سطر كلماته بمداد من نور، وأصبحت نبراساً يتدارسه كل محب لسيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد أن أنجز مهمته رحل في سكون قبل أن ينعاه قلوب الموحدين في كل مكان.
منير محمد الغضبان الذي رحل يوم الأحد الموافق 3 رجب 1435هـ/ 1 يونيو 2014م بعدما أحدث بكتابه المنهج الحركي للسيرة النبوية ثقافة جديدة في فهم السيرة النبوية، وجعلها منهجاً عملياً تستطيع الأجيال الحالية أن تشاهد سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء يواكب زمانهم وواقعهم.
فقد وصفه الشيخ البوطي بقوله: وكلهم أجاد وأفاد، إلاّ أن “التفسير الحركي” للسيّرة النبوية الشريفة الذي أعده أستاذي وصديقي المرحوم منير الغضبان ظل شامة بارزة في علاقتي بجميع الكتب التي قرأتها، لسببين على الأقل:
1- الاعتبار والتأسي: فالسيرة ليست تاريخاً للتسلي وإنما منهاج للبناء.
2- روح السيرة وحياتها: فقد تجاوز السّرد التاريخي للأحداث إلى محاولة البحث عن “روحها” الذي ينبغي أن يسري في عقول وقلوب هذه الأمة التي فقدت هويتها وجهلت تاريخها وأضاعت رسالتها وقيمها ومقوماتها وجودها في صناعة التاريخ واستمرارها.
ولد الشيخ عام 1942م في مدينة التل من أعمال دمشق، حيث تعلم ونشأ فيها، وعاش حياته مدافعاً عن دينه وسيرة نبيه صلى الله عليه وسلم، فحظى كره البعثيين من أبناء بلدته، فقد أبعدوه عن بلدته إلى قرى الحسكة ثم أعيد إلى قرية مسيحية من قرى الجولان، وهو كان مختصاً بتدريس الشريعة، رفع شكوى إلى وزير التربية حسن الخطيب، فاستدعاه لمقابلته، كان لطيفاً معه، فاستمع إليه، وفي نهاية المقابلة قال له بلطف: يا أستاذ، سورية لك فاتركها لنا؛ لأنه عرف أن البعثيين لن يتركوه ينعم بالهدوء، فسافر السعودية.
لكن ما أن طلبت المحنة بعنقها في سورية على إخوانه حتى سارع لتوحيد الصفوف، وترجمة المنهج الحركي لسيرة الرسول صلة الله عليه وسلم في تأليف القلوب وترقيقها، وبالفعل تحقق ذلك عام 1981م قبل أن ينتقل للعمل في عمان.
لكن نقف مع الشيخ وهو يكشف المستور عن حياته فيقول: كنت في الرابعة من عمري، ورأيت سيارة شاحنة قادمة من بعيد، فقررت أن أركض أمامها من طرف الشارع إلى الطرف الآخر، وحينما وصلت إلى مسافة محددة مني ركضت ونفذت القرار، واضطر سائق الشاحنة لاستعمال أعنف الكوابح لإيقاف السيارة كي لا يصدمني.
وما أزال أتذكر كيف نزل من السيارة وصفعني كفاً عنيفاً على وجهي، ولعله أول كف تلقيته في حياتي، لقد تقبل الحياة التي وهبها الله له فاستثمرها، فكان لطف الله به في كثير من الأحيان.
وحينما استكمل مؤهلاته الفكرية والنفسية لم ينظر إلى الشهرة، لكن فجر طاقته وأبدع في مواهبه، يقول: هويت التمثيل وأنا في الصف الثالث، وأعد المدير مسرحية “إسلام عمر”، وكان يقوم بها طلاب الصف الخامس وكنت أسمعهم حتى حفظتها، فكان إذا غاب طالب استدعاني المدير لأقوم بدوره، بعدها أسند لي دوراً في المسرحية نفسها، وتشرب حب التمثيل بدمي منذ عام 1949م.
وحينما زارنا الشيخ مصطفى السباعي كنت صغيراً، وبعد أن خطب الجمعة وسلبن الألباب، تجمهر حوله الجميع، وفى وسط الزحام رآني –حيث كان أخي الأكبر واحداً من الإخوان– فنادى عليَّ وقال لي: السلام عليكم، فقلت وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فقال لي: أنت من الإخوان المسلمين؟ ومد يده وصافحني، فصافحته وأجبت: نعم أستاذ، ومر الزمن وأنا أفخر بهذا اللقاء وهذه البيعة والمصافحة، وحقيقة لقد كان أهم شخصية من العظماء أثرت في حياتي.
لقد أتيحت له الكثير من أوجه الانحراف خاصة حينما انتقل للدراسة في دمشق، لكن أثر التربية التي نالها كانت حصناً له، بل جعلته الشيخ الصغير الذي يذكر رفاقه بالبعد عن مواطن الشهوات والمنكرات، فيقول: لكن الحصانة التي غادرت فيها بيئتي الأولى كان لها الدور الأكبر في عصمتي من الزلل، وفاقي يعرفوني الداعية الأول وأنا الذي أعظهم وأذكرهم بالله أن يتراجعوا عن الشهوات، ووسط هذا الجو المتلاطم عثرت على بغيتي، وقرة عين لي، أخ لي في الدعوة حيث التصقت به وأصبحنا نرتاد المركز العام.
نعم تحقق الهدف أن يكون الشيخ والداعية الصغير، حتى شاء القدر أن يرسل له بغيته ليعرفه بدينه، حينما تأخر عن الحصة الأولى، والتقي بالشاب الوسيم الذي أبهر الفتيات، واستطاع أن يقنعه أن يذهبا لسماع فيلم معركة دانكرك ووقتها استغل الفرصة وذكره بالله، حتى مال له الشاب وطلب منه أن يأخذ بيده لطريق الله، وأيقن أن الداعية لا بد أن يأخذ بالأسباب ولا ينظر للناس بالسوء، لقد تلطف مع من حوله فنجح في هدايتهم.
لقد حوى كشف المستور عن حياة الشيخ الغضبان وما فيها من أسرار كثيرة منذ صغره حتى نهاية حياته، حيث تحدث فيها دون أن يخفي أي مستور ربما يكون له تأثيره على الناس.
هذه خلاصة ما كان د. منير الغضبان رحمه الله يدندن حوله منذ سنة 1971 إلى أن توفاه الله تعالى بالقرب من غار حراء حيث بدأ نزول الوحي قبل 15 قرناً خلت، وشاءت الأقدار أن يعيش “عاشق السيّرة” هناك ويموت هناك.