الإعلام الدعوي يطرح الأفكار الدعوية أما الإعلام الإسلامي فيتناول السياسة والاقتصاد والفكر ومختلف مناحي الحياة
مصطلح الإعلام الديني يضمر عزلة الدين ويحرم الإسلام من ملامسة الواقع والتعامل معه
من غير الإنصاف أن نتجاهل القيم المضافة التي يرفد بها الإسلام الإعلام كما في غيره من مجالات الحياة
الإسلام يعمق مفهوم المسؤولية لدى المؤسسات الإعلامية بحيث تحمل أهدافاً تقع في دائرة احتياجات المجتمع
الإسلام يضفي على المؤسسة والعاملين فيها ضوابط لما يقولونه ليجمع الإنسان بين المظهر والمخبر
يتراوح المختصون والمهتمون في التعامل مع «الإعلام الإسلامي» بين التمسك الكامل بالمصطلح انطلاقاً من مفهوم الإسلام الشامل الذي يضم بين طياته كل مناحي الحياة التي يمثل الإعلام أحد أبرز جوانبها من ناحية، ومن يرفض المصطلح جملة وتفصيلاً فلا يرى مجالاً للربط بين الإسلام أو الدين من ناحية، والإعلام أو أي من مجالات الحياة من ناحية أخرى.
في الوقت الذي يتحمس فيه البعض للمصطلح انطلاقاً من فهمه الشامل للإسلام واعتقاداً جازماً بإسهامات الإسلام البينة في كافة مجالات الحياة ومختلف مؤسساتها، فإن فريقاً يرى أنه لا مجال للربط بين الإسلام والإعلام، ولا مجال لتصنيف الإعلام على أنه إسلامي أو ليبرالي أو اشتراكي.
بيد أن محاولة التفاعل مع المفهوم قبل المصطلح والتعامل مع المعاني قبل المباني يمكن أن يمثل مدخلاً جيداً لتحليل المصطلحات وتحرير المفاهيم لنصل إلى عمقها، ونقف على دلالاتها، ونركز على إسقاطاتها على الواقع بديلاً عن الاختلاف على الألفاظ أو الوقوف على المباني والعبارات؛ وهو ما قصده الفقهاء الأقدمون الذين أكدوا أنه «لا مشاحة في الاصطلاح».
ولنا في هذا الموضوع وقفات وتساؤلات نراها لازمة للتعرف والتعامل مع مفهوم الإعلام الإسلامي قبل التعامل مع المصطلح ذاته، وأول هذه الوقفات والتساؤلات:
1- بين الإسلامي والدعوي:
فمن المستيقن والمستقر أن الإسلام دين شامل ينتظم شؤون الحياة كلها، والإعلام مكون من مكونات هذه الحياة ولازمة من لوازمه وحاجة من حاجاته، وفي الوقت نفسه؛ فإن الدعوة شأن من شؤون الإسلام ولازمة من لوازمه التي ينتشر بها ويقوى من خلالها ويتعرف الناس عليه من طريقها.
ولعلنا بالوقوف بين المفهومين نستطيع أن ندرك أن هناك إعلاماً دعوياً يرتكز ويهتم بطرح الأفكار الدعوية ونقل المفاهيم ذات الصلة بها من خلال أدوات ووسائل إعلامية، فالصحف والمجلات والقنوات والإذاعات التي ترتكز على التفاعل والتعامل مع المحتوى الدعوي يمكن أن يكون مصطلح الإعلام الدعوي هو الأقرب لها من مصطلح الإعلام الإسلامي.
ونضرب هنا أمثلة لإذاعات القرآن الكريم ومجلات مثل مجلة «الأزهر» وغيرها من الصحف والمنافذ الإعلامية، نرى أنها نوع من الإعلام الدعوي الخاص، أما تلك المجلات والصحف والمواقع والقنوات التي تتناول في محتواها شؤوناً منوعة في السياسة والاقتصاد والفكر ومختلف مناحي الحياة من خلال اجتهاد ينطلق من الإسلام فهي الأقرب إلى مصطلح الإعلام الإسلامي منها إلى مصطلح الإعلام الدعوي.
2- بين الإعلام الديني والإعلام الدعوي:
والفارق الذي نراه شاسعاً بين الأمرين أن الإعلام الدعوي وإن كان مختصاً في الدعوة فهو ينطلق من رؤية الإسلام الشامل لا القاصر أو المنعزل عن الحياة بكافة تشابكاتها ومكوناتها.
بينما الإعلام الديني نرى أنه مصطلح يضمر عزلة الدين في مفهوم دون غيره، وفي مجال دون سواه، ويحرم الإسلام -على خلاف طبيعته وتكوينه– من ملامسة الواقع والتعامل معه.
ولعلنا نجد تشابهاً في الفروقات بين الإعلام الدعوي والإعلام الديني عندما نقترب من الفروق بين مصطلح عالم الدين الذي ينزع القدسية ممن تبحروا في علوم الدين، ومصطلح رجل الدين الذي يضفي قداسة على العلماء تمنع من محاسبتهم وتقويم سلوكهم.
3- بين الإعلام والإعلام الإسلامي:
هناك من يرى أن الإعلام له أدواته ووسائله وطرائق عمله الثابتة ولا مجال لوصفه بالإسلامي أو الليبرالي أو الاشتراكي، فالإعلام في نظر هؤلاء إعلام يحمل قيماً ذاتية وأدوات خاصة ومكونات محددة ولا تصلح أن تميل إلى عقيدة أو أيديولوجية.
ونرى أنه من الإنصاف ألا نغمط الإعلام حقه من اشتماله على قيم وأدوات مستقلة، إلا أنه من غير الإنصاف -في المقابل- أن نتجاهل حزمة القيم المضافة التي يرفد بها الإسلام الإعلام كما في غيره من مجالات الحياة ومن ذلك:
– صياغة الموارد البشرية التي تؤمن بشمول الإسلام وقيمه ومبادئه وتحترف العمل الإعلامي صياغة خاصة تعلي من القيم وتعمق دلالات ومفاهيم المصداقية والخصوصية والأمانة والشفافية والعدالة بصورة تفصيلية، فإذا كان الإعلام يشترط فيمن يمتهنه أن يتحلى عند ممارسة مهنته بهذه الصفات، فالإسلام يعمق هذه المفاهيم ويمثل ضمانة لتطبيقها في وجود القانون وفي غيابه سواء بسواء.
– تعميق مفهوم المسؤولية لدى المؤسسات الإعلامية، بحيث يحمل أهدافاً تقع في دائرة احتياجات المجتمع تسهم في تقدمه وتطوره، ولا تكتفي بتلبية الحاجات والغرائز بعيداً عن المسؤولية التي ترتقي بالمجتمع وتحافظ على ثوابته وقيمه؛ إذ إن بديل هذه المسؤولية إطلاق العنان لرغبات الأفراد وميولهم حتى وإن ساقت المجتمعات إلى حتفها.
وحتى يستقيم المعنى لا بد أن نؤكد أن المسؤولية ليست في هذه الحالة ضرباً من الوصاية على المجتمع أو نوعاً من تحجيم حريته، ولكنها ضمانة للحفاظ على نقطة التوازن الفاصلة بين إطلاق حرية الأفراد وحرية المجتمع في تحقيق أهدافه الجمعية التي ترتكز على تماسك المجتمع وتنميته وضمان استقراره وتطوره.
– مصداقية المؤسسة ومصداقية العاملين فيها؛ فإذا كان الإعلام يضع الضوابط والقيم التي تضمن سلامة المحتوى وصحة الرسالة التي تبثها أو تصدرها وسائل الإعلام، فإن الأمور تقف في العادة عند هذه المرحلة دون أن تتخطاها إلى ما بعدها في سلوك المؤسسة غير المعلن أو سلوك الإعلاميين في حياتهم الخاصة.
فالإسلام يضفي على المؤسسة والعاملين فيها ضوابط ممتدة ومتعدية لما يقولونه أو يكتبونه ليجمع الإنسان بين المظهر والمخبر، وبين ما خطته يداه وما غاب عن أنظار الناس وعيون الجماهير التي تتلقى الرسالة الإعلامية.
فقد تلتزم المؤسسة والعاملون فيها بصياغة رسالة مفعمة بالقيم ملتزمة بالمبادي الإعلامية العامة، ولكنك قد تجد تناقضاً بين تلك المبادئ المسطورة والمنطوقة ومفردات وسلوك هؤلاء العاملين بعد فراغهم من أعمالهم.
– الدافعية والتحفيز؛ فالموارد البشرية العاملة في مجال الإعلام لديها تحفيزات متعددة، إلا أن الإعلام الإسلامي يضفي على العاملين فيه مزيداً من الشعور بالرسالة والهدف مما يحفزه لمزيد من التجويد والبذل والعطاء والتفاعل وليس مجرد أداء وظيفة أو مهمة تنتهي بمجرد الفراغ من ساعات العمل.
– الانضباط القيمي في إعداد المحتوى؛ فالإعلام قد يوفر للعاملين في مؤسساته ضمانة الالتزام بالقيم والمبادئ في المحتوى المنشور أو المذاع والذي تطلع عليه الجماهير، بينما لا يكون حاضراً بدرجة فاعلة ومؤثرة وصارمة في مرحلة إعداد المحتوى.
فقد يتحلى الإعلامي بالأمانة والمصداقية والدقة والشفافية والتوازن في عرض المادة، إلا أنه ربما يكون قد حصل على هذه المادة بطريقة غير مشروعة، وهو ما تتحرز منه المؤسسات الإعلامية التي تنضبط بالقيم الإسلامية، إذ لا تفصل في الانحياز للقيم بين مرحلة إعداد المحتوى ومرحلة نشره، والوسائل المتبعة للحصول على المادة، وطريقة عرضها لهذه المادة.
– التوازن النفسي للعاملين في مجال الإعلام؛ فقد تلتزم المؤسسة الإعلامية وكذلك منتسبوها بأداء الرسالة الإعلامية بانضباط قيمي وأخلاقي، على حين لا يتحلى العاملون فيها بتوازن نفسي يحول بينهم وبين كثير من الآثار النفسية السلبية مثل تضخم الذات والاستعلاء الذي قد يصل مع الوقت إلى استعلاء على الجماهير.
– وفي ختام هذا الجزء من الحديث عن مصطلح الإعلام الإسلامي توضيحاً وتحريراً، لا يفوتنا التأكيد على أن المؤسسة الإعلامية والعاملين فيها ينطبق عليهم مفهوم الإعلام الإسلامي -الذي ذكرنا- بقدر ما يحملون من القيم التي أسلفنا عنها الحديث، فالمؤسسة وأفرداها يقتربون من الإعلام الإسلامي بقدر قربهم من تلك القيم والمفاهيم ويبتعدون عنها بقدر ابتعادهم عن تلك القيم، ولا مجال هنا للعناوين الثابتة والمطلقة على المؤسسات الإعلامية أو العاملين فيها التي تمنح بعضها لقب الإسلامي وتحرم أخرى منه، بل إن المحك في مدى الالتزام بهذه القيم قرباً أو بُعداً.
إشكالات الواقع
وإذا كان الحديث عن المصطلح يحمل عدداً من الإشكالات والالتباسات التي تستوجب التوقف عندها وتحريرها، فإن إشكالات الواقع لا تقل أهمية عما احتاجه المصطلح من بيان، إذ لنا مع هذا الواقع وتفاعلاته عدد من الوقفات؛ منها:
1- إشكالات التمويل:
ومن ذلك استقلالية التمويل؛ إذ تكون المؤسسات الإعلامية الإسلامية بين خيارين؛ الأول: يتمثل في الحصول على التمويل من مصادر مالية مليئة مثل الدول والهيئات الكبرى والقوى العالمية، وهو خيار يضمن الاستقرار المالي والفني والتقني للمؤسسة، ولكنه يجعل المحتوى مرهوناً بأجندات وتوجهات الممول؛ مما يحرفه قليلاً أو كثيراً عن الأهداف التي يمكن أن يرسمها القائمون على الوسيلة الإعلامية؛ الأمر الذي يؤثر بصورة كبيرة على استقلالية المؤسسة.
الخيار الثاني: الاستقلالية والاعتماد على التمويل الذاتي من جيوب المؤمنين بالفكرة والمقتنعين بالرسالة، وهو خيار وإن نجح في تحقيق الاستقلالية بجدارة، إلا أنه يضع المحتوى والمؤسسة بكاملها في حرج مهني بالغ حيث تعجز عن الوفاء بالالتزامات المالية للتطوير ومواكبة التنافسية في عالم لا يرحم الضعفاء والصغار.
2- إشكالات التوسع الأفقي والرأسي:
وتبرز هذه الإشكالية مع أول خطوة في اتجاه التطوير والتوسع الأفقي للمحتوى داخل المؤسسة أو الانتشار خارجها أو الرغبة في تعدد المنافذ الإعلامية، فتصطدم بضرورة التوسع في الموارد البشرية وتقف أمام خيارين:
الأول: الاكتفاء بالموارد البشرية المتاحة التي تتوافر لها القناعة الكاملة بالفكرة والرؤية العامة للمؤسسة وتمتلك من المقومات الأخلاقية التي تؤهلها للتعبير عن إسلامية المؤسسة بطريقة جادة، إلا أن هذا الخيار يجعل المؤسسة رهينة العجز عن الوفاء باحتياجات الجمهور في التطوير والمنافسة بسبب قلة الموارد البشرية المطلوبة لإنجاح العمل.
ويظل الخيار الثاني هو التوسع الأفقي في الموارد البشرية من أطر مهنية لا تلتزم بفكرة المؤسسة أو رؤيتها مما يحدث ارتباكاً في المحتوى وخللاً في مفردات الخطاب إلا أن تتداركه إدارة حاسمة، ومع هذا تظل في كل الأحوال المشكلة تراوح مكانها.
3- إشكالات الرؤية النظرية وأثرها على الواقع:
ولعل ما طرحنا من إشكالات في الرؤية النظرية حول مفهوم الإعلام الإسلامي تضفي بظلالها –في كثير من الحالات- على الواقع العملي حال عدم حسم ما طرحنا حينها من إشكالات.
إذ تظهر تداعيات التردد حول الرؤية وطبيعة المؤسسة وأهدافها وعدم حسم الخيارات والبدائل محل أزمة تظهر تداعياتها على اضطراب المحتوى وتشتته وتعدد طبقاته وعدم انسجامه في منظومة موحدة.
4- تحديد طبيعة الجمهور المستهدف:
تعاني المؤسسات الإعلامية الإسلامية من خلل ينطلق في غالبه من المفهوم والرؤية حول طبيعة الجمهور، وهل هو ذلك الجمهور الذي يؤمن بالفكرة الإسلامية، أم هو عموم الجمهور في الأمة بمختلف تنوعاته.
وإن كانت الأخرى فهل تمتلك المؤسسة من القدرات والإمكانات ما يؤهلها لمنافسة غيرها في عقر داره وفي تقديم المحتوى المناسب للجمهور المنوع.
5- وقفة مع «تكويد» الرسائل وصياغة المحتوى:
تظل مشكلة الرغبة في الوصول إلى الجمهور المنوع مقرونة بمدى قدرة المؤسسة على المواءمة في صياغة رسالة متوازنة تجمع بين الالتزام بقيمها ومبادئها، وتلبية احتياجات الجمهور ومتطلباته التي تلبيها بالفعل أغلب -إن لم يكن كافة- المؤسسات الإعلامية الموجودة في سوق الإعلام.
وقد تصنع هذه الإشكالية خطاباً مزدوجاً داخل المؤسسة تظهر غالباً في تناقضات على صفحاتها وعبر شاشاتها، فلا هي بالتي حافظت على جمهورها الذي التزم بالفكرة، ولا هي وصلت إلى عموم الجمهور، فباتت كمن راوح مكانه عند منتصف الطريق فلم يبلغ ولم يتوقف.
6- وقفة مع التصنيف والانطباعات المسبقة:
وهي إشكالية تكون في غالبها قريبة الصلة بالتعامل مع المصطلح حيث يقف الانطباع المسبق عن الصحيفة أو القناة أو الموقع وتصنيفه في الدائرة الإسلامية عقبة أمام تلقي المحتوى وتوقعات الجمهور منه؛ مما قد يساهم في انصراف قطاع كبير من الجمهور بسبب تلك الانطباعات والتصنيفات المسبقة.
7- وقفة مع إشكالات التخصص:
وهي إشكال ارتبط بنشأة كثير من المؤسسات الصحفية والإعلامية الإسلامية، حيث نشأت بعيداً عن المتخصصين في المجال المهني الاحترافي، ربما كان في البداية بسبب قلة أو ندرة المحترفين للعمل الإعلامي من بين المنضبطين بالرؤية الإسلامية، إلا أن المشكلة ظلت مستمرة إلى مدى أوسع حيث غلب في كثير من الحالات وعلى كثير من التجارب الاستعانة بغير المختص في ممارسة العمل المهني.
ولعل سبباً رئيساً لهذه الإشكالية نجده في مساحات الخلط بين الإعلام الدعوي والإعلام الإسلامي، بالإضافة إلى اعتبارات الثقة في توجهات العاملين التي تغلب في عدد من المؤسسات وربما تفوق الاحترافية.
وفي الختام، فإن ما طرحناه في هذه العجالة نرى أنه في الغالب انعكاس لواقع نظري وتطبيقي للتعامل مع مصطلح الإعلام الإسلامي وما يستتبعه من واقع على الأرض يضطرب حيناً ويسعى للكمال أحياناً، ولكنه يتعرض في كل أحواله إلى مزيد من الإشكالات تستحق مزيداً من الوقفات.