رفع الله سبحانه وتعالى ذِكْر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، حيث ذكر ذلك في القرآن الكريم تكرماً منه على نبيه المصطفى (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ {4}) (الشرح)، فرفع ذكره وأعلى قدره ونشر اسمه وأظهر دينه ونوّه بشأنه وأعظم فضله؛ بما اختصه به من النبوة والرسالة والكلام والإسراء والمعراج حتى صعد مكاناً لم يبلغه أحد قبله، ولن يبلغه أحد بعده، وكذا بالشفاعة والمقام المحمود.
ومن باب الثناء عليه صلى الله عليه وسلم، أحببت أن أنقل ما قاله بعض المفسرين، وما يشهد عليه بعض الواقع، زيادة في حبه، وتلمساً للاقتداء به في سلوكه حتى يدخلنا الله في دائرة ذكره سبحانه.
في بريطانيا، فيما كان “أوليفر”، و”هاري”، و”جورج” أكثر الأسماء شعبية للأولاد في البلاد، تبوأ اسم “محمد” صدارة الترتيب في كل من العاصمة البريطانية ويوركشاير وويست ميدلاندز، وأشار علماء الأبحاث إلى أنه إذا أخذت الصيغ المختلفة لكتابة اسم “محمد” بعين الاعتبار، فإنه سيتصدر القائمة(1).
ورفع الذكر مجاز في إلهام الناس لأن يذكروه بخير، وذلك بإيجاد أسباب تلك السمعة حتى يتحدث بها الناس، استعير الرفع لحسن الذكر لأن الرفع جعل الشيء عالياً لا تناله جميع الأيدي ولا تدوسه الأرجل، فقد فطر الله رسوله صلى الله عليه وسلم على مكارم يعز وجود نوعها ولم يبلغ أحد شأو ما بلغه منها حتى لقب في قومه بالأمين، وقد قيل: إن قوله تعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ {19} ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ {20} مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ {21}) (التكوير) مراد به النبي صلى الله عليه وسلم. (ابن عاشور، التحرير والتنوير).
وعن مجاهد (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ {4}) قال: لا أُذْكَرُ إلا ذُكْرِتَ معي؛ أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وعن قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب، ولا متشهد، ولا صاحب صلاة، إلا ينادي بها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله (الطبري).
وفي السعدي: أعلينا قدرك، وجعلنا لك الثناء الحسن العالي، الذي لم يصل إليه أحد من الخلق، فلا يذكر الله إلا ذكر معه رسوله صلى الله عليه وسلم، كما في الدخول في الإسلام، وفي الأذان، والإقامة، والخطب، وغير ذلك من الأمور التي أعلى الله بها ذكر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وله في قلوب أمته من المحبة والإجلال والتعظيم ما ليس لأحد غيره، بعد الله تعالى، فجزاه الله عن أمته أفضل ما جزى نبياً عن أمته.
وفوق ذلك فقد رفعنا لك ذكرك، بأن جعلناك رفيع الشأن، سامى المنزلة، عظيم القدر، ومن مظاهر ذلك: أننا جعلنا اسمك مقروناً باسمنا في النطق بالشهادتين، وفي الأذان، وفي الإقامة، وفي التشهد، وفي غير ذلك من العبادات، وأننا فضلناك على جميع رسلنا، بل على جميع الخلق على الإطلاق، وأننا أعطيناك الشفاعة العظمى، وجعلنا طاعتك من طاعتنا (الوسيط لطنطاوي).
ورفع ذكره قبل أن يخلقه، فتواترت بذكره الكتب المتقدمة حتى قال المسيح عليه السلام: (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) (الصف: 6)، وأخذ الله تعالى الميثاق على النبيين بالإقرار به قبل ولادته وبعثه: (وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ {81}) (آل عمران).
في تقرير لها، قدرت شركة “ديلويت” للخدمات المهنية والاستشارية، عدد المساجد حول العالم بنحو 3 ملايين و600 ألف مسجد، هذا الرقم يعني أن هناك مسجداً واحداً لكل 500 مسلم تقريباً، التقرير الذي تم إعداده بالتعاون مع مركز دبي لتطوير الاقتصاد الإسلامي رجح أن يصل عدد المساجد إلى ما يقرب من 4 ملايين بحلول عام 2019م(2).
وبمعنى آخر؛ أن الله تعالى لا يُذكر إلا ويُذكر معه رسوله، فالأذان إلى اليوم يطوف بالأرض ويدور مع دوران الفلك من غير انقطاع في ملايين المساجد، وفق خطوط الطول والعرض.
قال ابن كثير وآخرون: رفع الله ذكره في الأولين والآخرين، ونوه به، حين أخذ الميثاق على جميع النبيين أن يؤمنوا به، وأن يأمروا أممهم بالإيمان به، ثم شهر ذكره في أمته فلا يُذكر الله إلا ذكر معه، وحكى البغوي عن ابن عباس ومجاهد، أن المراد بذلك: الأذان؛ يعني: ذكره فيه، وأورد من شعر حسان بن ثابت:
وضم الإله اسم النبيّ مع اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد
وفي القرطبي: عن ابن عباس، قال: يقول له: لا ذكرت إلا ذكرت معي في الأذان، والإقامة والتشهد، ويوم الجمعة على المنابر، ويوم الفطر، ويوم الأضحى، وأيام التشريق، ويوم عرفة، وعند الجمار، وعلى الصفا والمروة، وفي خطبة النكاح، وفي مشارق الأرض ومغاربها.. ولو أن رجلاً عبد الله جل ثناؤه، وصدق بالجنة والنار وكل شيء، ولم يشهد أن محمداً رسول الله، لم ينتفع بشيء وكان كافراً، وقيل: أي أعلينا ذكرك، فذكرناك في الكتب المنزلة على الأنبياء قبلك، وأمرناهم بالبشارة بك، ولا دين إلا ودينك يظهر عليه.. وقيل: رفعنا ذكرك عند الملائكة في السماء، وفي الأرض عند المؤمنين، ونرفع في الآخرة ذكرك بما نعطيك من المقام المحمود، وكرائم الدرجات.
وقال الرازي: واعلم أنه عام في كل ما ذكروه من النبوة، وشهرته في الأرض والسماوات، وأنه يذكر معه في الشهادة والتشهد، وأنه تعالى ذكره في الكتب المتقدمة، وانتشار ذكره في الآفاق، وأنه ختمت به النبوة، وأنه يذكر في الخطب والأذان ومفاتيح الرسائل، وعند الختم، وجعل ذكره في القرآن مقروناً بذكره: (وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ) (التوبة: 62)، (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ) (النساء: 13)، و(قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (النور: 54)، ويناديه باسم الرسول والنبي، حين ينادي غيره بالاسم يا موسى، يا عيسى، وأيضاً جعله في القلوب بحيث يستطيبون ذكره وهو معنى قوله تعالى: (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً {96}) (مريم).
كأنه تعالى يقول: أملأ العالم من أتباعك كلهم يثنون عليك ويصلون عليك ويحفظون سنتك، بل ما من فريضة من فرائض الصلاة إلا ومعه سنة فهم يمتثلون في الفريضة أمري، وفي السنة أمرك، وجعلت طاعتك طاعتي وبيعتك بيعتي (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ) (النساء: 80)، (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ) (الفتح: 10)، لا تأنف السلاطين من اتباعك، فالقراء يحفظون ألفاظ منشورك، والمفسرون يفسرون معاني فرقانك، والوعاظ يبلغون وعظك، بل العلماء والسلاطين يصلون إلى خدمتك، ويسلمون من وراء الباب عليك، ويمسحون وجوههم بتراب روضتك، ويرجون شفاعتك، فشرفك باق إلى يوم القيامة.
هل يرفع الله ذكرنا؟
وقد علم الله تعالى ما في الإنسان من حب الذكر، فحث على ذكره سبحانه لينال ذكر الله تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (البقرة: 152)، وقال سبحانه في الحديث القدسي: “أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأ خَيْرٍ مِنْهُمْ” (رواه الشيخان).
وكلما كان العبد أكثر ذكراً لله تعالى، ودعوة لدينه، وإخلاصاً له، واتباعاً لرسوله؛ كان أكثر رفعة، وأرفع ذكراً، وأعلى مكاناً في الدنيا والآخرة؛ ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أعلى الناس مقاماً، وأرفعهم ذكراً، لذا امتن الله عليه: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ {4})، ومن رفع الله تعالى ذكره فلن يخفضه شيء، ولو اجتمع الناس كلهم على خفضه، ومصداق ذلك قول النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِذَا أَحَبَّ الله العَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ الله يُحِبُّ فُلاَناً فَأَحْبِبْهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ الله يُحِبُّ فُلاَناً فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي الأَرْضِ” (متفق عليه).
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً {56}) (الأحزاب)، وهذا فيه تنبيه على كمال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم، ورفعة درجته، وعلو منزلته عند الله وعند خلقه، ورفع ذكره، فالله وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عليه، أي: يثني الله عليه بين الملائكة، وفي الملأ الأعلى، لمحبته تعالى له، وتثني عليه الملائكة المقربون، ويدعون له، وينادينا الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً {56}) اقتداء بالله وملائكته، وجزاء له على بعض حقوقه عليكم، وتكميلاً لإيمانكم، وتعظيماً له صلى الله عليه وسلم، ومحبة وإكراماً، وزيادة في حسناتكم، وتكفيراً من سيئاتكم (السعدي، بتصرف).
ــــــــــــــــــــــــــــ
الهامشان
(1) ‘Muhammad replaces William in the top 10 boys names’
The Independent 21/9/2017
(2) http://www.constructionweekonline.com/article-34078-smart-mosques-highlighted-in-deloitte-report/