“لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم”.. قالها يوماً حكيم العرب، ومفهوم السراة له تجلياته وتجسداته عبر العصور، وكذلك مفهوم المنابر التي يعتليها السراة القادة السادة المعلمون منذ قال الفرزدق:
إذا ما أعرنا سيداً من قبيلة ذرا منبر صلى علينا وسلما
الاستحواذ على المنابر، بأي طريقة من طرق الاستحواذ، يقتضي من المستحوذين أن يعطوا المنابر حقها، عملاً بالأثر عن رسول الله صلى الله وسلم عليه: “ما بال أقوام لا يعلمون جيرانهم، ولا يفقهونهم، ولا يفطنونهم، ولا يأمرونهم، ولا ينهونهم، وما لأقوام لا يتعلمون من جيرانهم، ولا يتفقهون، ولا يتفطنون، والذي نفسي بيده ليعلمن جيرانهم، وليفقهنهم، وليفطننهم، وليأمرنهم، ولينهونهم، وليتعلمن قوم من جيرانهم، وليتفقهن، وليتفطنن، أو لأعاجلنهم بالعقوبة في دار الدنيا”.
في واقع سوري شديد التعقيد، متداخل الحلقات، يقف كثير من ملتمسي المعرفة، المتطلعين إلى الفهم، مطالبين بحقهم باحترام هؤلاء الذين أمسكوا بقرارهم، وسبقوهم إلى أمرهم، ثم تركوهم يواجهون طلاسم الواقع ومعمياته، دون أن يتصدقوا عليهم ولو بقليل من الشرح والتعليم والتعليل، بل كان شأن هؤلاء السادة القادة وما زال ونحن في القرن الحادي والعشرين شأن الفرزدق في القرن السادس أو السابع عندما قال:
ترى الناس إذا سرنا يسيرون خلفنا وإن نحن أومأنا إلى الناس وقّفوا
يريد شداة الحقيقة اليوم، أثارة من علم، بعض الشرح والتفصيل والتعليل، وبعض التطمينات على مستقبل يلفه الدم والدمار، ولكنهم لا يكادون يسمعون أو يرون، وكأن لسان الحال يقال لهم: أنتم لا تستحقون.
في مخاض معمي تم فيما يسمى “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة”، تابع السوريون وسط الضباب قوماً يدخلون وقوماً يخرجون، قوماً يصعدون وقوماً ينزلون، ولم يتلقوا أي تفسير أو شرح أو تعليل، الناس تعلم أن مؤسسة “لائتلاف” قد تم تجاوزها، والقفز عليها دولياً وإقليمياً، وهي لم تكن من قبل في عين الرضا من الكثير من السوريين، ولكن حجم التغيير وتوجهات الريح فيه، لا بد أنه يثير الريبة والشك والتساؤل، ولكي يطرد المدافعون عما جرى شياطين ما فوق الوسادة من فوق رؤوس المدافعين، المرجو منهم أن يتنازلوا قليلاً ليشرحوا لمن “دونهم” ماذا جرى، خارج إطار منطق – وجودي الشخصي ضمانة – لأننا تعودنا أن نسمع بعد أن يزول هذا الوجود بدعوات الويل والثبور.
في عالم الناس اليوم، والكلام عن سوريين مضحين مخلصين صادقين، تساؤلات كثيرة عن وقائع تجري على الأرض، تساؤلات لا يجاب عليها إلا على منبر أو عن منبر، تساؤلات شرعية محضة وأخرى سياسية وثالثة فكرية، ولكن الذين صادروا المنابر إما مشغولون أو متشاغلون أو غير مؤهلين.
حجم الأسئلة التي طرحت بعد تفجير أطمة، وصدقية أصحابها وجديتهم، تشعرك إن كنت مهتماً بالفزع، في موج متلاطم من كلام الفاتنين المشككين، أقسى سؤال تتلقاه من شباب يسألونك: هل حقاً نستطيع أن نعتبر ضحايا تفجير أطمة شهداء وأن نحتسبهم عند الله؟ أو أن تسمع سؤالاً: ما حكم الانخراط في صفوف “درع الفرات”؟ ما حقيقة هذا الاصطفاف المريب، الذي ينحي الأسد عن البوصلة، ويقدم زيداً أو عمراً بديلاً عنه (أنا هنا أنقل ولا أسأل)؟ ولتحديد مناطات المسؤولية في عنق أصحابها لأقوام يديرون ظهورهم للمشهد، ويرجمون ليل نهار الذين يقاربونه بمعروف ندعو أصحاب المنابر للتعليم والتبيين والتوضيح، والقرب من الناس واستماع هواجسهم ووسواسهم محقين كانوا أو مبطلين، مصيبين كانوا أو مخطئين.
في بعض حالات تضخم الذات، يظن بعض من يخاطب شعباً مستضعفاً، أو يتحدث باسم ثورة يتواطأ العالم عليها، نفسه الناطق باسم البيت الأبيض، فيرمي للناس بضع كلمات: نؤيد.. نعارض.. ندعم.. نعد, وآمين فرغ الدعاء.
وينسى هذا وذاك أن وراء بابه الآلاف من أوساط الناس الذين ينتظرون قبل أن يرمي إليهم برأيه أسطراً طويلة من الشرح والتفصيل والتعليل ثم من التعقيب والتسويغ.
نعم نتمنى على عباقرة السياسة أن يعلمونا مما علمهم الله، وأن يفيضوا علينا من الماء ومما رزقهم الله.
ولو خطوة خطوة وعلى قدر عقولنا لكي لا يبهرونا فيفتوننا “ولا تجد رجلاً محدثاً قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة عليهم”.