في زيارة للشيخ يوسف القرضاوي لباكستان، ألقى محاضرة في منتدى “جماعة الفكر الإسلامي” الذي يستوعب نشاط الطلاب العرب في باكستان، وهذا تلخيص للمحاضرة:
يا شباب الإسلام: أحييكم بتحية الإسلام، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
يا شباب العرب، وأبناء النكبتين: لقد جربنا الأفكار المستوردة طويلاً، فما أغنت عنا من شيء..
جربنا الفكر الغربي في حرب سنة 1948، وكانت الهزيمة التي يندى لها جبين البشرية، وكانت الهزيمة الفكرية، والخواء الذهني، والبلبلة العقدية، ثم جنحنا بفكرنا إلى استيراد الفكر الشرقي الماركسي المادي، واعتمدنا هذا المنهاج فكانت النتيجة -كما رأيتم- من حرب الأيام الستة، والآن -ونحن على مفترق الطرق- لابدَّ لنا من مراجعة رصيدنا الفكري والحضاري، مراجعة الناقد البصير، ونتقدم إلى فكر هذا الدين الأصيل الذي جربته البشرية مرة فسعدت وأسعدت.
ومقومات هذا الدين كمينة فيه، وهو يعطي كنوزه لمن يريدها كلما بذلت محاولة جادة لإحيائه.
مقومات الفكر الإسلامي: وهذا الفكر الذي يمثله الإسلام الذي قُيِّدَ حصانُه الأصيل في معركة سباق الحياة، وأثير ضده الغبار، وقيل: إنه لا يساير متطلبات الحياة، بينما أُطلق العنان: (لحمير الشعارات) تتسكع في مسيرها ما شاء الله لها أن تسير، هذا الفكر يمتاز بمقومات فريدة أهمها:
1 – الأصالة: فهذا الفكر فكر مستقل بذاته ليس تابعاً لغيره، مستقِلٌّ في غاياته، وفي منهجه، مستقِلُّ الوجهة، فهو منهج معصوم مصدره وحي الله تعالى: [لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ] {فصِّلت:42}. هذا المنهج مستقلٌّ يعالج الأمور علاجاً فريداً، لا يتبع أي لون من ألوان التفاسير الأرضية الثقيلة، فيترفع على التفسير المادي للتاريخ، ويشف عن التفسير الجنسي للسلوك، ويشمخ على التفسير الجثماني للمشاعر، فعلامة هذا الفكر هي الأصالة، وليست التبعية، فهو لا يتفق مع التفسيرات الأخرى إلا في جزيئات فرعية.
2 – الشمول: الفكر الإسلامي ليس فكراً جزئياً، بل فكر فيه طبيعة الإسلام نفسه، والإسلام منهج شامل، ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم رسالة عامة خالدة، شملت آماد الزمن، وانتظمت آفاق الأمم:[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] {الأنبياء:107}.
منهج عميق يحاكي اللجج:[ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ] {النحل:89}.
وقد مثل الجيل الأول الفريد حركية هذا الإسلام وشموله تمثيلاً صادقًا ، فهذا عبد الله بن عباس رضي الله عنه واقفاً أمام المرآة يتزين، ويأخذ بعضاً من لحيته، فيقول له نافع مولى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (ما هذا يا ابن عم رسول الله، الناس يضربون لك أكباد الإبل؟) فقال ابن عباس رضي الله عنهما: (إني أجد هذا في كتاب الله تعالى) ثم تلا قوله تعالى:[ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ] {البقرة:228}.
وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول كلمته المشهورة التي وعاها الزمان: (والله لو ضاع مني عقال بعير لوجدته في كتاب الله). بهذه الروح الأصيلة، وهذا الشمول الكريم فهم المسلمون الأوائل هذا الفكر، ولكن علماء المسلمين المعاصرين قد جانبوا الصواب، فكلٌّ منهم يعزف على وتر، وكل منهم يوقع على نغمة، وبذلك تضاءلت فكرة الشمول في نفوس الجيل، وجهلوا عندما جهل علماؤهم أن الإسلام يوازن بين جوانب الحياة جميعاً، ويأخذها مرة واحدة…. فمثل علمائنا كمثل العميان الثلاثة في القصة التي يرويها الإمام الغزالي في إحيائه، جاء أحدهم يتحسَّس الفيل فأمسك بخرطومه فقال: إن هذا الحيوان عبارة عن أسطوانة، وأمسك الآخر سنَّه وقال: إنه وتد، وأمسك الثالث ببطنه، فقال: إنه كالطبل الأجوف، وبهذه الحالة أخذ كل واحد من سنن الإسلام إما سن الإسلام، أو بطنه ، أوساقه، وقالوا: إنه هو الإسلام!!
3– المرونة والحركة: فهذا الفكر هو الحركة بعينها، يمقت الجمود ويكره التقليد:” لا يكن أحدكم إمعة”. بعيداً عن التزمت، حركياً في تصوراته، حركياً في قيمه، وفي المجالات التي يعمل فيها، أليس أرفع مثال لمرونة وحركية هذا الفكر على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: (إذا اجتهد المجتهد وأخطأ فله أجر واحد، وإن أصاب فله أجران).
وإن المذاهب الكثيرة المتعددة في الإسلام كالمعتزلة، والأشاعرة، والسلفية وغيرهم، دليل حيوية على مرونة هذا الفكر وحركيته، فلا تجد فكراً يدعو إلى حرية الخطأ كهذا الفكر الكريم، يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه: (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب).
4 – الثبات: لا عجب أن يجمع هذا الفكر بين المرونة والثبات في آن واحد، فهو منهج الله العليم الذي علم مداخل النفوس، وطبيعة خيرها، وما ينفعها ويصلح لحياتها، ولكنها حركة حول محور ثابت وداخل إطار ثابت.
وهذه الحركة هي شأن كل شيء في الوجود، فالكواكب مثلاً تسير وَفْق ناموس دقيق، حركة محدودة ضمن إطارها وفي نطاق مداراتها، فلو اختلَّت الحركة واصطدم فلكان مثلاً لانهدم هذا الكون. أما أن يريد الناس للفكر أن يتحرك بلا حدود فهذا فساد وخراب، فمثل هذه الحركة وتلك كمثل النهر والسيل الجارف.
فالنهر يسير في مجراه المحدد له، حركة هادئة ضمن إطار ثابت، فيعطي الماء والخير والصلاح، وأما السيل الذي يخرق نواميس الحركة ضمن إطار ثابت فهو مبعث للفساد والدمار والخراب، مع أن طبيعة كل من النهر والسيل واحدة وهي الماء، إلا أن في الأول النفع والخير، وفي السيل الدمار والهلاك.
هذا الفكر مرن في الفروع، ثابت في الأصول والقواعد، ليس فكراً مهتزاً متذبذباً بين شرق وغرب، ولكنه فكر له أصوله، وغاياته وأهدافه. فكر حركي أصيل ثابت مرن، يغيِّر الوسائل والأساليب، والفرعيات، فهو قد وسع المدنيات جميعًا، واستوعب الحضارات أبدًا. فهذا الفتح الإسلامي يسع حضارة الروم، وتقدم فارس، ويحكم المسلمون هذه الأقوام بالعدل ويكونوا [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] {آل عمران:110}.
5 – الإيجابية: والإيجابية من المقومات الأصيلة في هذا الفكر، وأرفع مثل ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الأبرار في صدر الدعوة في الإيجابية الرفيعة، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس في مكة بالحكمة والموعظة الحسنة فتقف قوى الجاهلية في وجهه، فلا يستسلم وإنما يهاجر إلى الطائف فيرد خائبًا.
ومع هذا وذاك، فإن إيجابية هذا الدين فرضت على الداعية الأول أن يعمل بروح الإيجابية، فأخذ صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل حتى رزقه الله بالأوس والخزرج. وهؤلاء العصبة المؤمنة الأولى لم تقعد ولم تستسلم، بل هاجرت الهجرة الأولى إلى الحبشة، والثانية إلى المدينة، ووقفت في وجه التجمع الجاهلي وقفة المؤمن الإيجابي الحركي.
ولم يتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم أرض الحبشة مهداً لانطلاق الدعوة الإسلامية، رغم رحابة الصدر والأمن هناك، ولذلك فكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن اتصل بالأوس والخزرج، بأن تكون المدينة منطلقاً للدعوة ومهداً للعصبة المؤمنة لإقامة التجمع العضوي الحركي الذي كان يعده الرسول صلى الله عليه وسلم القائد لمجابهة التجمع الجاهلي، وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المفروض في الإسلام أن ينشأ في أرض عربية، تتوافر فيها الأصالة والرجولة، ثم ينطلق ليبلغ آماد الدنيا وأقطار الأرض. ومثل آخر من إيجابية هذا الفكر واضح في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه، وجهله من جهله ) وهذا منطلق متَّسع للباحثين عن دواء النفوس وأمراض البشرية، وأوبئة الأمراض، وكما يقول المثل العامي: (كل عقدة لها عند الكريم حلها) وكذلك فإن لكل مشكلة عند الله تعالى حلها، فلا يقف المسلم أبداً موقفاً سلبياً، وذلك لأن الإيجابية من مقومات هذا الدين. ومثل آخر رفيع في إيجابية هذا الفكر، يتمثل في صلاة الحرب، فالصلاة من وسائل الحرب في تقوية الروح وإحياء المعنويات، وهذا مما لا شك فيه.
ومع هذا يقف الإسلام من كيفية الصلاة موقفاً أكثر إيجابية، فهو إذ يقرر أن يصلي جزء من المسلمين خلف الإمام ويبقى الجزء الآخر مستعداً للحراسة والدفاع، يمضي هذا بعد أن يصلي نصف الصلاة مع الإمام، ويأتي الجزء الآخر لإكمال الصلاة وراء نفس الإمام بعد أن يشغل الفريق الأول دور الحراسة العسكرية. وفي هذا عدة دروس إيجابية كريمة، فهو يشير إلى اليقظة الدائمة التي أهملها قادة سلاحنا المعاصرون فكانت الهزيمة. وهو يشير أيضاً إلى الوحدة وتلاحم الصفوف وتماسكها أمام العدو.
ومثال آخر على إيجابية هذا الفكر: ذاك الأعرابي الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم مشيراً إلى ناقته: أأتوكل يا رسول الله؟ فيجيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اعقلها وتوكل). ومثال رفيع يفهم من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يقول بأن المسلم الضعيف هو الذي يحتج بقضاء الله وقدره ولكن المسلم القوي الذي يعتقد أنه هو قضاء الله وقدره. وفي الختام: فإن الفكر الإسلامي بشموله، وأصالته، ومرونته، وإيجابيته، وثباته، هو الفكر الذي يجب أن يسود بعد النكبتين، فهو المنقذ، وهو الطريق القويم. [وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] {آل عمران:101}
المصدر: رابطة العلماء السوريين.