يحزم مسلمو أوروبا حقائبهم صوب المجهول، وستتراجع نساؤهم عن ستر الشعر والبدن. ليس هذا سوى انطباع شكّلته تصريحات أدلت بها شخصية عربية محترمة لصحيفة ألمانية، وتفاعلت تداعياتها المدوية مؤخراً.
فقد تناقلت وسائل إعلام أوروبية تصريحات الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد بن عبدالكريم العيسى لصحيفة “فرانكفورتر ألغماينه” الألمانية (١٠ مايو ٢٠١٧م) التي أوجب فيها على مسلمي أوروبا الانصياع إلى قوانين تمييزية بحقهم، أو الرحيل عن أوروبا إن لم يتمكنوا من ذلك؛ وهو ما يتعلّق بالمسلمات بصفة خاصة كما جاء عنه.
استدركت رابطة العالم الإسلامي الأمر فنشرت “توضيحات” لفحوى ما قصده أمينها العام، فقطعت الشكّ باليقين، وتأكد معها أنّ ما أوردته التغطيات الأوروبية هو ما قصده المسؤول بالفعل، والمغزى هو أنّ عليكم الانصياع أو الرحيل! لم تتراجع “التوضيحات” عن المضامين المنشورة قبلها، رغم أنها انتقدت أشكالاً غير محددة من التناول والاقتباس الصحفي من تلك التصريحات.
يثير هذا الخطاب “الإسلامي” المعروض في فضاء عالمي تساؤلات محيرة. فأي منطق في مطالبة مسلمات أوروبيات بالرحيل عن بلادهن الأوروبية إن رفضن كشف شعورهن مثلاً؟ وهل يُعقَل انبثاق هذه الدعوة عن مؤسسات محترمة بوزن رابطة العالم الإسلامي ومثيلاتها؟
تكشف هذه التصريحات والمواقف ومثيلاتها عن قصور في المعرفة بالنظم الديمقراطية والمبادئ الدستورية والسجالات القيمية، في السياقات الأوروبية والعالمية. فهي تتأسس على خلل في إدراك الحالة الأوروبية وواقع مسلميها، وكأنّ الحديث يدور عن وافدين عابرين أو عمالة مؤقتة تم “استيرادها”.
وفي خطابات تحاول أن تقدِّم نفسها بلغة “إسلامية شرعية”؛ لا يقع الاعتراف بأنّ مسلمي أوروبا هم أوروبيون أيضاً أو أنهم باتوا كذلك على الأقل، وأنهم جزء من واقع أوروبي متنوع. بل ثمة تجاهل فادح لحقائق جلية؛ منها أنّ أجيالا متلاحقة من المسلمين نشأت في بيئات أوروبية لا تعرف غيرها داراً ووطناً، وأنّ أعداداً غفيرة اعتنقت الإسلام دون سابق انتساب إلى بيئات خارجها.
هل هي خطابات “شرعية”؟
ينطوي إقحام أقوال “شرعية” بطريقة ملفّقة ودخيلة على السياقات؛ على تجاوزات مركّبة من شأنها إضعاف المقومات المعنوية للوجود المسلم الهش أساساً، مع توفير مسوغات لمزيد من تضييق الخناق على الالتزام الديني الشاق أساساً في واقع أقليات تواجه تحديات غير مسبوقة.
تتولى هذه المواقف توفير مبررات “شرعية” لن تتوانى مساعي التقييد الديني عن استعمالها لأجل مزيد من التقييد. وهي إذ تطالب المسلمين بالانصياع لثقافة الحظر المستشرية بحقهم؛ فإنها تُذكي بدورها ثقافة الحظر إياها وتفاقمها وتُشرعن فعلها التمييزي بحق المسلمين، فيشتدّ الخطب ويتفاقم المأزق الذي يكتنف المسلمات بصفة خاصة في مواقع التعليم والعمل، وفرص الحضور العام والارتقاء المجتمعي وتحقيق الذات في الحاضر والمستقبل.
لا تتفاعل هذه المواقف والتصريحات و”الفتاوى” في فراغ، فهي ما تُلحّ عليه – منذ زمن – جهات أوروبية تسعى إلى توفير “غطاء إسلامي” أو “شرعية دينية” لقوانين وإجراءات تمييزية الطابع، تتسارع وتيرتها بحق المسلمين عموماً والمسلمات خصوصاً.
فثمة مساعٍ لاستصدار “فتاوى” ومواقف وتصريحات من جهات “إسلامية” في دول عربية لهذا الغرض، ومن يخرجون بمثلها يحظون بطقوس التبجيل بصفتهم فرسان الاعتدال، فيتحررون من وصمة التطرف التي تطارد أوساطاً دينية مسلمة.
إن سعت بعض هذه الجهات لخدمة علاقاتها العامة وتقديم صورة معتدلة عنها في أوروبا والعالم؛ فلا ينبغي لذلك أن يكون على حساب المواقف الشرعية الرصينة والتقديرات المحكمة، أو على نفقة حريات المسلمين وحقوقهم وهويتهم ودينهم بالأحرى.
تنحت هذه الخطابات الجديدة مثالا نموذجيا لمسلم منفصم عن واقعه، مختبئ عن مجتمعه لا يُناقِش ولا يشارك، وقد يتأهب للرحيل إلى المجهول.
وتضع دعوات كهذه المسلمات الأوروبيات تحديدا في مرمى القهر الرمزي وفق ثنائية حتمية مفتعلة بمنطق “إما / أو” الذي لا يفتح آفاقاً، بل يسدّ نوافذ الأمل ويعطِّل خيارات التصرف ويبعث برسائل متشائمة للأجيال المسلمة الجديدة؛ مفادها أنها ليست دياركم ولا هي أوطانكم، وأنّ البقاء فيها مشروط بتقليص التديّن، وأنّ الرضوخ لذلك جائز ولا تثريب عليكم!
لا تتطرّق هذه المواقف “الشرعية” إلى تأثيراتها ومآلاتها، فكيف سينعكس خيار الانصياع للتفرقة مثلاً على الحالة الدينية للأجيال المسلمة المقبلة؟ وما العمل مع خطابات تزعم أنها “شرعية” بينما تعكف على شرعنة التجاوزات، وتحفيز ثقافة الحظر وتشجيع استساغتها والإذعان المجتمعي لها؟
ومع غياب مفهوم السلطة الدينية في الإسلام؛ يجري في أوروبا أحياناً الاحتجاج بمواقف وتصريحات كهذه لتمرير قوانين وإجراءات وأحكام وتوجهات من شأنها القضم من حقوق معينة، لا سيما ما يتعلق بالمسلمات. ولهذه المواقف وزنها في نزاعات قضائية، كما يجري بشأن حقوق مسلمات في العمل أو الدراسة مع ستر الشعر.
وعندما تجود جهات محسوبة على الموقف “الشرعي” الإسلامي بتبريرات تشجع الانصياع؛ فإنها تفتح الشهية لمزيد من التراجع في منسوب الحقوق والحريات، حسب تقاليد المفاوضة المجتمعية في النظم الديمقراطية الغربية، فالأطراف المتجاذبة ترفع سقف مطالبها أساساً لتحصيل مكتسبات معقولة، وتتراجع حظوظها إن خفّضت سقوف مطالبها ابتداء.
والمعضلة أنّ ثقافة الحظر والقوانين والإجراءات التمييزية التي تتخذها سلطات أوروبية بحق المسلمين، تتلازم مع استصدار تصريحات وفتاوى مريبة من جهات “إسلامية” خارج أوروبا تجيز ذلك؛ بل تطالب مسلمي أوروبا بالانصياع لقوانين تقيد الحرية الدينية وإلاّ فلا خيار سوى الرحيل.
وفي التصريحات الأخيرة التي أدلى بها العيسى؛ تأتي رسالة مركزية مفادها أنّ الدولة إن قرّرت ما يكون فما على المسلمين سوى الانصياع. ويغيب استحضار التجارب الأوروبية والغربية والإنسانية عموماً، التي تؤكد أن الانصياع للتفرقة ساعدها على الاستشراء، وأنّ الشجاعة المدنية عرقلت الانتقاص من الحقوق.
لكنّ أصواتاً عربية تتصرف كمن يضع المسلمين والمسلمات على مفترق طرق قسري يستبعد خيار المواطنة الفاعلة التي تفرض اليقظة والإصلاحات الديمقراطية، فتنبري لتقديم بديل تعجيزي أوحد لعدم الانصياع؛ ألا وهو الرحيل الفردي أو الجماعي، في تطابق مع ما يطالب به اليمين المتطرف وينادي به “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش) أيضاً.
إن عجزت مؤسسات إسلامية معتدلة ذات حضور عالمي عن دعم حقوق المسلمين وحرياتهم أو مساعدتهم في تطبيق دينهم، فلا أقل من تحاشي الانزلاق إلى مطالبتهم بمفارقة بلدانهم التي ينتسبون إليها؛ أو التهاون في الالتزام بتعاليم إسلامية معروفة ومقررة.
وتفرض المسؤولية الأدبية على المؤسسات التي تعنى بطوائفها وأقلياتها أن تدعم فرص هذه المكوِّنات ضمن مجتمعاتها وأن تعزز موقفها وتضغط لصالحها، لا أن تضغط عليها وتحاصرها بمواقف ذات مآلات جسيمة عليها؛ أو أن تلتمس الأعذار والتبريرات للتفرقة بحقها.
لم تتأسس المؤسسات الإسلامية العالمية لاشتقاق “فقه الاستضعاف” أو ثقافة الانصياع وخفض الرؤوس؛ بل لتمكين المسلمين من عبور آمِن إلى مستقبل أفضل بروح عصرهم، ووفق تعاليم دينهم، وبتفاعل مع مجتمعاتهم، وانفتاح رشيد على عالمهم. ولا ينبغي للخشية من وصمة التطرف التي تطارد دولاً ومؤسسات وشخصيات على امتداد العالم العربي؛ أن تنحت خطابات التلفيق ومبادرات الاسترضاء وتغليفها بعمائم وشعارات إسلامية.
منطق “الحل النهائي”
يعيش عشرات الملايين من المسلمين في أوطانهم الأوروبية، فبأي منطق يمكن مطالبتهم بالرحيل عنها؟ وأي واقعية في ما ينادي به أولئك المتحدثون الذين يدركون أنّ أوروبا هي مقصد اللاجئين المسلمين الذين ترفض دول مسلمة استقبالهم؟
ينبغي قرع النواقيس إزاء خطاب يتماهى مع نزعة “الحل النهائي للمسألة الإسلامية” في أوروبا. فمعادلة “الرحيل الجبري أو الذوبان القهري” باتت مسموعة حتى من الوسط السياسي في بلدان أوروبية ولم تعد تقتصر على اليمين المتطرف.
أطلقت النازية برنامج “الحل النهائي” لمعالجة ما عُرف في أوروبا بـ”المسألة اليهودية”، فوقع الاقتلاع والترحيل الجماعي والإبادة. وبالتالي ينبغي الاحتراس من تراكم إرهاصات ثقافة ترحيل ناعمة لبعض المسلمين، أو تعزيز إستراتيجيات لهضمهم ثقافياً واحتوائهم معنوياً.
إنّ اللغة المتغطرسة التي تطالب المسلمين بالانصياع للقانون؛ تتوجه لهم دون سواهم، كما يأتي من سياسيين ومتحدثين في سياق حملات انتخابية ومزايدات إعلامية، فكيف لذلك أن يأتي من هيئات مسلمة على هذا النحو؟! ومن قال أساساً إنّ بديل الانصياع هو الرحيل؟
يبقى استحضار خيار الرحيل سابقة جسيمة تغامر بمصالح الوجود المسلم في أوروبا، وتغري بإقصائه وتهميشه وتصنيفه خارج فضاء المواطنة الجامع والهوية الوطنية ككل في أقطار أوروبا.
ولا يسع الموقف الشرعي سوى تمكين المسلمين من حضور إيجابي واثق بالذات ضمن نسيج مجتمعاتهم الأوروبية؛ لا الانعزال عنها أو التهميش الذاتي أو اللجوء إلى الانزواء وطأطأة الرؤوس. وما ينبغي تحفيزه هو جمع أطياف مجتمعية متنوعة على كلمة سواء لحماية القيم والمبادئ، والتصدي لثقافة الشحن والكراهية والتطرف أيا كان مصدرها.
وإذ تقع المطالبة برحيل المسلمين عن أوروبا فإنّ ذكاء المتحدثين يدفعهم للقفز على تحديد وجهة “الرحيل”، فما من أحد سيرحِّب بهذه الأفواج في العالم العربي والإسلامي مشرقاً ومغرباً، سوى “داعش” التي تطلب منهم الرحيل صوب مناطق تسيطر هي عليها، دون قيد أو شرط أو حتى تأشيرة دخول.
خطابات مرتبكة ومتناقضة
لم تكن تلك تصريحات عابرة على الأرجح، فسياقها واضح وملموس مما تدعو له جهات ودول “إسلامية” في منابر عدة حول العالم، إنه سياق خطاب “مكافحة التطرف” الذي يتجاوز أي حديث عن تمكين الأجيال المسلمة الجديدة في أوروبا من تكافؤ الفرص في مجتمعات تعددية ونظم ديمقراطية.
تتناقض هذه الخطابات عندما تنادي بالرضوخ للدساتير الأوروبية التي يتم تصويرها سيفاً مسلولاً فوق الحقوق والحريات، بينما تتجاهل الخطابات ذاتها روح هذه الدساتير ومبادئها والقيم التي تأسست عليها، كما تستنكف عن المطالبة بالامتثال لمقررات حقوقية دولية ذات صلة.
وقد وقع في التصريحات التي أدلى بها أمين رابطة العالم الإسلامي تعظيم “إرادة الدولة” وتضخيم سلطة القانون؛ مع التغاضي عن مفردات جوهرية مثل الديمقراطية والحقوق الأساسية، والمفاوضة المجتمعية وحق الاعتراض السلمي، والتدافع المدني والمشاركة السياسية والمجتمعية، وبناء قدرات المكوِّنات المجتمعية المسلمة.
وهذا كله لأنّ المتحدثين لا ينطلقون من روح الديمقراطية ومفهوم المواطنة، بل من تصوّر عن وافدين ضيوف أو غرباء ينبغي عليهم الرحيل يوماً ما. أما “القانون” في هذا الخطاب فينطوي على مفهوم تقليدي قهري لا تبديل له، يتساوق مع إدراك سلطوي للدولة.
ولا عجب بالتالي أن تغيب في هذا الشأن الإشارة إلى مصطلحات مثل دولة القانون، لأنها تعني ضمناً أنّ الدولة ذاتها بسلطاتها تبقى مقيّدة قانونياً، وأنّ القوانين فيها ليست أحادية الاتجاه بل قابلة للنقد والنقض والتعديل والتحوير، وأنّ حق الاعتراض عليها وخوض التحركات ضدها وتكتيل فئات مجتمعية في مواجهتها مكفول أيضاً.
ولأنّ هذه المواقف والتصريحات لا تقوى أساساً على الاعتراف بالوجود المسلم الأوروبي، بل لعلها تتصوره حفنة مغتربين أو عمالة وافدة أو رعايا أجانب لدول أخرى؛ فإنها لا تكلِّف نفسها عناء التواضع قليلاً ومنح مسلمي أوروبا فرصة التعبير الذاتي عن خياراتهم، بل تتصدى للتقرير عنهم من الخارج، مع انفصال عن الواقع وتجاهل لتفاعلاته.
المصدر: “الجزيرة”.