كانت الهجرة النبوية في الفكر الإنساني ولم تزل علامة على التحول الحضاري في تاريخ أُمَّة لمّا يتجاوز عمرها رُبعَ قرن من الزمان؛ فقد عاش المسلمون الجدد ظروفاً بيئية تفتقر إلى الحرية والأمن والسلامة واحترام حقوق الإنسان وكرامته.. وهي الظروف التي مهَّدَتْ لحالة من الرغبة في التحول إلى بيئة أخرى تتجاوب مع تلك الروح المسلمة الفتية المتطلعة إلى إثبات الوجود الحضاري اللائق بعقيدة التوحيد.
وقد جعلت تلك الرغبة تتطور تدريجياً من مجرد كونها «حالة شعورية» إلى عقيدة وثقافة وفكرة ومشروع حضاري يعكس تطلعات النَّبي والذين آمنوا معه إلى الانعتاق من ذلك المحيط الخانق إلى آفاق أوسع استيعاباً لطموحات ذلك المشروع الجديد وترتيباته الاستخلافية.. ذلك المشروع الذي ما فتئ الوحي يتنزل مشيراً إلى بعض ملامحه وخصائصه ووظائفه وغاياته ومتطلباته، ومُعَرّجاً على القيم الخليقة باحتياجات مرحلة التحول إلى تجسيد هذا المشروع الحضاري حقيقة واقعة في دنيا الناس.
وهكذا كانت الهجرة النبوية الشريفة من مكة إلى يثرب، بالنظر للآثار السياسية والحضارية المترتبة عليها في مختلف البيئات البشرية، كانت قاعدة تأسيس مجتمع وهيكلة دولة وبناء أمة وتشييد حضارة بمواصفات عقدية وأخلاقية واجتماعية وحضارية غير مسبوقة في تميزها الوجودي، فكانت هذه الهجرة أضْخَمَ حدث في حركة التاريخ منذ أن خلق الله الأرض ومَنْ عليها!
ولعل أهمية الهجرة النبوية الشريفة في الاعتبارات الفلسفية للتاريخ، لا تنفي وجود أحداث كبرى أثَّرَت في تاريخ البشرية بطريقة لافتة؛ فثمة أحداث مهمة ومحورية كانت جديرة بالتّأريخ من عندها، مثل: ميلاد النبي، وبعثته، وإسرائه ومعراجه، ووفاته صلى اله عليه وسلم وهو ما كان مجالاً للطرح والمداولة فعلاً بين يدي عمر والأصحاب رضوان الله عليهم أجمعين، قال ابن كثير: «وقال قائلون: أرخوا من مولد رسول الله، وقال آخرون: من مبعثه عليه السلام، وأشار علي بن أبي طالب وآخرون أن يؤرخ من هجرته من مكة إلى المدينة.. فإنه أُظهر من المولد والمبعث، فاستحسن ذلك عمر والصحابة وأرَّخُوا من أول تلك السنة»(1)، وهكذا، كانت الهجرة الحدث المحوري ذا التأثير الأعمق والأوسع ليس في حياة العرب ولا المسلمين فحسب، بل في حياة المجتمعات البشرية، ولذلك لم يكن غريباً أن يتوافق المسلمون على التقويم التاريخي من عندها.
وإنَّ المتأمّل في اتخاذ الهجرة النبوية بداية لتاريخ الأمة وتقويمها، لتتأصّل لديه معان حضارية عميقة ودلالات قيمية خليقة بأهمية وضع منهجية فلسفية للتاريخ من منظور الفكر الإسلامي؛ فنحن إذا تصورنا حياة المسلمين قبل الهجرة إلى يثرب، سنلحظ أنَّ التربية العقدية والتنمية الروحية والأخلاقية كانت من أبرز سمات القرآن المكي وغاياته الوظيفية؛ كذلك سنلحظ أنَّ ذلك النمط التربوي قد توسَّل بتاريخ «أحسن القصص»، قاصداً من وراء ذلك إلى تأسيس خبرة الإنسانية المؤمنة بفنون الحياة والمدنية والتحضر وتعزيز قدرة الأمة الجديدة على مواجهة التحديات ومعالجة القضايا والمشكلات وفق معطيات الخبرة القرآنية وحيثيات السيرة النبوية.
وحين تقررت الهجرة كبداية للمشروع الحضاري الإسلامي، كان المسلمون قد استوعبوا تجارب الحضارات السابقة؛ كيف قامت ونمت وازدهرت وسادت، وكيف تراجعت وتدهورت وأفلت وبادت، كذلك أصبحوا، من حيث الخبرة القرآنية، مستهدين بقيم الحرية واحترام حقوق الإنسان والمشاركة السياسية متهيّئين لتأسيس حضارتهم على أسس راسخة وربطها بأسباب خلودها.
ونحن لن نتوقف طويلاً عند معالم التحول الحضاري الإسلامي، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وفكرياً، تلك المعالم التي تَجَلَّتْ بالهجرة، وتَجَلَّتْ معها هوية الأمة وملامح مشروعها الاستخلافي في عالم العمران البشري.
وإيثاراً للإيجاز، سنضرب مثلاً بأحد هذه المعالم التحولية، متأملين سِر تسمية النبي صلى الله عليه وسلم «يثرب» بـ«المدينة»، وهو اختيارٌ له مغزاه! فما كان النبي ليسمّيها من تلقاء نفسه، وإنما كان بوحي من الله، بدليل أنَّ القرآن جاء مصدقاً على تلك التسمية معتمداً المدينة عنواناً حضارياً جديداً ليثرب، ليعلن مدنية المجتمع والدولة والأمة والحضارة من منذ يوم التأسيس؛ مع الرسالة الإسلامية استوفت مباحث المعرفة والوجود والقيم شروط الكمال، ثم صَدَّق المشروع الحضاري في مرحلة الهجرة على إمكانيات التحقق الوجودي الإسلامي الجامع بين المثال والواقع في النموذج المركزي للأسوة النبوية الحسنة الذي أفرز حضارة خير أمة أخرجت للناس؛ ومن ثم كانت الهجرة النبوية إيذاناً بقيامة الأمة الشاهدة، وتتويجاً لتلك الجهود التحضيرية التي استهدفت إخراج الأمة المسلمة إلى حيز الوجود المتحقق عقيدةً ومنهاجاً وقيماً ومبادئ وأفكاراً وروحاً وواقعاً حضارياً متجسّداً فكانت تصديقاً متجاوباً لنبوءات الذكر الحكيم.
كانت تجربة الخلافة الراشدة كمرحلة تطبيقية على شروط الكمال، ثم تحقق مبحث الوجود، ولقد كانت تلك الترتيبات الدستورية للعقد الاجتماعي متمثلاً في صحيفة المدينة، وإجراءات تحريم عودة المتحضرين إلى البادية، وتقرير مبدأ الاستقرار «لا هجرة بعد الفتح» تعبيراً عن التوجه نحو تأكيد قيم الاندماج الإيجابي مع معطيات التحول الحضاري في بلورة المجتمع الجديد، وصيانة للمكتسبات المدنية وتعزيزاً للتنمية الحضرية وتطويراً لقيم المجتمع الجديد ومفاهيمه.
وبطبيعة الحال، لم يكن كل ذلك وغيره من تحولات جذرية «هجرية» جديرة بأنْ يُؤَرَّخُ من عندها فحسب، بل كانت جديرة بكونها مقياساً لتحليل التجارب الحضارية عبر التاريخ تحليلاً يسوّغ للمؤرخين والمثقفين الحكم على هذه التجارب في النموذج الحضاري الإسلامي المرتبط بالقيم العليا للحياة، ولو لم يكن في ضوء الاعتبارات السابقة سوى الهجرة مدخلاً لقياس التاريخ وفلسفته لكفت!
التطور التاريخي لفكرة التأريخ بالهجرة:
تبادرت فكرة التأريخ إلى ترتيبات الأمة مبكراً، حتى لقد قيل: «إنَّ النبي لما قدم المدينة، وقد قدمها في شهر ربيع الأول، أمر بالتّأريخ، فَذُكِرَ أنهم كانوا يؤرخون بالشهر والشهرين من مقدمه إلى أن تَمَّت السنة»(2).
ولقد بلغ من اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالتاريخ، أنه رأى في حجة الوداع مناسبة ملائمة لإلقاء البيان الأخير إلى الأمة، ذلك البيان الذي تتضمن معاني جليلة كانت خليقة بالخلود في ذاكرة التاريخ البشري؛ وفي سياق بيانه هذا، جعل النبي يستثمر حُرْمَتَي الزمان والمكان «اليوم الحرام»، و«الشهر الحرام»، و«البلد الحرام» ليؤسس مفاهيم الأمن ويؤصل قيم السلم في دنيا الناس، فيقول: «إن دماءكم وأموالكم، وأحسبه قال: وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً أو ضُلاّلاً يضرب بعضكم رقاب بعض! ألا هل بلّغت؟ ألا فليبلّغ الشاهد منكم الغائب، فلعل من يبلّغه يكون أوعى له من بعض من سمعه»(3).
ومِمّا يستلفت النظر في بيان الوداع، ذلك التكثيف النبوي اللافت في توظيف الدلالات التاريخية، ولا سيما تلك الدلالات المتعلقة بقوله صلى الله عليه وسلم: «وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم»، وذلك حين رَبَطَ مفهوم السعي الإنساني بفكرة «الحساب» وعقيدة «اليوم الآخِرِ» وهذه كلها مفاهيم يمكن أن تكون أدوات جوهرية في التشريح الفلسفي للتاريخ.
ولعل اهتمام الوحي، قرآناً وسُنّة، بفكرة التاريخ وتفسيره كان أحد العوامل المهمة التي حسمت مداولات المسلمين في عهد عمر بن الخطاب بشأن وضع تاريخ يعكس الخصوصية الحضارية للأمة الإسلامية، فاصطلحوا آنذاك على التّأريخ من هجرة النبي، وقد روى الطبري عن ميمون بن مهران، قوله: «دُفِعَ إلى عمر رضي الله عنه صَكٌّ مَحلُّهُ في شعبان، قال عمر: شعبان هذا الذي مضى أو الذي هو آت أو الذي نحن فيه؟ ثم قال لأصحاب رسول الله ضعوا للناس شيئاً يعرفونه، فقال قائل: اكتبوا على تاريخ الروم، فقيل: إنهم يكتبون من عهد ذي القرنين، فهذا يطول، وقال بعضهم: اكتبوا على تأريخ الفرس، فقيل: إن الفرس كلما قام ملك طرح من كان قبله، فاجتمع رأيهم على أن ينظروا: كم أقام رسول الله بالمدينة؟ فوجدوه عشر سنين، فكتب التّأريخ من هجرة رسول الله»(4).
النشاط الحضاري الهجري.. ومقياس «التقويم»:
وهكذا، كانت الهجرة مقياسَ «تقويم» الأمة، ومؤشر قيامتها الناهضة إلى مهام الاستخلاف في الأرض، ولعل في التقويم الهجري بالشهور القمرية فيه معان لطافٌ ودلالاتٌ طرافٌ ما يتعين الإشارة إليها في سياق وجيز؛ فهذا التقويم من جهة، يتيح مجالاً لتقليب الشهور بين الفصول ومواسم الشعائر العبادية والأعياد والمناسبات، وهو يعكس تعزيز إنتاج القيم والمفاهيم المرتبطة بطبيعة بعض الشهور فيجعلها أوسع تداولاً وأعَمَّ نفعاً وأعرض تأثيراً، فإنَّ تقليب شهر الصوم بين المواسم، مثلاً، إنما يعطي فرصة لأصحاب الأعذار في ممارسة شعيرة الصوم والأخذ بالعزيمة في الأجواء اللطاف والأعباء الخفاف.
والأشهر الحرم بما تمنحه من فرص السلام الاجتماعي بكف الناس عن ظلم أنفسهم وعن ظلم بعضهم بعضاً، وهي شهور تمتنع في الصراعات والحروب وهذا ما يمنح الناس فرصاً للمصالحة وتحقيق الأمن والسلم والاستقرار، فكان تقلب الأشهر الحُرم بين فصول السنة مناسبة مهمة لتعويد الناس على عوائد الأمن والسلم والاستقرار وتهيئة الأجواء الملائمة للنشاط الحضاري.
فكأنما التقويم الهجري القمري يجعل السنة كلها مسكونة يقيم الهجرة مُشْبَعة بروح الأشهر الحرم، وبقيم السلام ومفاهيم التسامح والتصالح بين البشر؛ فيكون النشاط الحضاري أبعد ما يكون عن الموسمية أو الظرفية العابرة؛ فرب محرم هو رب صفر هو رب رجب وشعبان ورمضان.
وفي مستهل التقويم بمحرم الحرام علامة على عناية الأمة المبكرة بقيم العدل والتسامح والسلام، وتهيئة الأجواء الأمنية للاستقرار الباعث على النشاط دون خوف أو احتباس وانقباض، وتهيئة الفرص العادلة لممارسة النشاط الحضاري.
أما اعتبار المحرم مبتدأ للتأريخ الهجري؛ فقد أظهرت الرواية التي ساقها أبو جعفر الطبري طرفاً من حكمة اختيار شهر المحرم مبتدأ للتأريخ: “قالوا: أي الشهور نبدأ؟ فقالوا: رمضان، ثم قالوا: المحرم، فهو منصرف الناس من حجهم وهو شهر حرام فأجمعوا على المحرم»(5).
ولعل انصراف الحجيج إلى بلادهم بعد أداء المناسك، ولاسيما بعد الاتساع الجغرافي الهائل لعقيدة الإسلام، يقتضي تقنين العهود التي تؤمن المسيرة الحضارية الإسلامية في إطار ذلك العمران الممتد طولاً بعرض الجزيرة العربية وما حولها.
ويُعَدُّ شهر الله محرم الحرام في سياق التقويم التأريخي بداية دورة سنوية متجددة من النشاط الإنساني بعد كل حج مبرور، وهو ما يتسق إلى حد كبير مع معنى الهجرة النبوية كبداية أيضاً لمرحلة تحول جوهري في مجرى التاريخ الإنساني، وكإرهاص بميلاد حضارة تستقي رؤيتها للكون والحياة والإنسان من قيم إلهية ترتكز على العمل والانتشار في الأرض خدمة للإنسانية وتبليغاً لرسالة الخلاص البشري من كل أسباب الإعاقة الحضارية أو البطالة الاستخلافية.
*أستاذ فلسفة التاريخ والحضارة الإسلامية الزائر بكلية القانون الكويتية العالمية
الهوامش
(1) أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير (ت774هـ): البداية والنهاية، تحقيق: أحمد عبد الوهاب فتيح، دار الحديث، القاهرة، 1413هـ /1992م، جـ7، ص74.
(2) أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (ت: 310هـ) الطبري: تاريخ الرسل والملوك، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، د. ت، جـ2، ص3.
(3) أخرجه مسلم عن أبي بكرة، حديث: 1679.
(4) أبو الحسن علي بن الأثير: الكامل في التاريخ، دار إحياء الكتاب العربي، بيروت، 1976م، جـ1، ص12.
(5) ابن جرير الطبري: تاريخ الرسل والملوك، جـ2، ص3.