آثار المآسي تتعاظم كلما تتقادم.. عبارة أكدتها وقائع التاريخ القديم والحديث، ودللت على صحتها الذكرى الثانية لمذبحة “رابعة “، الأبشع في التاريخ الحديث.
كانت الذكرى الثانية أكثر من الأولى، زخماً ووعياً بخطورة الواقعة، بما أدى التفاف المزيد من المصريين حولها، وبقدر ما كانت المذبحة نفسها صادمة وفارقة، بشكل دفع الملايين للانتقال من مربع حياء الحياد إلى خانة الجهر بالرفض والمعارضة لكل ما تلا 3 يوليو، كانت الذكرى الأولى حاشدة، وكانت الذكرى الثانية التي مرت مؤخراً جامعة قاطعة.
في الذكرى الثانية، لم تتخلف حركة ثورية – حقيقية – عن المشاركة الرافضة لكل أشكال القهر التي خلفتها حركة 3 يوليو، ولم تترك الذكرى الثانية شخصية ثورية حقيقية إلا ودفعتها للتعبير عن مرارة ما تشعر به من ألم فادح، وسعي كادح، للتصدي للنظام القمعي.
محاولة السلطة لطمس ملامح الجريمة، كلها باءت بالفشل، بل وواجهها الشعب بسخريته اللاذعة المعروفة، بداية بتغيير اسم ميدان “رابعة” إلى “هشام بركات”، النائب العام الذي جرى اغتياله يوليو الماضي، ومروراً بالتحذيرات الكاذبة لهيئة الأرصاد المنذرة للجمهور بحدوث ارتفاع غير مسبوق في درجات الحرارة والرطوبة يوم 14 أغسطس، وانتهاء بالفتاوى الرسمية والسلفية المجرّمة للمشاركة في التظاهرات.
وبشهادة المراقبين، شهدت ذكرى مذبحة رابعة حشداً معنوياً ناجحاً، فمنظمة “هيومن رايتس ووتش” أصدرت بياناً أدانت فيه عبدالفتاح السيسي ونظامه وطالبت بمحاكمته، وذكرت صحيفة “الجارديان” وإذاعة “BBC” البريطانيتان أن هناك احتمالاً للقبض على السيسي لو زار بريطاني.
وبحسب تقرير في صحيفة “الجارديان”، أعده جوليان بورجر، فإن محامين حقوقيين يؤكدون أن مسؤولين بارزين مصريين يواجهون احتمال الاعتقال في بريطانيا لعلاقتهم بـ”جرائم ضد الإنسانية”.
ويقول تقرير الصحيفة: إن رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون دعا الرئيس المصري لزيارة بريطانيا الشهر الماضي، لكن السيسي أرجأ الزيارة خشية اعتقاله أو اعتقال أفراد آخرين في نظامه إذا سعى محامون حقوقيون لاستصدار أوامر اعتقال بحقهم من محاكم بريطانية.
ونقلت الصحيفة عن توبي كادمان، وهو محامٍ متخصص في جرائم الحرب، قوله: إذا جاؤوا إلى بريطانيا، سنبذل كل ما في وسعنا لضمان اعتقالهم.
وقال كادمان: إنه يعتقد أن الحكومة المصرية قلقة بسبب إلقاء القبض على جنرال من رواندا في يونيو الماضي داخل بريطانيا بعد اتهامه في إسبانيا بالتورط في جرائم حرب.
تحولات جذرية
المثير أن ذكرى هذه السنة شهدت تأكيد معظم المختلفين مع الإخوان فكرياً وأيديولوجياً أنها “مذبحة” بكل صراحة ووضوح.
فبوستر “الثوريون الاشتراكيون” الذي نشروه بكثافة على مواقع الإنترنت في ذكرى المذبحة، كان قاطعاً في مدلوله وحمل شعاره: “لا نسيان ولا تسامح”.
أما حركة “6 أبريل”، فقد أطلقت هاشتاج “اتكلم عن رابعة” إيماناً منها – وفق بيان الحركة – بأن المبادئ لا تتجزأ، وأن الحفاظ على الكرامة الإنسانية من أهم مبادئ ثورة 25 يناير العظيمة وبرغم اختلافنا مع المطالب السياسية للاعتصام، فإننا لا نستطيع أن ننكر أن ما حدث أثناء فض اعتصامي رابعة والنهضة يعد مذبحة إنسانية بكل المقاييس.. مذبحة لا يستطيع أن ينكرها إلا معدومو الإنسانية والضمير والمبادئ.
وأضاف البيان: إحياء لذكرى الضحايا ندعوكم للتدوين عن ذكرى المذبحة، دعوة منا لكل من كان له ذكريات عن يوم فض الاعتصام، ذكريات مع الشهداء والمعتقلين, لتظل ذكراهم دائمة إلى أن يشاء الله بالقصاص، إنها دعوة لتوثيق ما حدث للتاريخ، حتى لا يزيفه هذا النظام القاتل وأبواقه الإعلامية.
الحقوقي بالمنظمة المصرية لحقوق الإنسان شريف عازر، قال في تدوينات له على صفحته الشخصية بموقع “تويتر”: إنه كانت هناك بدائل لو أرادت السلطة فض اعتصام رابعة بشكل أقل عنفاً، وذلك عبر حصار كامل لمدة أسبوع مع فتح ممرات آمنة من جميع الاتجاهات لمدة أسبوع كامل وفض الاعتصام أثناء إجازة عيد الفطر لما كان الاعتصام شبه فارغ تماماً.
وتقول الناشطة غادة نجيب من حركة “6 أبريل”: من أدان المذبحة في وقتها كان واعياً بأنها مذبحة ضد الوطن والثورة، ولما دافع عن الشهداء كان يدافع عن الثورة وقيمها ومبادئها لا لمجرد تعاطف أو مثالية أو إنسانية إنما دفاع عن القيمة وإعلاء للمبادئ الثورية نفسها.
وأضافت ساخرة: أما بقى الثائر “الكيوت” القائل بأنه متعاطف مع المذبحة فعليه أن “يركن” (يصطف) جنب أخيه القائل: “أنا مختلف مع الإخوان لكني ضد استباحة دمائهم”؛ لأنها أصبحت ديباجة سخيفة، وكأن المصاب ليس مصابه هو شخصياً كثوري منتمٍ لثورة يناير.
أما المفكر اليساري تامر وجيه فيتساءل مستنكراً: كيف نجح قاتل واحد أن يجعل قتلاه يتنابذون فيما بينهم ويتنافس أغلبهم على كسب رضاه على حساب الآخرين؟ هذه هي قصة ثورتنا المغدورة، هذه هي علة مذابحنا الوحشية، ولن ترجح كفة العدل في الميزان إلا إذا حوسب القاتل، وامتلكت الثورة مصيرها بيديها، على حساب كل المتعلقين بحبال العسكر، ودعاة المواءمات بين الثورة والثورة المضادة.
ويقول الباحث علاء بيومي، المحكوم عليه غيابياً بالسجن عشر سنوات في قضية “خلية الماريوت”: إن كل أخطاء الإخوان قبل رابعة ويوم الفض وبعده لا تبرر المذبحة بأي درجة أو شكل من الأشكال، موضحاً أن أي محاولة لتبرير المذبحة هي انزلاق أخلاقي وعار، الأخطاء العادية لا تبرر بعضها، لا تزر وازرة وزر أخرى، فما بالك ليس فقط بمذبحة، ولكن بجريمة ضد الإنسانية.
وأضاف: لم يقم الإخوان بأي سلوك يمكن أن يبرر ولو بقدر ضئيل ما تعرضوا له أو تعرض له أنصارهم من مذابح؟ من يحاول التبرير شخص يعاني من مرض في قلبه ومنطقه ويشارك في الجريمة بتبريرها.
عز الدين دويدار، المخرج الذي قام بالإشراف على عدد من البرامج التي جرى تصويرها في رابعة أثناء الاعتصام، يفسر تلك التحولات الجذرية للحركات السياسية والنشطاء بالقول: الحركات العلمانية الشبابية التي شاركت في الثورة كانت طوال الوقت قبل رابعة وأثنائها تؤيد فض رابعة وتروج الأكاذيب بأنه اعتصام مسلح وتشارك في ترويج ذلك محلياً ودولياً.
وبعد الفض استمرت حالة السكوت والتردد إلى أن قررت السلطة الاتجاه لمعاقبتهم على حسابهم القديم الخاص بيناير لاستكمال “ذبح القطة” للمصريين.
وفي الذكرى الأولى للفض، نزلوا للتظاهر لأول مرة ضد النظام بشعارات العدالة الاجتماعية وقانون التظاهر، ورغم أن شباب الإخوان استوعبوا ذلك ونزلوا معهم رافعين شعارات رابعة بصمت، فإن الحركات العلمانية رفضت بشدة رفع شعار رابعة أو ذكرها باعتبارها شعاراً سياسياً.
وبتطور القمع والحصار حدث أنه في الذكرى الثانية لمجزرة فض رابعة، أطلقت الحركات العلمانية الشبابية لأول مرة “هاشتاجاً” للتضامن مع رابعة ونشرت تصميمات وصوراً تخلد شهداء رابعة.
ويتوقع دويدار أنه من الطبيعي بعد فترة أن يتحول الجميع ليرفع شعار رابعة كشعار إنساني معبر عن ضمير الثورة، ومن البديهي أننا يوم الثورة الحقيقية القادمة، سينزل الجميع بشعار رابعة، وسيكون مستغرباً جداً إنكاره أو رفضه أو تجاهله.