يأبى السيد الملازم سامي شرف، سكرتير البكباشي جمال عبدالناصر؛ إلا أن يقدم نفسه بوصفه انقلابياً عريقاً ووريثاً للناصرية ومهيمناً عليها، في وجود آخرين أكثر منه تعصُّباً لها، ويعدون أنفسهم أصحابَ الحقّ الأزلي في التحدث باسمها والتعبير عنها، ولأن السيد الملازم كان قريباً من البكباشي في صحوه ومنامه فلا بأس أن يكون صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في الحقبة الناصرية من الحكم العسكري.
هذا الأمر لا يعنينا كثيراً، فلكل شخص الحق في اعتناق ما يشاء من أفكار وآراء طبقاً للدستور، شريطة ألا يسعى لفرض فكره ومعتقده على الآخرين بالقوة أو بوسائل غير قانونية، ولكن الذي يهمّنا الآن أن السيد الملازم يتقرب إلى الانقلاب العسكري الدموي الفاشي رقم 2 باستباحة الإخوان المسلمين وهم في الأسْر لا يستطيعون دفاعاً عن أنفسهم ولا يملكون حق الردّ عليه! وكان من المروءة أن يقف إلى جانبهم وقد تم التنكيل بهم دون رحمة، وغُيِّبُوا خلفَ الأسوار بغير حق، وقُتل منهم ومن غيرهم آلاف الأبرياء؛ جريمتُهم هي الدفاع عن الحرية والكرامة وإرادة الشعب.
لا أدافع عن الإخوان أو موقفهم، فهم أقدر على ذلك حين تتاح لهم الفرصة، لكني أستغربُ أن يقف الملازم مع القمع والانقلاب، وهو يعلم من تجربة ستين عاماً – وقد كان من ضباط الصف الثاني في الانقلاب العسكري الأول – أن الحكم الشمولي من أسوأ أنواع الحكم، ويعود بالبلاد والعباد القهقرى، ويعرّض الأمة لهزائم غير مسبوقة في التاريخ، ويضعها في خانة الضعف والتخلف والهوان، وهو ما عشناه ونعيشه بالفعل، ونعانيه في صحونا ونومنا، كان يفترض أن يعلم الملازم سامي شرف – بعد التجارب المريرة لدولة العسكر طوال ستين عاماً – أن الحرية هي الدواء الشافي لأمراض الأمة، وأن الإسلام هو رافعتها القوية في بناء المستقبل.. ولكن السيد الملازم ما زال مصراً على العيش في سياق النصر والتقدم بالأغاني والأهازيج من عيّنة: “جماهير الشعب تدق الكعب تقول: كلنا صاحيين!”, “ريّسْنا ملاّح ومعدّينا”، و”تفُوتْ على الصحرا تخضر..” إلخ، ولم يعلم بعْد أن العدو النازي اليهودي وعدد سكانه مثل حي شبرا يملك سلاحاً نووياً وقاعدة صناعية وزراعية وتقنية قوية، وحصل على 13 “نوبل” في العلوم التطبيقية وجامعاته في التصنيف المتقدم، وما ينفقه على البحث العلمي يعادل ثلاثة أضعاف ما ينفقه العالم العربي كله.. ثم إنه ينتصر دوماً في معاركه العسكرية والسياسية والدبلوماسية، ويكسب أرضاً جديدة في الفضاء الدولي مع مطلع كل يوم.. ليس بالأغاني والأهازيج، ولكن بالحرية والعمل والتخطيط وكرامة أفراده!
يقدم السيد الملازم عريضة مرافعة طويلة جداً على صفحات “الأهرام” الانقلابي (27/ 8/ 2016م) ضد الإخوان المسلمين تبدأ من عام 1948م حتى الانقلاب الثاني يوليو 2013م فيُشَيْطِن أقوالهم وأفعالهم، ويجعلهم ذراعاً للولايات المتحدة في محاربة الشيوعية، وفي المقابل يجعل من البكباشي الذي لم يبدأ خطبة من خطبه باسم الله الرحمن الرحيم؛ شيخاً للإسلام بما فعله في مجال الدعوة الإسلامية بدءاً من بناء مدينة البعوث الإسلامية وإذاعة القرآن الكريم حتى ترجمة معانيه.
يركز سيادة الملازم على انتهازية الإخوان وتطلعهم إلى الحكم وقيامهم بالاغتيالات والإرهاب، ويستعيد ما قالته صحف الخمسينيات والستينيات عن مؤامراتهم وجرائمهم ضد السياسيين والفنانين، ولا ينسى بالطبع أن يهجو سيد قطب، ويشيد بالذين خرجوا علي الجماعة، وفي النهاية يصل إلى نتيجة فاسدة أنهم إرهابيون يجب استئصالهم ولو كانوا يمثلون مع أقاربهم والمتعاطفين معهم نصف المجتمع!
لم يقدم سيادة الملازم جديداً في مرافعته الطويلة جداً، فقد سبقه إليها كثيرون على مدى ستين عاماً، وذهبت المرافعات سدى بدليل أن الشعب اختار الإسلام في الانتخابات النزيهة التي أفرزتها ثورة يناير العظيمة، ولم يثبت أن الإخوان زوّروا التاريخ كما يدعي، فالذين كتبوا تاريخ الحكم العسكري منذ عام 1952م لم يرتدوا عمائم الإسلام ولا الإخوان، ولكنهم كانوا من فكر آخر ربما كان غير متعاطف مع الإسلام، فهناك على سبيل المثال: مايلز كوبلاند، ومصطفى أمين، وجلال الحمامصي، وموسي صبري، ومصطفي شردي، وجمال بدوي، وسعيد عبده، وجلال كشك، بل هناك من شركاء الانقلاب من لم يزوّروا التاريخ: الصاغ خالد محيي الدين، الصاغ عبداللطيف البغدادي، الصاغ كمال الدين حسين, اللواء محمد نجيب, اليوزباشي ثروت عكاشة، وهناك مثلهم من الشركاء الشيوعيين: سعد زهران، وصلاح عيسى، وفخري لبيب، وشهدي عطية، ولا داعي لذكر كاهن الناصرية الأكبر محمد حسنين هيكل، وهو يتحدث عن زوار الفجر، وما سماه بالسلبيات، والبكباشي ليس أسطورة، ولا إحسان عبدالقدوس الذي كان ينادي البكباشي باسم الدلع “جيمي” وعندما خرج من السجن ناداه باسم سيادة الرئيس، ولن أتحدث عن شهادات حسن دوح، أو عبدالحميد كشك، أو علي جريشة، أو نجيب الكيلاني، أو غيرهم ممن لا تحضرني أسماؤهم الآن، فهل كل هؤلاء زوَّروا التاريخ؟
هناك أمور لا يمكن تزويرها من قبيل أنه استلم أم الدنيا دائنة وتركها مدينة، كانت قبل استيلائه على السلطة نظيفة وفائقة في العلم وتتقدم في الصناعة والزراعة والتعليم والطب، وتركها وهي تتسول الغذاء والدواء والسلاح والقروض، كانت مساحة المملكة المصرية ثلاثة ملايين كيلومتر مربع وتضم السودان وإريتريا وأجزاء من أوغندة فضلاً عن قطاع غزة، فتركها بدون السودان وما حولها وغزة وسيناء، وجاء اليهود الغزاة إلى شط القناة بعد أن هزموا الزعيم البطل الملهم المغوار الذي كان يفخر أنه “مشْ خِرِع زيّ مستر إيدن”!
أسمع من يقول: لولا البكباشي ما تعلمْتَ لأنه جعل التعليم مجانياً، وأقول له: هذا الكلام منقوص؛ لأن الدول المحترمة التي تتقدّم وتحقّق عائداً اقتصادياً ترى في التعليم عائداً لا يقدّر بثمن، وتدفع من الخزانة العامة وليس من جيوب الضباط الحكام، وقد بدأ التعليم المجاني على يد من أطلق مقولة: التعليم يجب أن يكون كالماء والهواء في عهد حكومة الوفد قبل الانقلاب.
إن تقديم الخدمات للشعب كالتعليم والصحة والمواصلات العامة والرعاية الاجتماعية ليس منحة من البكباشي أو غيره من أصحاب الرتب، ولكنه واجبٌ تحتّمه طبيعة السلطة في أي بلد متحضر!
أما ما يقال عن خدمة الدعوة الإسلامية فهو أيضاً يحتاج إلى تمحيص، إذ إنّ نظام البكباشي كان يسعى للتغطية على جرائمه ضد علماء الإسلام وضد الأزهر بقانونه المعيب (103 لسنة 1961)، الذي حول الأزهر من المعهد الأول في العالم الذي يقوم بتخريج أفضل العلماء إلى الوضع الذي لا يحسد عليه الآن، مشروعات البكباشي الإسلامية كانت تجارة سياسية بالإسلام، ويعلم الأستاذ شرف طبيعة الدور الذي قام به زميلاه الملازم عويضة في الأوقاف، والملازم فايق في الدعاية.. تأييد الطغيان جريمة، لكن سيادة الملازم سامي شرف يرى غير ذلك.
الله مولانا، اللهم فرج كرب المظلومين، اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم!