يرى معظم الباحثين في مصطلح «الإسلاموفوبيا» ومفهومه أن أحداث سبتمبر 2001م في أمريكا كانت السبب الرئيس لظهور هذا المصطلح في أمريكا والغرب معاً، وكأن الأمريكيين والغربيين من ورائهم قد اتخذوا هذا الشعار – معناه اللغوي: هو الخوف من الإسلام – خطة دفاعية معنوية وإعلامية لتجنيب أنفسهم أخطار الإسلام والمسلمين، من وجهة نظرهم، بحكم أن المتهمين بأحداث سبتمبر 2001م هم من المسلمين فقط، فقد كان المتهمون التسعة عشر من السعودية؛ أي أن أمريكا والغرب هم المتهِمون، والمسلمون هم المتهَمون.
وبالرغم من عدم مشاهدة المسلمين لمحاكمات علنية عادلة تثبت هذه التهم على المسلمين السعوديين، فإن المسألة اعتبرت في حكم المنتهية بالإدانة، التي لم تطل 19 سعودياً فقط، وإنما بإدانة نحو مليار و700 مليون مسلم، أصبحت تطالهم عواقب وعقوبات التهمة في مشارق الأرض ومغاربها، في حلهم وترحالهم، في بلادهم الأصلية وأقلياتهم المهاجرة، بما فيها أمريكا نفسها، لأنهم الطرف الأضعف دنيوياً.
وقد نالت دولة أفغانستان الحظ الأكبر من العقوبة بالاحتلال والقتل والتدمير، وتوالت العقوبات على الأمة الإسلامية حتى جاء قانون «جاستا» لينال من الدول الإسلامية الباقية، ليس لتورطها في أحداث سبتمبر، وإنما لتتحمل جزءاً من العقوبة «الإسلاموفوبية»؛ لأن الغاية تثبيت الانتصار الحضاري، وتمزيق الضحية، وكذلك لفرض توسيع دائرة الاتهام وما يتبعها من احتلال عسكري وسياسي واقتصادي، بعد استسلام الضحية بالكامل، وهذا فرض بالمقابل كيف يواجه المسلمون «الإسلاموفوبيا» ويدفعون عن أنفسهم التهم وأخطار الحرب على الإسلام.
الأصول الفكرية للصراع
إن الأصول الفكرية للصراع بين الغرب والحضارة الإسلامية قديمة، بدأت بمعاداة الكنيسة الأوروبية للإسلام، وممانعتها لنشر الإسلام في تلك البلاد، ثم تزايدت الممانعة إلى حروب عسكرية كان يتولى بابا الفاتيكان بنفسه إعلانها باسم الصليب (الحروب الصليبية) تحت مفهوم «حروب الاسترداد»، بمفهوم إعادة بلاد الشام وبيت المقدس إلى الحكم الروماني المسيحي، وفي نظرهم أن سكان تلك البلاد يخضعون لاحتلال عربي إسلامي، سرعان ما يعودون للمسيحية إذا تم تحريرهم من المحتلين القادمين من الجزيرة العربية، أي أن القراءة الغربية للإسلام هي قراءة خاطئة وعدائية منذ ظهور الإسلام، وأصبحت حروباً صليبية رسمية من الدول الأوروبية من القرن العاشر الميلادي، فكانت القراءة الكنسية الغربية لا تقتنع بأن الإسلام دين إلهي، آمن به الناس بقناعاتهم العقلية ومحبتهم القلبية، وظنوا أن الحروب الصليبية سترد الناس عن الإسلام؛ لأنها ستعطيهم الحرية، ولكنهم وبعد حروب صليبية متوالية غيّرت الدول الغربية عناوين حربها من حرب صليبية إلى حرب حضارية، ولكنها لم تستغنِ عن استخدام السلاح والقوة العسكرية، بل زادت منها ولم تعتمد إلا عليها.
صراع الحضارات و«الإسلاموفوبيا»
بدأت الحرب الحضارية الغربية مع حملات التبشير أولاً، ثم حملات المستشرقين ثانياً، والحروب العالمية التي تحتل البلاد الإسلامية حينما يضعف المسلمون ولم يعودوا قادرين على حماية أنفسهم وبلادهم، فكانت الحرب العالمية الأولى من آخر الحروب الممزوجة بالحروب الصليبية والحضارية، ولذلك عبر جنرال الاحتلال الفرنسي «غورو» عن تلك المعاني عند قبر صلاح الدين الأيوبي عند احتلالهم لدمشق، بقول: «ها قد عدنا يا صلاح الدين»، فتم القضاء على الدولة العثمانية وتقسيم تركتها السياسية، وتم تجزئة مكونات الأمة الإسلامية إلى كيانات سياسية ذات هويات قومية أو طائفية أو هويات فكرية متنازعة باسم الشيوعية والاشتراكية واليسارية والدينية والطائفية وغيرها، ودام ذلك قرابة نصف قرن، ذاقت فيها الأمة الإسلامية ويلات العذاب من الأنظمة الانقلابية العسكرية والدكتاتورية، قبل أن تعود إلى تجديد هويتها الفكرية والإسلامية، وتقديم مشروعها السياسي الذي يتفاعل مع الواقع المجزأ والضعيف، ولكنه يعمل إلى إصلاحه تدريجياً بوعي فكري وسياسي لا يصادم الواقع ولا يخرج عنه.
هذه الحركة التجديدية تزامنت في كل دول العالم الإسلامي، ومع كل القوميات الإسلامية العربية والتركية والإيرانية والهندية والباكستانية والماليزية وغيرها، وأطلق عليها الغرب في البداية «الصحوة الإسلامية»، وكانت في مطلع العقد الثامن من القرن العشرين الماضي، ثم أطلق عليها الغرب نفسه «الحركة الأصولية»؛ لأن المسلمين أخذوا يعودون إلى أصولهم الدينية والقومية، وهذا بقدر ما هو عودة طبيعية للمسلمين إلى دينهم وهوياتهم القومية التي يحترمونها، ويغادرون من خلالها كل الهويات التي حاول الاستعمار العسكري والسياسي فرضها كهوية بديلة، ولذلك وصفها الغرب أيضاً في مطلع تسعينيات القرن الماضي بحركات «الإسلام السياسي»، وهو يقصد اتهامها بربط الإسلام بالسياسة، وعبر عن خشيته من هذه العودة الجماهيرية إلى الحياة الإسلامية، وبالأخص أنها لم تتوقف عند حدود الحياة الإسلامية الاجتماعية؛ باسم الحجاب أو ارتياد المساجد أو انتشار الكتاب الإسلامي أو غيرها، ولكنهم تجاوزوا ذلك إلى تأسيس حركات سياسية من عناصر تؤمن بالإسلام هوية حضارية وعقدية وسياسية.
وعندما أخذت الحركات السياسية التي تعبر عن إيمانها بالإسلام رسالة حضارة، وأنه لا يتعارض مع قيم العصر والحداثة، وأنه يتوافق مع الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويؤمن بالحرية والإنسانية والعدالة والاجتماعية والحرية الاقتصادية، ويحترم الحضارات الأخرى ويتحاور معها، تنبه قادة الحضارات الأخرى وبالأخص الحضارة الغربية الرأسمالية سياسياً، والمسيحية واليهودية دينياً وأيديولوجاً أنهم أمام انتشار جديد للإسلام يتجاوز كل الجهود الغربية التي عملت على تشويهه في الماضي، وأن المجتمعات الغربية أصبحت أكثر قبولاً للإسلام والمسلمين بكل حرية ومحبة، وليس فقط المجتمعات الشرقية، التي بدأت تنتخب الحركات الإسلامية السياسية، التي تمثلها في الهوية الحضارية في الانتخابات البلدية والبرلمانية وما دونها أيضاً، مثل الانتخابات في الأوساط المهنية أو الطلابية في الجامعات وغيرها، فبدأت مراكز الترقب الحضاري في الغرب في وضع الخطط لمواجهة المستقبل الإسلامي في الغرب أولاً، ومواجهته في بلاد المسلمين بواسطة الأنظمة الدكتاتورية وغيرها ثانياً.
لقد فزع الغرب من مدى انتشار التجديد الإسلامي الحديث بين أبناء القوميات الغربية، حتى خشيت بعض الدول الغربية أن تصبح مجتمعاتها بعد عقود قليلة ذات هوية إسلامية غالبة، فكان لا بد من وضع الخطط التي تمنع الشعوب الغربية من محبة الإسلام، بل والفزع من قيمه، والخوف من الاقتراب من مساجده، وكراهية منابره ومآذنه، فكانت هذه هي بدايات «الإسلاموفوبيا» الاجتماعي في عقود التسعينيات، ولكنه أصبح «إسلاموفوبيا» منظماً ورسمياً من الحكومات الأمريكية والأوروبية بعد أحداث سبتمبر 2001م، وكان الهدف من افتعال هذه الأحداث الأليمة تبرير تحويل «الإسلاموفوبيا» من مستواه الاجتماعي إلى مستواه السياسي والحكومي بكل درجاته، وما التفجيرات الإرهابية التي تقع في أوروبا في السنوات الأخيرة إلا حلقات متتابعة للمتآمرين على الإسلام والمسلمين، وخطورتها أنها تتم باسم تنظيمات إسلامية، تخبط خبط عشواء في الشرق والغرب، وكان هدفها إنجاح مشروع «الإسلاموفوبيا» فقط.
صناعة الانقسام
بالغت الحكومات الغربية في توظيفها لـ«إلاسلاموفوبيا» في بلادها، وكذلك فإنها تخطئ في اتباع هذه السياسة العمياء، التي يدعمها أحزاب اليمين الأوروبي والأمريكي، فلا يمكن أن يكون الإسلام عدواً للمجتمعات الأوروبية التي احتضنت أبناءه في العقود الماضية، وأمنت لهم سبل العيش الكريم، وخطأ السياسات الأوروبية بتبنيها لـ«الإسلاموفوبيا» أنه يصنع الانقسام والضعف في مجتمعاتها؛ لأن المسلمين اليوم مكون أساسي في كل المجتمعات الغربية، فما من مجتمع غربي إلا وفيه مئات الألوف أو ملايين المسملين الأصليين من أبناء تلك البلاد، أو من أبناء القوميات المسلمة المهاجرة إلى تلك المجتمعات منذ عقود طويلة، وهؤلاء المسلمون يعتبرون أنفسهم مواطنين كاملي الحقوق والواجبات، ويعملون بكل جد وإخلاص لبناء المجتمعات الأوروبية والأمريكية، بينما تعمل الحكومات على تخويف المجتمع منهم، وتكاد تصنع شرخاً اجتماعياً في بلدانها، وللأسف فإن الحكومات الأوروبية تراهن على النجاح فيه من خلال الأكاذيب، أو تسهيل افتعال أعمال إرهابية على أراضيها، تتبناها تنظيمات إرهابية من أقصى الأرض، باسم منظمات إرهابية لا يعرف المسلمون عنها شيئاً، جعلها الإعلام الغربي وحكوماته وصية على الإسلام وأهله، بينما مئات الملايين من المسلمين في الأرض، بل كافتهم يرفضون هذه الأعمال الإرهابية وينددون بها، فلماذا يتحملون مسؤوليتها وكأنهم هم الفاعلون لها، أو مسؤولون عنها، أليس ذلك ظلماً وإجحافاً بحقوق المسلمين في الغرب؟
إن الحكومات الغربية لا تدرك الآن خطورة نشر «الإسلاموفوبيا» في مجتمعاتها، ولا تدرك خطورة أفعالها وآثار ذلك على مواطنيها كافة من جراء اتهام الإسلام بالمسؤولية عن العنف والإرهاب، فالإسلام لم يعد زائراً غريباً في المجتمعات الغربية، وإنما هو مكون طبيعي وأصلي، فهو دين عدل، وعقائد وأفكار وقيم إنسانية ومثالية، لا تستطيع هذه الحكومات نزعها من عقول مواطنيها ولا من قلوبهم، والتزوير والتزييف لا يدوم؛ لأن الصدق يهزم الكذب في النهاية، ولذلك فإن الحكومات الغربية بحاجة إلى وضع سياسات أخرى غير المتبعة الآن.
واجبات وأدوار
إن مواجهة «الإسلاموفوبيا» لا ينبغي أن تتوقف على عقلاء الأمريكيين والأوروبيين، بل ينبغي للمسلمين الأمريكيين والأوروبيين القيام بواجبهم في الدفاع عن أنفسهم أولاً، وعن مستقبل أبنائهم، وذلك بتعريف شعوبهم بحقيقة الإسلام في المعاملة الحسنة والكلمة الطيبة قبل شرح القيم والأفكار والقناعات؛ أي في السلوكيات قبل الحوارات الثقافية، فالمسؤولية التي يتحملها المسلمون الغربيون أكبر من المسؤولية التي يتحملها المسلمون في الدول العربية والتركية والشرقية عموماً، فالمسلمون الغربيون – وليس المسلمون في الغرب – هم أقدر على فهم الرسالة الإعلامية التي يصنعها الإعلام الغربي بلغاتهم، وهم الأقدر على تفنيدها وتكذيبها.
وعندما يقوم المسلمون الغربيون بهذا الواجب فإنهم سيجدون العون والمساندة من كافة المسلمين في الأرض، وبالأخص من المؤسسات التي تعنى بنشر الإسلام بين أقلياتها المسلمة الأوروبية، مثل رئاسة الشؤون الدينية التركية، التي تعمل على التواصل البناء والعلمي والثقافي والحضاري مع المسلمين الأوروبيين الغربيين والشرقيين، ومع المسلمين في الأمريكيتين الشمالية والجنوبية، فتقوم رئاسة الشؤون الدينية التركية بعقد المؤتمرات في تركيا وخارجها لشرح قيم الإسلام النبيلة والمحبة للإنسانية جمعاء، ونبذ الأفكار التي تدعو للعنف والقتل والصراع الحضاري.
صناعة النهضة الأوروبية
لقد كان المسلمون من أوائل المساهمين في بناء الحضارة الأوروبية الحديثة، فعلماء أوروبا في العصور الوسطى، وهي في عصور الظلام الأوروبي، ما كان لهم أن يتحرروا من ظلام التدين الكنسي الخاطئ إلا بالتعرف على الحضارة الإسلامية عبر الأندلس وصقلية، فقاموا بترجمة الكتب الإسلامية من كل الفنون، وفي مقدمتها كتب ابن حزم، وابن رشد، وابن طفيل الأندلسيين وغيرهم.
ولا يكاد علم نظري أو تجريبي نهض بالمجتمعات الأوروبية إلا ويجد مرجعه وكتبه ومدوناته في الحضارة الإسلامية، وهي معروفة للمهتمين بها، وهذه الحال في السابق تتجدد في الحاضر.
فالعقول الإسلامية المهاجرة من ظلم بلدانها وجدت في الغرب قبل عقود من يستقبلها ويستثمرها في نهضة الغرب الحديثة، بسبب علمها وشهاداتها الأكاديمية، فعملت واجتهدت في تقدم المجتمعات الأوروبية والغربية، دون كراهية للمجتمعات الأوروبية الغربية، ودون كراهية لأنماط عيشها، وهذا يتطلب تسليط الأضواء عليها في الغرب قبل الشرق، حتى تتوصل المجتمعات والشعوب الأوروبية إلى أن مستقبل البشرية منوط بحوار الحضارات وليس صدامها، ومنوط بالتقارب الحضاري بين الثقافات والشعوب وليس بالحروب بينها.