين الشَّرائع، وهنا علينا أن نفرِّق بين التشريع في أصوله ونصوص الكتاب والسُّنة، وبين الاجتهاد والرأي والنظر في النصوص، التي خرج بها بعض المسلمين؛ لأنَّها قد لا تُمثِّل إجماع الأئمَّة؛ ولذا فإنَّه من الطبيعي أن نجد الوسطيَّة الإسلامية بِمَعناها القرآني وفي حقيقتها في النُّصوص الشرعيَّة ذاتِها.
هذه الوسطيَّة التي تتجلَّى في التسامح، وفي حفْظ مصلحة الفرد والمُجْتمع، وفي الإقرار بِحَقِّ الفرد في التملُّك، وفي إقامة الحدود، وفي اليُسْر والاعتراف بالأعذار، وفي قيمة الاتِّباع لا الابتداع، وفي قيمة الاستخلاف في الأرض، وهي الأمور التي تعني أنَّ الإسلام ووسطيَّة التشريع فيه، تعني أنَّه الدين الأكمل والأقوم والأعدل، والأوفق لِحياة الإنسان بالمعني القرآنِيِّ للوسطيَّة.
ولعلَّ هذا جميعه يَدْعونا إلى الإشارة إلى وسطيَّة الدعوة إلى الإسلام؛ حتَّى تكتمل الصُّورة الوسطيَّة للإسلام، حيث تأتي الشريعة الإسلاميَّة – باعتبارها الدِّينَ الخاتَم – شاملةً لكلِّ ما يَحْتاجه الْمُسلم في حياته الدِّينية والدنيوية، وإنَّ الهدف من ذلك هو هداية الإنسان، دون تَمْييز بين الرَّجل والمرأة، أو بين أناسٍ وأناس، أو قوم وآخَرين؛ فإنَّ الدعوة الإسلامية شاملةٌ لكلِّ الخلق في كلِّ مكانٍ وزمان؛ امتثالاً لقول الله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ (الأعراف:158)، وتكرار نفس المعنى في العديد من آيات الكتاب الكريم.
ولقد اشتمل منهاج الدَّعوة في الإسلام على أنَّ الهداية من الله، وأن على الإنسان التبليغَ والدَّعوة، وأنَّ على الإنسان أن يسعى، وليس عليه إدراكُ النجاح، ومن هنا فإنَّ الإنسان يؤمن ويهتدي باختياره، ويكفر ويعصي باختياره كذلك، فلا إكراه في الدِّين، ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ (القصص:56)، وغير ذلك كثير مِمَّا يفسِّر هذه القضيَّة المهمة في مَجال الدَّعوة والتبليغ، التي يجب أن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة، والمُجادلة بالتي هي أحسن، وَفْق إطارٍ عامٍّ ناصحٍ، يقول: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ (آل عمران:159).
ومن هنا فقد كنتُ أقول دومًا بأنَّ المسلم الحقَّ هو خيْرُ داعية، ولنا في رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – القدوةُ والأسوة الحسنة، ومِن ثَمَّ فإنِّي أتوِّج هذا الحديث بالدعوة إلى انتهاج نفس المنهج النبويِّ في الدعوة، وفي الحياة، وفي العيش، وفي فَهْم المقاصد التي قصدها القرآنُ الكريم، فقد كان النبِيُّ المصطفى – ومثلما قالت السيِّدة عائشة -: “قرآنًا يَمْشي على الأرض”.
ولأنَّ منهاج الرسول الكريم – عليه الصَّلاة والسَّلام – كان منهاجًا وسَطًا، وهو يدعو إلى الله؛ فإنِّي أدعو نفسي وغيري مِمَّن ينتسبون إلى الإسلام أن ينتهجوا نفس منهجه – صلَّى الله عليه وسلَّم – فهو المنهاج الوسط، لدعوة وسط، لدينٍ وسط، لأمَّة وسط، وعلينا جميعًا أن نَحْرص على أن نكون مُخْلصين لله وللدَّعوة إليه، متجرِّدين عن الْهَوى ومُغالَبةِ الآخرين، أو الحصول على مغانِمَ دُنْيويَّة، فتكون الدَّعوة خالصةً لله وحده، ومتابعة الرسول الكريم – عليه أفضل الصَّلاة وأزكى التَّسليم – وأختم بقول الله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ (الكهف:110).
المصدر : شبكة الألوكة