الآراكاني: الوضع في آراكان كارثي والعمليات الوحشية ما زالت جارية
بعض وسائل الإعلام العربية تبنت رواية جيش ميانمار بدلاً من إبراز الحقائق وفضح مخططات السلطات
تقرير «كوفي عنان» كان يحابي الحكومة إلا أنه حمل العديد من التوصيات المشجعة لحل الأزمة
قطب شاه: هل المطلوب منا أن نموت في صمت دون أن نزعج العالم؟!
البوذيون يعتبرون منطقة شرق آسيا أرض «بوذا» ويجب أن تكون للبوذيين فقط
الأطراف الفاعلة بالمنطقة داخلياً: الرهبان البوذيون والبورمان والعسكر وداعموهم.. وخارجياً: الصين والهند
أنيتا علي: كيف يمكن لمزارعين مسالمين أن يواجهوا دولة إلى جانب العصابات البوذية المسلحة؟
السلطات تروّج لمزاعم الإرهاب و»الدعشنة» تماشياً مع موجة «الإسلاموفوبيا» لكسر التعاطف الدولي
«يجب أن يكون هدفنا خلق عالم خال من النازحين والمشردين واليائسين، عالم كل ركن فيه هو ملاذ حقيقي يمنح السكان الحرية والقدرة على العيش في سلام».. كانت هذه الكلمات من بين نص خطاب «أونج سان سوتشي» عام 2012م بمناسبة تسليمها جائزة «نوبل للسلام»، التي حصلت عليها عام 1991م، لكن ما أخَّر تسلمها هو خضوعها للإقامة الجبرية في بلادها ميانمار أو بورما كما كانت تعرف في السابق، لكن يبدو أن هذا السلام والمساواة التي ترددت كثيراً خلال رحلة نضال «سوتشي» لا تشمل «الروهنجيا»، فحتى الآن تلتزم «سوتشي»، مستشارة الدولة (رئيسة الوزراء)، الصمت إزاء أعمال القتل الوحشية بحق الروهنجيا.
ورغم أن الأمم المتحدة تحدثت عن فرار أكثر من 400 ألف منهم إلى بنجلاديش هرباً من القتل الجماعي؛ فإن «سوتشي» لم تكتفِ بالصمت، بل اعتبرت أن بلادها تواجه جبلاً من التضليل، مستندة إلى الصور غير الحقيقية التي تم تداولها على أنها للروهنجيا، لكنها تجاهلت أن الواقع هناك أصبح أبشع بكثير من الصور المزيفة، فهل تنصلت «سوتشي» لرحلة نضالها؟ ولماذا يتعرض الروهنجيا لهذا الكم من التطهير العرقي؟
عما يدور في آراكان يقول عزيز عبدالمجيد الآراكاني، مدير المركز الروهنجي لحقوق الإنسان في سويسرا: يمكن النظر لمحنة الروهنجيا من زاويتين؛ إنسانية وإعلامية، فإنسانياً يمكن توصيف الوضع في آراكان على أنه كارثي بكل ما تحمل الكلمة من دلالات، فالعمليات الوحشية لجيش ميانمار والمليشيات البوذية لا تزال جارية، فهم يقتلون الناس علانية، ويمثّلون بجثثهم ويحرقون القرى بكاملها، لدفع الروهنجيا للهجرة، ورغم فرار حوالي نصف مليون روهنجي إلى حدود بنجلاديش؛ فإن عشرات الآلاف ظلوا داخل آراكان محاصرين من قبل الجيش والعصابات البوذية، يعيشون في مناطق معزولة تماماً عن العالم، ويتم قتل هؤلاء العالقين في الغابات أو المناطق المعزولة بعيداً عن أعين العالم في ظل منع الإعلام من دخول آراكان وحتى أي بعثات دولية، والقضاء على المساعدات والأدوية والمخزون الغذائي الذي كان موجوداً، ولم تعد توجد أي أنواع من الإغاثة لهؤلاء المحاصرين؛ وهو ما قد يتسبب في موت هؤلاء المحاصرين جوعاً إن هم نجوا من القتل.
الإعلام يختزل الصورة
أما إعلامياً؛ فيشير عزيز عبدالمجيد إلى أن الإعلام للأسف خاصة العربي يختزل محنة الروهنجيا الممتدة لعشرات السنوات، في الأحداث الأخيرة فقط، متجاهلاً عقوداً من المعاناة والقتل والتهجير، وهو ما يراه ظلماً للروهنجيا، بل إن بعض وسائل الإعلام العربية تبنت رواية الجيش في ميانمار وروّجت لها، بدلاً من إبراز الحقائق وفضح مخططات السلطات في بورما لطرد الروهنجيا من أراضيهم وقراهم، دور الإعلام ليس فقط الحديث عن الروهنجيا وقت المذابح، فهم وإن توقفت المذابح لفترة فموتهم مستمر من الجوع والأمراض وفي مخيمات النزوح.
تردد بعض الأصوات في الإعلام العربي أن ما يتعرض له الروهنجيا ما هو إلا صراع عرقي فقط، وليس للدين علاقة به، ورداً على هؤلاء يتساءل الناشط الحقوقي قطب شاه، وهو من أبناء الروهنجيا: هل المطلوب منا نحن شعب الروهنجيا أن نموت في صمت دون أن نزعج العالم؟ ويوضح حقيقة الصراع أنه عرقي وديني وسياسي، وليس عرقياً فقط كما يزعم البعض، فدولة ميانمار تتكون من أكثر من 135 عرقية، بأغلبية بوذية، العرقية الأكبر فيها هي عرقية “البورمان أو شعب بامار”، وقد دخلت الدولة المركزية متمثلة بالجيش في مواجهات مسلحة مع العديد من العرقيات البوذية والمسيحية، هذه المواجهات كانت خلافاً على الحكم الذاتي وحصص الثروة وعدم تنمية أقاليم هذه العرقيات، أما اضطهاد الروهنجيا فمنبعه عرقي وسياسي وديني، فالمسلمون الروهنجيا محرومون من حق الجنسية بموجب قانون عام 1982م الذي اعتبرهم مهاجرين من بنجلاديش، كما أنهم محرومون من التعليم ومن تقلد المناصب خشية أن يكون لهم النفوذ في إدارة هذه المنطقة الغنية بالموارد، أما دينياً فالرهبان البوذيون يعتبرون أن منطقة شرق آسيا عموماً هي أرض بوذا؛ وبالتالي يجب أن تكون للبوذيين فقط، وأن منح الحرية للروهنجيا يعني أن بلادهم قد تتحول إلى بلد مسلم مثل ماليزيا أو إندونيسيا.
صراع مصالح
ولفهم أبعاد الصورة كاملة كان لا بد من تسليط الضوء على الأطراف الفاعلة في هذه المنطقة، وهل للأمر صلة مباشرة أو غير مباشرة بالمصالح أياً كان نوعها، وهنا يشير قطب شاه إلى أن هناك عدة مشاريع تتصارع في هذه المنطقة، منها أطراف داخلية وأخرى خارجية.
والأطراف الداخلية منها الطرف الأول يمثله الرهبان البوذيون وهم لديهم ما يسمى بالمشروع البوذي، وهو يتمثل في تحويل المنطقة من أفغانستان إلى إندونيسيا ومن اليابان إلى سريلانكا، إلى البوذية وما يسمى “أرض بوذا” Buddhization.
أما الطرف الثاني فيتمثل في الأغلبية البورمية (البورمان)، ومشروعهم يعمل على “برمنة” الدولة (بورما للبورمان)، وهذا يفسر دخول الدولة المركزية بسيطرتهم عليها في مواجهات مسلحة مع العديد من العرقيات البوذية والمسيحية، فهم ليسوا بورمان.
الطرف الثالث وهو مشروع العسكر لإبقاء سيطرتهم على مقاليد الأمور حتى وإن كان تحت غطاء أن البلاد انتقلت إلى مرحلة حكم ديمقراطي، لكنهم فعلياً يمتلكون زمام الأمر، فبموجب دستور عام 2008م، فالعسكر لهم حوالي 30% من مقاعد البرلمان بدون انتخابات، إلى جانب وزارات سيادية، الطرف الرابع وهم الراخين البوذيون المحليون في آراكان، وهؤلاء قسمان؛ أحدهما استقلالي يعملون على تأسيس “مملكة آراكان البوذية”، أما القسم الثاني وهم داعمون للعسكر وهدفهم الاستفادة من ثروات المنطقة وبسط نفوذهم عليها.
أما الأطراف الخارجية فيشير شاه إلى الصين والهند، اللتين لهما مصالح اقتصادية ومشاريع في المنطقة، إلى جانب قطع الطريق على النفوذ الأمريكي بالاشتراك مع الروس، فالصين لديها مشروع “الغاز الذهبي” وخطوط أنابيب تمتد مئات الكيلومترات في ميانمار، كما أنها تدعم بعض العرقيات إلى جانب مشروعات تعدين في قرى المسلمين في منغدو، أما الهند فلها مشروع ميناء “كلادان”، بينما يبقى الروهنجيا ضحية لمصالح الجميع.
«دعشنة» مزيفة
بالعودة إلى بداية الأحداث ومحاولات الوصول لأسباب الهجمة الأخيرة على الروهنجيا، نجد أن السلطات في ميانمار ادعت أن عملياتها هذه جاءت لملاحقة من وصفتهم بـ»متمردين روهنجيا» هاجموا أقساماً للشرطة ومراكز حدودية، وأن هؤلاء من تصفهم بالمتمردين والإرهابيين لهم جيش كبير باسم «جيش تحرير الروهنجيا آراكان»، ومن هنا فالسلطات في ميانمار مضطرة لملاحقة هؤلاء، وهي تحاول الترويج لهذه الادعاءات في محاولة لكسر التعاطف الدولي مع الروهنجيا، وكسب ضوء أخضر للتخلص من هؤلاء الروهنجيا نهائياً، لكن بقليل من الجهد ومتابعة الأحداث، تكتشف أن هذه مجرد رواية فقيرة دعمها الترويج لها من قبل بعض وسائل الإعلام العربية، ورغم ذلك بقيت فقيرة ولم يكن بمقدور رواية كهذه تجفيف دماء الروهنجيا الساخنة عن المشهد.
وهنا تسأل د. أنيتا علي، المتحدثة باسم المجلس الروهنجي الأوروبي: من هو الإرهابي؟ وكيف يمكن لمزارعين مسالمين أن يواجهوا دولة إلى جانب العصابات البوذية المسلحة؟ موضحة أن السلطات العسكرية تروج لمزاعم الإرهاب تماشياً مع موجة «الإسلاموفوبيا» التي تلقى رواجاً عالمياً، وكسر التعاطف الدولي مع الروهنجيا، كما أن الدولة حريصة على وضع الروهنجيا في خانة التطرف لجعل جرائمها ضد الروهنجيا إلى الروهنجيا أنفسهم، بالإضافة إلى مطامعها في الحصول على دعم محلي ودولي لمواجهة هذا الإرهاب المزعوم.
يتفق مع ذلك عزيز عبدالمجيد، ويتساءل أيضاً: مع افتراض صحة الرواية الرسمية، فهل هذا مبرر لكل هذه الآلاف من القتلى والمشردين الروهنجيا؟ ويفند عزيز هذه الرواية قائلاً: إن الروهنجيا شعب مسالم رغم ما يتعرض له من قتل ومذابح على مدى عشرات السنوات، والسلطات في ميانمار في الأساس تحاول جرهم إلى مربع العنف ليكون ذلك مسوغاً أمام العالم للقضاء على الروهنجيا بأكملهم تحت مزاعم الإرهاب والعنف، وإطلاق مسميات ضخمة وأن لهم جيشاً وهكذا، وكل ما في الأمر أن حوالي 150 شاباً اضطروا للدفاع عن أهليهم بالعصي والأخشاب ولا يملكون أي أسلحة كما تزعم السلطات.
كما يرد قطب شاه على هذه الادعاءات بقوله: إن الروهنجيا المتبقين في آراكان ما هم إلا مزارعون وصيادون، نقلت السلطات عشرات الآلاف منهم إلى مخيم محاط بالأسلاك الشائكة وحراسة الشرطة، وهم ممنوعون من الخروج أو التنقل، وبقية القرى محاصرة من قبل الجيش البورمي، ويتساءل: في ظل هذه الظروف من الحصار كيف يمكن للروهنجيا أن يكون لهم جيش أو أن يهددوا الدولة؟!
لجنة «كوفي عنان»
في عام 2016م، شكلت حكومة ميانمار لجنة استشارية برئاسة «كوفي عنان»، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، تتكون من 9 شخصيات ثلاثة منهم أجانب، على أن تقدم هذه اللجنة توصيات لحل أزمة إقليم آراكان، بدأت اللجنة عملها في سبتمبر 2016م، وعلى مدار عام كامل زارت خلاله الإقليم، وقدمت تقريرها النهائي الأربعاء 23 أغسطس 2017م، شمل العديد من التوصيات؛ منها مراجعة قانون الجنسية الصادر عام 1982م الذي يجرد الروهنجيا من الجنسية وحق المواطنة، وفتح الباب أمام المساعدات دون شروط، والسماح لوسائل الإعلام بدخول آراكان ونقل صورة الواقع إلى العالم، وإعادة الروهنجيا إلى قراهم.
وعن محتوى هذا التقرير، يقول قطب شاه: إن التقرير في مجمله جيد، لكنه يرى أنه بما أن اللجنة استشارية وما قدمته من توصيات ليس ملزماً للحكومة؛ وبالتالي فهي ستأخذ منه حسب المصلحة بدعوى تنفيذ ما يمكن منه، وهو ما يتفق معه عزيز عبدالمجيد بقوله: رغم أن التقرير كان يحابي الحكومة في العديد من جوانبه، فإنه حمل العديد من التوصيات المشجعة لحل أزمة الروهنجيا.
سلمت لجنة «عنان» تقريرها الأربعاء 23 أغسطس، فبدأت عمليات الجيش ضد الروهنجيا صباح الجمعة 25 أغسطس؛ وهو ما فسره عزيز عبدالمجيد بأن الجيش كانت لديه نية مبيتة لهذه العمليات، فقد رفعت قوات الجيش استعداداتها قبل صدور التقرير بنحو أسبوع من طائرات وعتاد، وهي في الأساس تحاصر قرى الروهنجيا منذ أحداث أكتوبر 2016م، وهذا يؤكد أن النية كانت مبيتة لهذه العمليات الوحشية واستباق لتوصيات التقرير، وليس كما تزعم السلطات وجود إرهابيين ومتمردين.
مواقف متباينة
تجدد عمليات القتل الوحشية ضد الروهنجيا، كان لها صدى تنوع من طرف لآخر، ويرى عزيز عبدالمجيد أن المواقف الدولية من أزمة الروهنجيا متباينة؛ فهناك أطراف تنظر لقضية الروهنجيا بنظرة منصفة، وأطراف أخرى لا تزيد محنة الروهنجيا في نظرها عن كونها مصالح اقتصادية وإستراتيجية، فعلى سبيل المثال موقف الاتحاد الأوروبي مهادن، لكن هذا لا يمنع من وجود مواقف جيدة جداً من أطراف أوروبية مثل فرنسا وبريطانيا وأيسلندا، حتى إن وفود هذه الدول في مجلس حقوق الإنسان كان لها مواقف مشرفة وحازمة ضد أعمال القتل بحق الروهنجيا.
أما الموقف الأمريكي فلم يصل بعد إلى الحد المعهود أمريكياً في مثل هذه القضايا، ربما لأن واشنطن قد تكون تراهن على “أونج سان سوتشي”، مستشارة الدولة، أما بالنظر للمواقف الروسية والصينية والهندية نجد أن هذه الدول داعمة لحكومة ميانمار، ويظهر ذلك حتى في المحافل الدولية، مثل مداولات مجلس حقوق الإنسان والجمعية العامة للأمم المتحدة، وحتى مجلس الأمن، بينما الدول المسلمة لا تلتفت إلى الروهنجيا إلا وقت المذابح فقط، ولذلك حتى الآن لم يتبلور موقف دولي واضح إزاء محنة الروهنجيا لمعالجة هذه الأزمة.
تمتد محنة الروهنجيا لعشرات السنوات، فقد بدأت المذابح بحقهم عام 1942م، ومن حينها لم يتوقف قطار الموت، في ظل صمت دولي وتجاهل إسلامي، وهنا يرى قطب شاه أنه لحل أزمة الروهنجيا لا بد من حلول جذرية، لكن على المدى القريب لا بد من مواقف دولية تضغط على سلطات ميانمار لوقف أعمال القتل والتهجير الحالية، وفتح الباب أمام وصول المساعدات إلى المناطق المعزولة والمحاصرة، وإعادة الروهنجيا في مخيمات النزوح داخل آراكان إلى قراهم، أما على المدى البعيد، فلا بد من منطقة آمنة للروهنجيا لأن البوذيين المحليين لا يقبلون بالتعايش المشترك.