هذه المقالة تقوم على فرضية مفادها أن المجتمع المريض يوجد به بالضرورة مثقف مريض, إن العلاقة طردية بينهما أي أنه كلما زاد مرض المثقف زاد مرض المجتمع الذي يوجد فيه, وكلما كان المثقف أكثر صحة وسلامة كان المجتمع كذلك. كما تنطلق هذه الرؤية من مبدئية تعريف المثقف – الذي نؤمن به ونعتقد في صوابيته – وهي أن المثقف هو ذلك الشخص الذي يمتلك الحقيقة الاجتماعية ويبارز من أجل امتلاك ” الناس” لها, والدفاع عنها..إن من أكبر الكبائر أن ينشق المثقف عن المجتمع..بصمته وابتعاده عن المبارزة بالحقيقة التي يملكها.
الخلل النفسي للمثقف
إن الخلل الذي يعانيه المجتمع الإسلامي ويرتبط بدور المثقف ووظيفته, هو ذلك الخلل الموجود في البيئة الثقافية لهذا المجتمع, والذي لم تمتد إليه يد المثقف بالعناية والعلاج, بل زاد من مرضه أن أصبح المثقف هو الآخر جزء من الآفات التي نبتت في هذه البيئة يفكر مثلها, وعلى طريقتها, ويستخدم وسائلها وينغمس في شهواتها.
ومن ثم تظهر لنا “طبقة المثقفين” في صورة ضعيفة وراكدة غير قادرة على إحداث أي تحول فكري أو اجتماعي , بل إنه هو نفسه قد فقد القناعة بأهمية الفكرة في التغيير الاجتماعي وأصبح “يدور في فلك الأوثان بدلًا من أن يُكرس نفسه لخدمة الأفكار”.[2]
ويظهر في تلك البيئة المريضة ذلك المثقف “المتعالِم” “الذي بتر فكر النهضة فلم ير في مشكلتها إلا حاجاته ومطامعه, دون أن يرى فيها العنصر الرئيس لما في نفسه من كساد.. هذا المتعالم مريض ولا سبيل إلى مداواته؛ لأن عقل هذا المريض لم يقتن العلم ليُصيره ضميرًا فعالًا؛ بل ليجعله آلة للعيش, وسُلمًا يصعد به إلى منصة البرلمان. وهكذا يصبح العلم مُسخة وعملة زائفة, غير قابلة للصرف, وأن هذا النوع من الجهل لأدهى وأمر من الجهل المطلق”.[3]
المثقف وحتمية المجتمع
إن من أكبر الأخطار هو تجريد المثقف من وسط المجتمع. ولو تجرد المثقف من وسط مجتمعه، فإنه حتى وإن صعد إلى العرش، أو أصبح معلّم جميع مثقفي العالم، لبقي مجتمعه على نفس الانحطاط المستمر، كما رأينا في القرنين الخامس والسادس الإسلاميين، اللذين ضمّا كبار مفكرينا كابن سينا والغزالي وأمثالهما، الذين هم معلمو دنيا البشرية، ولكن مجتمعنا كاد يموت في نفس ذلك الانحطاط السائد في العصر السلجوقي والغزنوي، لماذا؟ لأن مثقفنا كان قد تجرد من مجتمعه، ولو كان قد جاء “أبو ذر” واحد بدلًا من آلاف أمثال ابن سينا والغزالي والفخر الرازي وزكريا الرازي، لكانت جميع المجتمعات الإسلامية قد تخلّصت من تلك النظم السلجوقية والغزنوية والمغولية.[4]
المثقف والحقيقة الاجتماعية
المثقف ليس هو من يحمل الشهادات العلمية ولا المتخصص في العلوم والمعارف أو المتعمق فيها, ولكن المثقف هو صاحب الدراية الاجتماعية أو الحقيقة الاجتماعية التي يمتلكها ويبارز من أجل توعية “الناس” وهدايتهم إليها, فما الحقيقة الاجتماعية؟
الحقيقة الاجتماعية هي الوعي بكل “العناصر الحية” و”العناصر الميتة” التي تؤثر في المجتمع وفي حركته وفي نشاطه إيجابًا ( العناصر الحية) وسلبًا (العناصر الميتة), فعناصر اللغة والدين والثقافة والتاريخ في غالبها تمثل عناصر حية وإيجابية للمجتمع, والنزاعات والانقسامات والتفاوتات الاجتماعية والطبقية في غالبها تمثل عناصر ميتة للمجتمع.
والحقيقة الاجتماعية: هي الوعي بعناصر النباهة العقلية للفرد والنباهة الاجتماعية للمجتمع, والوعي كذلك بكل عوامل تزيف هاتين النباهتين ( العقلية والاجتماعية) وبكل من يحاول أن يزيفهما أو يخرجهما عن مجال التفكير الحيوي مصير الناس (الفرد -والمجتمع), ومن قم فإن الوعي بمشروعات التغريب وحقيقة الاستعمار-الذي لم يرحل بعد- والقابلية للاستعمار, وواقع كلًا منهما في حياة المجتمع هو قلب تلك الحقيقة الاجتماعية.
والحقيقة الاجتماعية –أيضًا- هي الوعي بحالة الدجالة التي تمارس على الناس:الدجالة الدينية أو باسم الدين: وهي أسوأها على الإطلاق لأنها تستخدم المقدس لتبرير المدنس وتمريره باسم الدين, ويلبسون فيه زي العلماء ويتشبهون بزي الرسول, ويحملون القرآن لا يتجاوز حلوقهم ثم يدعون للغاصب المستبد بطول العمر, ويدعون” الناس” لطاعته باسم الله واسم الدين واسم الرسول. وهكذا أيضا: الدجالة السياسية , والدجالة الاجتماعية, والدجالة الإعلامية..وكلها تمارس تزيف النباهتين العقلية والاجتماعية, من أجل صرف الناس إلى التفكير في غير مصيرهم, وفي غير عدوهم الحقيقي, وفي غير الأسباب والعوامل التي أدت بهم إلى أسوأ أنواع التردي والتخلف والانحطاط.
والحقيقة الاجتماعية- أيضًا- هي الوعي بكل ما يمارس على الناس من وسائل إلهاء بالجنس أو الرياضة أو الدراما أو المخدرات أو الانترنت أو مواقع الترفيه, أي الوعي بكل ما يصرف الناس عن حقوقهم وعن كيفية الحصول عليها, وصرفهم عن الانتباه عن حقيقة وجودهم وعن مكانتهم في الخلق.
والحقيقة الاجتماعية كذلك هي الوعي بكل طيف ألوان الفساد, والتزوير والرشى, رشى أخلاقية, وتزوير في الدرجات العلمية والوثائق الرسمية وغير الرسمية, والعصابات الحاكمة في كل مجالات المجتمع بهدف تضليله: في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتعليم ..و..و..الحقيقة الاجتماعية هي بكل تأكيد الوعي بالقوى التي تكرس في المجتمع رباعية التخلف ( الجهل, والمرض, والفقر, وتزيف الوعي) ..
هذا مما يدخل في مفهوم الحقيقة الاجتماعية.[5]
رصد الواقع من النظرة الإيديولوجية لا الدراسات الموضوعية
وجه آخر من وجوه مرض المثقف عندنا أن يرى الواقع في ضوء نظرته الإيديولوجية المغلقة المحدودة بحدودها الفكرية والعاطفية الآسرة للنظرة الموضوعية والعلمية. إن المثقف عليه أن يرى المجتمع – ميدان عمله- على “حقيقته” بكل إشكالاته ومشكلاته وأمراضه وإصاباته, وهذه “الحقيقة” تقتضي بالضرورة أن يرى المجتمع من كل جوانبه وبكافة مكوناته, وهذا يتطلب بالضرورة أن يراه من كل زوايا رؤيته ومن كل وجوهها..ولعل العائق أو المرض الذي يبتلى به المثقف هنا يتمثل في اختزال المثقف رؤية الواقع من خلال أيدلوجيته من ذلك المنحى الضيق جدًا..ومن ثم يبني رؤيته من هذا المنظور الأيدلوجي الضيق ..فلا يصل إلى تكوين رؤية صحيحة أو حقيقة لحالة المجتمع .. ومن ثم يبني تصوره على مجموعة من أوهام أيدلوجيته في تعامله مع المجتمع ومع إشكالاته على هذا النحو.
وعلاج هذا المرض أن ينظر المثقف إلى المجتمع لتشخيصه من خلال رؤى متعددة, ومن أنساق فكرية مختلفة, وهذا لا يحققه مجرد النظر العقلي –على أهميته- ولكن في ضوء التطور الفكري الحاصل لابد وأن تمثل دراسات الواقع جزءا مهما في تكوين تلك الرؤية, مع امتلاك المثقف رؤية نقدية يستطيع أن يميز بين غث هذه الدراسات وثمينها..وبين الدراسات التي تتبنى وجهة نظر النظم الحاكمة والدراسات الموضوعية الإمبريقية ( التجريبية) ذات الأدوات الأكثر حيادية.. وهذه الدراسات تتجاوز الاختزال الحاصل في الرؤية الأيدلوجية من ناحية كما أنها تقدم وجهات نظر متعددة ومن زوايا مختلفة لحالة المجتمع وأمراضه وعلله الحقيقة لاسيما فيما يتعلق بالأسباب الكامنة والمختفية عن السطح والظاهر.
طرح الحلول في صورة مسلمات لا في صورة قضايا
هذا أيضا من أعراض مرض المثقف, ويتمثل في طرح الحلول وتقديمها في صورة مسلمات لا يساعد على تفهمها ولا تحقيق الاقتناع بها على المستوى العملي والواقعي, فالقول مثلًا بأن حل مشاكلنا يكمن في الالتزام الديني والانصياع لأوامر الإسلام هذا من قبيل المسلمات لأنه إيمان قلبي واعتقادي بالأساس, ولكنه لا يساعد في تحقيق الاقتناع العملي والواقعي به, ومن ثم لابد من تحويل هذا “الحل” من مسلمات إلى صيغة قضايا تكون قابلة للنقاش والجدال العقلي والفهم ..وهذا التحويل يتطلب تحويل تلك المسلمة ” الإسلام” إلى قضايا معرفية أو حلول فكرية في صورة برامج يكون عنونها كيف يمكن تحويل الإسلام ذاته –بطبيعته وقابليته لذلك – إلى برامج قيم يتم تنزيلها على الواقع العملي والتطبيقي.
الهوامش:
[1] أستاذ أصول التربية المساعد – جامعة دمياط- مصر
[2] مالك بن نبي. مشكلة الأفكار، ص84.
[3] مالك بن نبي. شروط النهضة، ص84.
[4] علي شريعتي: مسؤولية المثقف.
[5] علي شريعتي: النباهة والاستحمار.