ضجة كبيرة شهدتها ليبيا مؤخراً عندما تم الكشف عن تنسيق عسكري بين مليشيات الجنرال خليفة حفتر المسيطرة على مساحات كبيرة من الشرق الليبي وبين مليشيات تنظيم “داعش” في بنغازي، يسمح لمسلحي التنظيم بالخروج الآمن من بعض أحياء بنغازي باتجاه منطقة الوسط الليبي، بكامل سلاحهم وعتادهم وأسرهم.
وقد تم الكشف عن الاتفاق بالتصوير الحي لبعض مشاهده وباعترافات بعض قيادات حفتر، حيث تسببت الواقعة في أزمة كبيرة وتراشق بالاتهامات عبر صفحات الإنترنت، على الرغم من أن تلك الواقعة ليست الأولى التي يحدث فيها هذا التنسيق العسكري، فقد سبقها تنسيق آخر العام الماضي في مدينة درنة بالشرق الليبي، حيث كان ثوار ليبيون يواجهون “داعش” في معارك دموية في الوقت الذي كانت فيه قوات حفتر تتحرش بمقاتلي الثوار لإضعافهم وتحاول اقتحام المدينة من الطرف الآخر، حتى تمكن الثوار من سحق مليشيات “داعش” وإلحاق هزيمة كاملة بهم، ففتحت قوات حفتر طريقاً لفلول “داعش” للخروج من درنة باتجاه مدينة سرت في وسط ليبيا، حيث تبلورت هناك إمارة كاملة لتنظيم “داعش” واستحكمت قدراتها العسكرية حتى سببت هلعاً كبيراً للمجتمع الدولي.
وكانت قوات “داعش” بمركباتها وسلاحها تتحرك في طريق مكشوف عبر الصحراء لمسافة تقرب من 800 كيلومتر، دون أن تتعرض لها أي طائرة حربية من التي يملكها حفتر ويغير بها على كل خصومه شرقاً ووسطاً؛ أي أن قوات “داعش” كانت تتحرك من درنة باتفاق وحماية من حفتر، والمثير أنه بعد طرد مسلحي “داعش” من مدينة درنة، عاقبت قوات حفتر أهالي درنة بفرض حصار عسكري على المدينة كما قصفها الطيران أكثر من مرة قبل أن يتدخل وسطاء لوقف “الفضيحة” .
قوات “داعش” التي خرجت من درنة إلى سرت تم سحقها في سرت من جديد على يد ثوار ليبيا “قوات البنيان المرصوص” بعد معارك كبيرة استمرت قرابة ستة أشهر، ونجح فيها الثوار في تحرير المدينة بدعم محدود وضعيف من الطيران الأمريكي، فاتجهت فلول “داعش” الهاربة من سرت إلى جنوب الوسط الليبي في محاولة للتحوصل من جديد وتشكيل إمارة أخرى، وهو ما تحاول قوات الثوار منعه الآن في منطقة الجفرة وما حولها، في الوقت الذي يحاول حفتر أن يربك الأمور أكثر بالاتفاق مع مسلحي “داعش” بالخروج من بنغازي بضمان سلامتهم لدعم قواتهم التي تحاول التحوصل من جديد، والغريب أن طيران حفتر قام بقصف قوات “البنيان المرصوص” التي هزمت الدواعش في سرت، ودمر طائرة وهي على الأرض كانت تحمل بعض تلك القوات فقتل وأصاب عدة أشخاص، في الوقت الذي لا تظهر طائراته أبداً في مواجهة “داعش” أو ملاحقتها عبر الصحراء الطويلة .
لعبة حفتر في ليبيا هي نسخة من لعبة نوري المالكي في العراق، وهي نفسها لعبة بشار الأسد في سورية، بالاستثمار في “داعش”، والمساعدة على تحوصل بنية تنظيمية مسلحة لهذه المجموعات المتطرفة ومنحها بعض الانتصارات الصغيرة وتوجيهها بخبث شديد لتكون حرباً على الثوار والمعارضين وفزاعة للمجتمع الدولي بوحشيتها الشديدة ثم الظهور بمظهر من يواجه هذا الخطر الداهم نيابة عن العالم! بحيث يتحول غضب المجتمع الدولي عن الدكتاتور الدموي الفاسد إلى التسامح معه أو تأجيل معاقبته لحين الخلاص من الخطر الداعشي الأكبر، أو يسوق الدكتاتور نفسه باعتباره فيلقاً غربياً متقدماً لصد خطر “داعش” عن أوروبا وأمريكا والعالم؛ بما يستدعي دعمه والرهان عليه، غير أن خليفة حفتر لا يملك خبرة الاستخبارات السورية ودهاءها وعراقتها في الإجرام والعلاقات الوثيقة مع المنظمات الإسلامية المتشددة باختلاف أنواعها، “قاعدة”، و”داعش” وغيرهما، طوال 15 سنة، لذلك يبدو ممارسته اللعبة فيه نوع من “الغشومية” والفجاجة التي تكشف اللعبة مبكراً، وتسبب الارتباك والشكوك داخل معسكره، على النحو الذي حدث في واقعة تنسيقه عملية انتقال الدواعش أول أمس من بنغازي إلى مناطق الحرب مع ثوار “البنيان المرصوص” .
خصوصية التجربة الليبية تكمن في أن ثورتها نجحت في تشكيل حكومة ثورة حقيقية، كما امتلكت السلطة بعد انتصار الثورة وهزيمة القذافي امتلاكاً كاملاً وأشرفت على القوة العسكرية والأمنية معاً، وشهدت تجربة ديمقراطية قصيرة صاحبها رخاء اقتصادي مشهود، قبل أن تحدث تدخلات إقليمية أحدثت الصدع والشقاق بين الليبيين، لكن قوة ما تملكه الثورة وترسخه صعب عملية اختطافها، أو توليد نسخة جديدة من القذافي ممثلة في رفيقه السابق خليفة حفتر الذي رقى نفسه خلال 5 سنوات من عقيد إلى مشير، غير أنه – بدعم إقليمي كبير – يمثل حجر عثرة أمام التحول الديمقراطي في ليبيا، فهو يرفض أي تسوية سياسية تسمح بعودة الديمقراطية أو التوافق الوطني أو انتخابات جديدة، بدعوى أنه مفوض من الشعب بمحاربة الإرهاب، وعندما ينتهي من حربه على الإرهاب ينظر في الأمور الأخرى، وهو لا يحارب إرهاباً أبداً، بل يتحالف معه، وعندما كان الثوار يواجهون الإرهاب و”داعش” في حرب دامية في سرت كان هو مشغولاً بتحريك مليشياته للسيطرة على مناطق النفط وموانئه، هو فقط يريد أن يكون “شوكة” تعطل كل شيء، وتوقف حال ليبيا ومصالح شعبها، لإرغامهم على القبول به حاكماً وحيداً، كما يظل وجوده مقلقاً للجميع ومعطلاً للسلام والمصالحة الوطنية .
المصدر: جريدة “المصريون”.