تمر الأمة – منذ فترة ليست قليلة – بمخاض عسير، وملاحم دامية، وأحداث جسام، وتداعيات لها أثرها الخطير، على واقعنا في كثير من شُعب الحياة، وما الأحداث في العراق، وكذا أحداث ما عرف اصطلاحاً بـ«الربيع العربي»، إلا صورة من صور هذه المأساة، ومثلها لو ذهبت لما وقع من قبل ذلك، للمسلمين في فلسطين، وما زال مستمراً، وما كان في حماة، وفي سجن تدمر، وفي مصر، وفي سجون الطغاة من أمثال «القذافي»، وفي الشيشان، وفي الفلبين، وفي البوسنة والهرسك، وبلاد البلقان عامة، وما كان من أحداث كبيرة في حرب الخليج الأولى والثانية، وما يحدث الآن في سورية والعراق واليمن وليبيا ومصر وبنجلاديش وأفريقيا الوسطى وبورما.
حقاً هذه الأحداث، يشيب لهولها الولدان، وتقشعر من فظائعها الأبدان، ويتحرك لكوارثها وجدان من لا وجدان له.. الخلاصة: إنها أحداث كبيرة، تجعل الحليم حيران.
وهذا بطبيعة الحال يدفع الناس أن يفكروا في المخرج من هذا الواقع الأليم، وأن يبحثوا عن سبل الخلاص من هذا الواقع المحزن، وهذا أمر مشروع، بل مطلوب من كل الجهات، وسائر الجوانب.
لكن الإشكالية التي تبرز بشكل واضح، وصورة ظاهرة، أن يقوم قسم من الأفاضل باللجوء إلى أحاديث الفتن، وآخر الزمان، لعلهم يجدون في هذه الأحاديث بغيتهم في حل ما، وهذا الأمر له وعليه، كما سنبين ذلك بعد قليل.
وتبقى المعضلة الكبرى في حصر الأمر بهذا النوع من الاشتغال، دون النظر إلى فقه العمل في سائر مراتبه، بما يغطي حاجة التحدي، تلبية لمستلزمات المرحلة للخروج من مأزق الخطر.
وكُتبت في هذا كتب، وسُطرت أسفار، ونُسجت مقالات، وعُقدت ندوات، وأُلقيت خطب، وصُرفت أموال، وكلنا يذكر أيام حرب الخليج الثانية، وكيف أن هذا التيار كان ناشطاً، وصار مؤثراً بشكل واضح، ومثيراً للجدل بصورة لافتة، ودخل هؤلاء في تحميل النصوص ما لا تحتمل، ودخلنا في دوامة لها أول وليس لها آخر، جراء نوع من الطرح في هذا الموضوع، خصوصاً في ميدان إسقاط النصوص على أشخاص أو وقائع أو أحداث، والذي يراجع أدبيات تلك المرحلة في هذا الشأن يجد العجب العجاب، مع جدل ومراء، وقيل وقال، وكثير منها دخل في عالم ما كان ينبغي أن يدخل فيه.
وهذا الأمر له مخاطره من الناحية السياسية، وكذا من الناحية الدينية؛ أما من الناحية الدينية؛ فهي إدخال النصوص الشرعية في إطار المحتمل، وهذا لا إشكال فيه، ولكن الإشكال يكمن في جزم هذا الفاضل أو ذاك العالم الجليل بأن معنى الحديث الذي في صحيح البخاري ومسلم – مثلاً – إنما المقصود فيه الرئيس الفلاني، أو الملك العلاني، أو السلطان الذي يذكره، أو الشخص الذي يعينه، فإذا مات، سيكون كذا وكذا، فيموت ذلك الذي أشار إليه فلا يتغير شيء، وتمضي الأيام بله السنون، والناس تراجع هذه الإسقاطات الكثيرة للنصوص الشرعية، فنرى ما لا تُحمد عقباه، وهذا يدخل الناس في دائرة غير محمودة، في مجال الدين والإيمان، وربما فتن بعضهم ودخل في عالم الإنكار لهذه النصوص، أو السخرية منها، وهذا خطر جسيم وخلل كبير.
ومن ناحية السياسة الشرعية؛ نحن مطالبون في الأخذ بعالم السبب، واستثمار الجهد البشري في عالم المواجهة، فنخطط ونرتب، ونعد ونجهز، وندرب ونتهيأ، ونعمل ونثابر، ونبذل الجهد، ونقرأ الماضي، ونفقه الواقع، ونستشرف المستقبل، ونجتهد ما استطعنا إعداداً للقوة.
مع عمق صلة بالله تعالى، وخشية له، وذكره، وعبادته وطاعته، تحلياً بالفضائل، وتخلياً عن الرذائل، فيصبح المسلم بين الجهد البشري والتوفيق الإلهي، وبهذا يتكامل الأمر، ويكون النصر من الله، ويتحقق النجاح على أيدي عباد الله الصالحين.
روى أحمد (12902)، والبخاري في «الأدب المفرد» (479)، وعبد بن حميد في «مسنده» (1216)، والبزار في «مسنده» (7408)، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا»، ولفظ أحمد: «إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ، وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا» (صححه الألباني).
فإذا اختل هذا الميزان، نكون قد انحرفنا عن المنهج الرباني، الذي يجب ألا نفارقه، ففي مفارقتنا له تكون مشكلة، قد يصعب علاجها في واجب الوقت وفرض الساعة، وذلك بسبب تفويت الواجب والانزياح عنه إلى مربع آخر.
فلا نرى تعارضاً بين إيماننا بهذه النصوص الثابتة، وأنها حق لا مرية فيه، والعمل الدؤوب، والنشاط الذي لا ينقطع جهاداً في سبيل الله تعالى في كل دوائره ومربعاته، بلغة متوازنة، ضمن خريطة فهم سليم، وفقه محقق دقيق، يقودنا إلى منهج مستكمل الجوانب، بعيداً عن التصورات العوراء والبرامج الكسيحة.
من هنا نرى صفحات السيرة النبوية، وكذا نجد هذا في سيرة الخلفاء الراشدين، في تحقيق هذا التوازن الذي يمضي في عالم النجاح وفي دروب النصر.
مصيبة الجبرية والانتظار
وأكبر مصيبة تواجهنا في عوالم العمل هذا الاختلال في مكافأة المواجهة، بما هو مطلوب، فيقع الناس في لغة «الجبرية»، فنسلم ولا نفعل شيئاً، لأنه ليس لنا من الأمر شيء، ونحن كريشة في مهب الريح، وهذا خطأ فاحش.
أو أن نقع في أسار فقه «الانتظار» الذي يجعل المسلم ينتظر وقوع هذه الخوارق، ويترك كل واجب عليه في مساحات العمل، وتكون خلاصة القضية وإن بلسان الحال: لا داعي للحركة، ولا أهمية للعمل المطلوب، فالتغيير قادم بلغة أخرى، ولا ضرورة للإعداد؛ لأن القادم فوق جهد البشر، فستغلب كل هذه القوى، وتنكسر هذه الموجات العاتية، وتتحطم هذه الجيوش الغازية، وتذوب هذه المكائد العاوية، ومن ثم نقع في فخ التواكل الذي ما دخلت ثقافته على جزء من حياتنا إلا عطلته وفتكت به.
ولا أستبعد أن يكون هناك طرف ثالث، ينفخ في أيقونة هذا الموضوع، ويبذل الوقت والمال والإعلام ليشغل الناس بهذا الأمر، خصوصاً إذا خلطوا الصحيح بالضعيف بالموضوع، أو في الخرافة أو الروايات الإسرائيلية التي تجعل المسلم يلج باباً لا يرقى إلى مستوى التحدي.
ومعروف دور الفرق الضالة، وأثر الشخصيات البدعية في هذا الموضوع، حتى صار أمثال هؤلاء أذناباً للاستعمار، وأصبح زعيمهم يقول: أنا المهدي وبريطانيا سيفي؛ إمعاناً في التخلي عن وسائل المواجهة التي تزرع العزة في هذه الأمة.
قواعد كلية
لذا سوف أخلص إلى قواعد كلية، للتعامل مع هذه المسألة، بحيث نحقق لغة التوازن، فلا إفراط، ولا تفريط، وأهم هذه القواعد ما يأتي:
1- الإيمان الراسخ بكل ما ورد صحيحاً ثابتاً، عن نبينا ورسولنا صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، ولا يجوز إنكار شيء ثابت في هذا الموضوع.
2- علينا أن ندرس هذه الأحاديث، ونعلمها أجيالنا، ونتقرب إلى الله تعالى بحفظها وتعلم معانيها، وهي مدونة في أسفار السُّنة وكتب الحديث.
من هنا نرى فساد رأي منكريها، بحجة أنها أشاعت فقهاً تواكلياً، أو تحت أي ذريعة أخرى، وبوجيز العبارة نقول: ننكر الفهم التواكلي، ولا ننكر النصوص الثابتة.
3- نبذ كل حديث ضعيف أو موضوع أو قصص مخترعة تتعلق بمسألة الفتن، وأحداث آخر الزمان، ذلك لأنها من أمر الغيب الذي لا يعرف إلا بوحي من الله تعالى، وقد انقطع الوحي بانتقال نبينا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين إلى الرفيق الأعلى.
4- يجب عدم التسرع في إسقاط هذه الأحاديث على وقائع وأشخاص، لما لهذا الاستعجال من آثار سيئة، ونواتج غير مرضية، وينبغي التحري في هذه المسألة بشكل دقيق، ذلك أن هذه الوقائع والبشارات والعلامات لما تقع ستكون ظاهرة جلية، لا يبطلها جور جائر، ولا يلغيها كيد كائد، ولا يوجدها متحمس لها، ومندفع في توليدها، وطالما نعلم يقيناً أنها من أمر الله تعالى فلم العجلة؟ ولم توليداتنا المندفعة، وغير المنضبطة؟! وفي المثل اليمني السائر: «كما ولد سميناه».
5- في السياسة الشرعية علينا أن نواجه كل حدث بما يستحقه في عالم المواجهة والإصلاح، ضمن ترتيب أولويات ورسم خطط، ووضع برامج، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهنا يكون الفارق الواضح بين التوكل والتواكل، والله تعالى تعبدنا بالأخذ بالأسباب، من خلال كفاح لا يعرف الهدوء، وحركية تقاوم الفتور، ووعي يصنع الحبور، ونضال يطاول الجوزاء في قدرته وتفاعله.