قدَّمنا في المقالَيْن السابقَيْن أن رحلات الحج التي سجلها مستشرقون مرُّوا ببلادنا وحجوا متنكرين قد تركت لنا ثروة تاريخية لأحوال هذه البلاد، ومن ثَمَّ فقد كانت لنا فرصة نرصد فيها أحوال مصر قبل وبعد دخولها في الحداثة عبر المقارنة بين رحلتي «جوزيف بتس» و»ريتشارد بيرتون»، وبينهما 200 عام.
وذكرنا في المقال السابق ما بين الرحلتين والرحالتين من فروق في النظرة والمنهج وطبيعة الرحلة، وفي هذا المقال نرى كيف تغير وجه مصر بعد الحداثة، وسنفاجأ بأن الحداثة في مصر إنما قادتها إلى مزيد من الضعف والفقر وضعف الدين وتسلط الأجانب.
لقد تغير الكثير في مصر عبر 200 عام، ما بين عهد المماليك تحت السيادة الاسمية للعثمانيين، وعصر الجبار «محمد علي» وأولاده، لقد شهدت مصر نظاماً جديداً يدخل عليها مع «محمد علي» الذي استقل بها من السيادة العثمانية وقلب نظامها السياسي وميزانها الاجتماعي وخططها الاقتصادية، وقد بدا هذا واضحاً في صفحات الرحلتين، ومن بين كثير من هذه الملامح اخترنا ثمانية أوجه من وجوه الحياة في مصر، نرصد من خلالها تطور أحوال المجتمع المصري بين قرنين.
أولاً: الوفرة الاقتصادية:
لم تتغير حال مصر في شأن الوفرة الاقتصادية بين القرنين، فتلك الأرض التي أطلق عليها «خزائن الأرض» و»مخزن المال والرجال» ظلت محتفظة بخيراتها.
يورد «بتس» أن القافلة المصرية الذاهبة إلى الحج كانت أحسن تسليحاً وأحسن نظاماً وأكثر أمناً، وهي التي تحمل كسوة الكعبة، ولهذا يفضلها الحجاج على غيرها من القوافل، والقاهرة وافرة العدد تغص بالناس وتزدحم بهم، حتى إن بعض الناس يفقد حذاءه من الزحام، ويُطلب الحمار في مصر كما تُطلب العربات في بريطانيا لذلك الوقت، وهي تغص بالبضائع والتجار والسفن التي تحمل البضائع، وتُرش الشوارع مرتين يومياً بالنهار للتخفيف من درجة الحرارة، ويتجول بعض الناس بالماء للعطشى مجاناً، لكن بعض الشاربين يعطيهم مبلغاً يسيراً، والأسواق تشهد وفرة غذائية والأسعار رخيصة، وفي مصر تُعدُّ أفران صناعية لتهيئة عملية فقس الكتاكيت دون الحاجة إلى حضانة الدجاجات الأمهات، ومع هذا فالمتسولون كُثر والطبقات الفقيرة يبدو عليها الهزال والنحول.
ويتحدث «بيرتون» عن الخانات التي تغص بالتجار في مصر، ويصف كثرة بضائعها، ويصفها بأنها في موقع وسط بين التخلف والتحضر، ومع هذا فإن دلائل الفقر والعوز والهزال تبدو على الناس والحيوانات التي تبدو عجفاء هزيلة سواء ما كان منها راقياً أو وضيعاً.
فكأن الرحالتين اتفقا على الوفرة الاقتصادية وعلى سوء توزيع الثروة في مصر.
ثانياً: الضعف السياسي:
وبالرغم من الوفرة الاقتصادية، فإن الضعف السياسي كان حال السلطة في مصر خلال القرنين، لكنها وإن كانت ضعيفة في زمن «بتس»، فإنها وصلت إلى حال مزرية في زمن «بيرتون»، ففي زمن «بيتس» كان البنادقة يسلكون بسفنهم إلى مصب النيل في البحر المتوسط عند رشيد ثم يسرقون الماء في سفنهم، ما يترتب عليه اصطباغ البحر بلون الطمي وتحول المصب إلى ماء عذب لمسافة غير قليلة في البحر، «وهم يفعلون ذلك دون التعرض لأي خطر، فليس لدى الأتراك أساطيل للدفاع عن ساحل مصر».
ولئن كان البنادقة يفعلون هذا تسللاً أو حتى إغارة خاطفة، فإن الأمر في زمن «بيرتون» كان أشد سوءاً؛ إذ أصبح هدف السيطرة على مصر يداعب أحلام الأوروبيين، وصار الرحالة البريطاني يفكر ماذا سيكسب الغرب من السيطرة على مصر، بل إن الغرب كان قد بدأ تنفيذ المشروع الأخطر الذي سيغير من جغرافية مصر الذي رفضه كل الحكام على مر العصور، وهو مشروع قناة السويس، وكانت مصر مكبلة باتفاقية عام 1840م التي جعلتها سوقاً مفتوحة للتجارة والصناعة الأوروبية، إلى الحد الذي كان حكام مصر أنفسهم –أسرة «محمد علي»- يشرعون قوانين تتحايل على هذه الهيمنة الأوروبية، كقانون نظام الدور في الشحن البحري مثلاً.
ثالثاً: المساجد:
إن مشهد المساجد لا يمكن أن يفوت زائراً للقاهرة، فلقد غصت القاهرة بالمساجد في زمان المماليك، وتنافس سلاطينهم في بنائها وزخرفتها ووقف الأوقاف عليها، ويتوقع «بتس» أن مساجد القاهرة بين خمسة آلاف وستة آلاف مسجد، وفيها ما هو ضخم مشيد متين، ولكل منها من يرعى أحوالها ويقدم الماء للعابرين.
تحول هذا المشهد البهيج بعد قرنين إلى مشهد آخر، فيتحدث «بيرتون» عما حل بالمساجد من إهمال عندما رآها، وذلك بعد سنوات قليلة من نهاية عهد «محمد علي»، وفي مطلع عهد ابنه «سعيد»، لقد بقيت المساجد كثيرة لكنها تعاني من قلة الرعاية، ويذكر أن مسجدي الأزهر والحسين كانا خاليَيْن من الزخارف، ثم يرصد أن النمط الذي بني مسجد «محمد علي» على مثاله يمثل انحطاطاً وسقوطاً لفن عمارة المساجد، وأن المصريين اعتبروا هذا الشكل «يبعث على الانقباض»، وذكر طرفاً من الأحوال البائسة التي خيمت على الأزهر بعد ما كان فيه من مكانة رفيعة.
رابعاً: أوضاع أهل الذمة:
لاحظ «بتس» أن المسلمين يرتدون عمائم بيضاء، بينما عمائم النصارى بيضاء مخططة بأزرق، وكلاهما يرتدون عباءات سوداء، بينما عباءات اليهود سوداء واسعة وغطاء الرأس عندهم ذو شكل شاذ، إلا أنه يعود فيقرر أنه لا يمكن التفرقة بين المسلمين والأقباط في مصر لتجانس الملامح والأزياء ووحدة اللغة.
ولا يختلف الأمر عند «بيرتون»، فهو يشير إلى العمائم الزرقاء التي يرتديها النصارى، كما يشير إلى شعور ديني عام واضح لدى المسلمين تجاه أهل الذمة، ولعل ذلك لما تمتعوا به من نفوذ واسع في زمن «محمد علي» وأبنائه؛ مما حرَّك مشاعر غضب وتحفز لم يشهدها «بتس».
وكان نساء أهل الذمة متحجبات في العهدين، فهذا مفهوم قول «بتس» الذي تحدث عن أنه حتى الجواري يُبَعْن في الأسواق متحجبات، وهو صريح قول «بيرتون» الذي ذكر بامتنان أن مسيحياً سورياً في مصر سمح له برؤية وجه زوجته.
خامساً: أحوال العبيد:
يتفق الرحالتان على أن العبيد في مصر أفضل حالاً من العبيد بل وحتى الخدم في أوروبا؛ فيذكر «بتس» أن الجواري يُعرضن للبيع محجبات، ولكن التاجر (وهو مالكهن في هذه الحال) هو من له الحق في التعرف على عيوبهن بتحسس الأسنان أو الوجه واختبار ما إن كن عذراوات أم لا «بطريقة غير متطرفة»، وأن العبيد لا يُجبرون على التحول إلى الإسلام لا في مصر ولا تركيا ولا الجزائر، وأن العبيد في مرحلة الشباب يتعلمون ويُلحقون بالمدارس وقد يتفوقون كأبناء سادتهم إن كانوا أذكياء، وإذا تحولوا إلى الإسلام تسير أمورهم على نحو أفضل، ويذكر أن العبيد الذين بيعوا في مصر يفخرون أنهم كيوسف عليه السلام الذي بيع في مصر أيضاً.
ويقرر «بيرتون» أن العبيد في مصر أحسن حالاً من الخدم في أوروبا، بل «الرقيق في بلاد الشرق عامة يأكل أفضل بكثير من الخدم أو حتى أفراد الطبقات الدنيا ممن هم ليسوا عبيداً (في بريطانيا)، فالشريعة الإسلامية تلزم المسلمين بمعاملة رقيقهم برقة بالغة، والمسلمون –بشكل عام- حريصون على الأخذ بتعاليم نبيهم، فالرقيق يعد فرداً من أفراد الأسرة».
في المقال القادم، إن شاء الله تعالى، نقارن بين أوضاع الأجانب وأوضاع الشرطة وأوضاع الخانات أو الوكالات التجارية والفنادق.