أحس بألم في رجله، أقلقه في نومه وأصابه بالسهاد، فقام يبحث وينقّب في خزانة الدواء عن بعض الحبوب المسكنة للألم علها تخفف عنه بعض ألمه أو تزيله عنه، وما إن وجدها حتى تناولها مسرعاً راجياً فيها الشفاء والراحة، ولم يتذكر أن يبدأ قبلها بالدعاء الذي هو أول مراحل الشفاء.
إن هذا هو حال كثير منا، فما إن نشعر بأدنى ألم إلا ونهرع إلى الطبيب لمعرفة الداء ووصف الدواء، وهذا مما تجيزه الشريعة بل وتأمر به، وهو من باب الأخذ بأسباب الصحة والعافية التي هي أمانة من الله عندنا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ اللهَ تعالى خلق الداءَ والدواءَ، فتداوَوْا، ولا تتداوَوْا بحرامٍ» (صحيح الجامع).
إهمال العلاج والدواء ينافي التوكل على الله والأخذ بأسباب سلامة البدن، لكن بعضنا -للأسف- قد يحرص عليها وحدها ويغفل ويتباطأ عن التداوي بما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم من أدعية الاستشفاء والتداوي بها أيضاً جنباً إلى جنب مع الأدوية الطبية.
«وإذا مرضتُ فهو يشفين»، قالها الخليل إبراهيم عليه السلام لقومه مستدلاً بها على ربوبية الله تعالى وقدرته، وداعياً لهم إلى الإيمان به وحده؛ فإن الله تعالى عالم الغيب والشهادة، لا يغيب عنه شيء ولا تخفى عليه خافية، فالمرض قد يتسبب في حدوثه فيروس دقيق لا يرى بالعين المجردة، أو يكون لسبب لا يعلمه أحد، وإنْ عَلِمه الطبيب فلا يملك شفاءه وإن عرف الدواء! لكن الله تعالى يرى كل ذلك ويعلمه، ويقدر عليه دون خلقه، ومن هنا وجب الدعاء في كل حال، وطرْق باب السميع العليم الذي بيده مفاتيح الشفاء التام وخزائن الرزق الواسعة من العافية والصحة والخير كله، سبحانه وتعالى.
إن الحياة الدنيا حياة ناقصة لا تكتمل لأحد ولو كانوا أنبياء الله، ولو استغنى أحد عن دعاء الله فيها لكان الأنبياء أول الناس في ذلك، لكن القرآن الكريم حكى لنا قصصهم وجعلهم قدوة لنا في دعاء الله وطلب العافية منه، وقد امتدح الله عبده ونبيه الصابر أيوب عليه السلام وقال: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ {83}) (الأنبياء)، وقد ذكر القرطبي في تفسيره أن أيوب وثب ليصلي فلم يقدر على النهوض، فقال: «مسني الضر» إخباراً عن حاله، لا شكوى لبلائه، وإن دعاءه إقرار بالعجز فلم يكن منافياً للصبر، ولا يُعد جزعاً؛ لأن الله تعالى قال: «إنا وجدناه صابراً»، والجزع إنما يكون في الشكوى إلى الخلق لا إلى الله تعالى، والدعاء لا ينافي الرضا.
دعا أيوب عليه السلام ربه، وكانت الإجابة بعد طول الابتلاء، قال تعالى: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ {84}) (الأنبياء)، فجعله الله قدوة لكل مبتلى ومريض إلى يوم الدين، ليعلم الجميع أن الدعاء الطويل وتأخر الشفاء وطول المرض واستمراره ليس سبباً لترك الدعاء، وإنما الدعاء والصبر وعدم التعجل من أسباب الإجابة وادخار الأجر والثواب، غير أن بعض المرضى –للأسف- وهو في غمرة الألم وخوف المرض، والحرص على الشفاء والعافية قد يغفل عن الدعاء وينساه، أو يتشكك في تأثيره والاستجابة له فيقول: «قد دعوتُ، وقد دعوتُ، فلم أرَ يُستجب لي».
مخ العبادة
إنه الدعاء تُكشف به الضراء وتُحفظ النعماء، وهو للبدن بمثابة الأمصال الواقية، والأدوية الناجعة، والعمليات الناجحة؛ فهو دافع للبلاء، مسكِّن للآلام، مخفض لحرارتها، مُذهب لآثارها، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «الدُّعاءُ ينفع مما نزل ومما لم ينزِلْ، فعليكم عبادَ اللهِ بالدُّعاءِ» (صحيح الجامع، وحسنه الألباني)، وقال: «لا يَرُدُّ القضاءَ إلَّا الدعاء» (صحيح الجامع، وحسنه الألباني)، وقال: «وإن البلاء لينزل فيلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة» (رواه الحاكم في صحيحه) و»يعتلجان»: أي يتصارعان، ووصفه بقوله: «الدُّعاءُ هو العبادةُ» (صحيح ابن حبان)، بل جعله مُخها ولبّها فقال: «الدعاء مخ العبادة» (رواه الترمذي).
قال المباركفوري في “تحفة الأحوذي”: “المُخ: نقي العظم والدماغ وشحمة العين وخالص كل شيء، والمعنى أن الدعاء لُب العبادة وخالصها لأن الداعي إنما يدعو الله عند انقطاع أمله مما سواه، وذلك حقيقة التوحيد والإخلاص ولا عبادة فوقهما.. وقال ابن العربي: وبالمخ تكون القوة للأعضاء فكذا الدعاء مخ العبادة به تتقوى عبادة العابدين فإنه روح العبادة”.
إن لكل داء دواء، ولكل دواء مكوناته ومقوماته التي تجعل منه دواء مناسباً للداء، وصالحاً للاستخدام، وفعالاً في التأثير، ومتى فقدَ بعضها صار هذا الدواء ناقصاً وغير أكيد في نتائجه، وربما قتل صاحبه! وهكذا الدعاء، له مكوناته ومقوماته وآدابه الشرعية، القلبية منها واللفظية، التي تأتي معها الاستجابة والقبول من الله عز وجل، ومن ذلك التوحيد الخالص يكون في قلب الداعي، واليقين في الله أنه هو وحده القادر على كشف الضر وذهاب الداء، وكلما كان الداعي بعيداً عن الشرك وأسبابه؛ كان إلى الإجابة أقرب، ومن مكونات الدعاء التام التذلل والخضوع؛ وذلك بمعرفة العبد ضعفه وعجزه، واعترافه بعبوديته لله وحده القادر على كل شيء.
وكما أن القلب السليم من الشرك، النظيف من الغل والحسد والكبر وسائر أمراض القلوب قريب من إجابة الدعاء، فكذلك يحظى بالقبول مَن كان ذا جسد نظيف من خبث التغذي بالحرام، وبدَن نقي من أقذار السحت والرشوة والمال الحرام، فمن كانت هذه صفته فله العاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة، لا سيما مع الإلحاح في الطلب وتزيين الدعاء بالثناء على الله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في أوله وآخره تقرباً بها إلى الله، شريطة ألا يدعو الداعي بإثم ولا بقطيعة رحم، ولا يدعو على نفسه أو أهله وأولاده وخدمه، بل ولا على الحيوان والدواب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ما على الأرضِ مسلِمٌ يدعو اللَّهَ تعالى بدعوةٍ إلَّا آتاهُ اللَّهُ إيَّاها أو صرفَ عنْهُ منَ السُّوءِ مثلَها ما لم يدعُ بمأثمٍ أو قطيعةِ رحمٍ فقالَ رجلٌ منَ القومِ إذًا نُكثرُ قالَ اللَّهُ أَكثَرُ” (صحيح الترمذي).
الدعاء قبل الدواء
قبل أخذ الدواء الذي وصفه لنا الطبيب، فإن علينا جميعاً أن نتوقف كثيراً في محطة الدعاء، دعاء الله تعالى وحده، وقد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس شيءٌ أكرَمَ على اللهِ مِن الدُّعاءِ» (صحيح ابن حبان)، فمن لم يتوقف في هذه المحطة المهمة فإنه يُغضِب الله تعالى الشافي المعافي من جميع الأمراض، فمع الدعاء يكون الدواء شفاءً بإذن الله، وبه يُقوّي الله البدن ويعافيه، ويهدي القلب، ويمنح الرضا، ويهب السكينة، ويورث المحبة والطمأنينة، وكل ذلك يحتاجه المريض أثناء مرضه.
إن دعاء الله تعالى وطلب الشفاء منه لهو علامة من علامات الإيمان واليقين، فكما يحرص المريض على تناول جرعات الدواء البشري، فهو لا يهمل الدواء الرباني، والتأدب بالأدب النبوي عند حلول المرض وحصول الابتلاء به، وقد يكون هذا الدواء الرباني متمثلاً في آيات من القرآن الكريم كسورة “الفاتحة” التي أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنها رقية، أو المعوذتين، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: إنه صلى الله عليه وسلم “كان إذا اشتكَى يقرأُ على نفسِه بالمُعوّذات وينفُث، قالت: فلما اشتدَّ وجعُه كنتُ أقرأُ عليه وأمسَحُ بيدِه رجاءَ بركتِها” (متفق عليه)، وفي روايةٍ لمسلمٍ: “كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا مرِضَ أحدٌ من أهلِه نفَثَ عليه بالمُعوِّذات”، فالقرآن شفاء كما قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) (الإسراء: 82).
وقد يكون الشفاء وتمام الدواء في دعاء نبوي يدعوه المريض، كما روي عن عثمانَ بنِ أبي العاصِ الثَّقفيّ؛ أنه شكا إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وجعاً، يجدُه في جسدِه منذ أسلمَ، فقال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «ضَعْ يدَك على الذي تألَّم من جسدِك، وقلْ: باسم اللهِ، ثلاثاً، وقل، سبعَ مراتٍ: أعوذُ باللهِ وقدرتِه من شرِّ ما أجدُ وأُحاذِرُ» (رواه مسلم)، وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى المريضَ يدعو لهُ قائلاً: «أذهِبِ الباسَ، ربَّ الناسِ، واشفِ أنتَ الشافي، لا شفاءَ إلا شفاؤُكَ، شفاءً لا يغادِرُ سَقَماً» (رواه مسلم)، وغير ذلك مما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
من أجل ذلك، فإن علينا عند العلاج الجمع بين الدواءين؛ بين دواء الأرض ودواء السماء، بين دواء الطبيب، ودواء خالق الطبيب؛ بين الدواء الذي وصفه لنا الطبيب الخاص، والدواء الذي وصفه لنا النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، فيتعانق دعاؤنا مع دوائنا فيقويه، ويزيد من فاعليته بإذن الله، وقبل أن يمسك أحدنا زجاجة الدواء لتناول جرعة العلاج، فليبدأ أولا بالدعاء.