شغل الشيخ محمد الغزالي –رحمه الله– نفسه بالحق.. فملأ الدنيا نورا، وشغل الناس والنفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل..
دافع عن الإسلام بالقلم والفكر.. والحوار.. والكتابة في الحل والترحال..
دافع عن الإسلام والعروبة.. والوطن.
دافع عن العقيدة والأرض… والعرض في مصر -قلب العالم العربي والإسلامي- فكرا وقيادة وريادة، وفي العالم العربي والعالم الإسلامي علما وعملا..
دافع عنه في الجامع والجامعة.. في المحكمة والقضاء.. في وسائل الإعلام.. لا يخشى في قول الحق لومة لائم.. ومات وهو يدافع عن الإسلام..
فطوبى له وحسن مآب.
إن عظمة الشيخ الغزالي -رحمه الله- أنه كان يترجم ويقول ما في عقولنا وصدورنا وقلوبنا بلا خوف، لقد كان ممثلا أمينا للمستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها.
وكان ناطقا باسم المحرومين، وباسم الأغلبية الصامتة من جماهير المسلمين..
كان صوت من لا صوت لهم والمتحدث الرسمي باسمهم.. وكان نتاج الأرض الطيبة (مصر) التي شرفت بالإسلام.. وشرف الإسلام بها.
لن يجف مداد قلمه؛ لأن فكره باق معنا بعد أن استرد الله وديعته.. الفكر باق كعلم ينتفع به..
لهذا فإن الشيخ الغزالي لم ينقطع عنا ولن ينقطع عنا أبداً.. وكيف ينقطع الحق وهو متصل بالسماء..
وكيف ينقطع العلم.. وهو مرتبط برب الكون..
وعظمة الشيخ الغزالي أنه كان مصباحا لنا في دياجير الظلام، وكان شعلة مضيئة تعطينا الأمل وتهدينا الطريق، وتثبت من أقدامنا وسط الإرهاب والمؤامرات والظلم والظلمات.
كان الشيخ الغزالي ضد الإرهاب وضد التطبيع والاستسلام والخنوع والذل.
ضد الانبطاح والهرولة وبيع الأوطان وبيع الضمائر.
كان شعلة لا تنطفئ.. ونارا تحرق الظالمين والمستكبرين وطواغيت الكفر أينما كانوا وحيثما حلوا.
من أجل هذا كان صوته القوي المجلجل بالحق ضرورة. وكان إيمانه اليقيني بحتمية النصر للمؤمنين والمسلمين الصادقين يشع على قلوب الأحباب والأتباع والأصحاب دفئا.. وأملا وبشرى.
كان شيخا لنا ورائد ومربيا وقائدا.. ولعلي لا أكون مغالياً إذا قلت: إنه كان واحداً من سلاطين الدين الذين يعلو سلطانهم على سلاطين الدنيا..
فالسلطان هو سلطان الدين.. وأنعم به من سلطان.. وأكرم به من أمير.
مشوار الشيخ الغزالي
ولد الشيخ الغزالي في 22 ديسمبر 1917 في إحدى قرى محافظة البحيرة، وحفظ القرآن الكريم وهو في سن العاشرة، ثم التحق بالمعهد الديني بالإسكندرية حتى نال شهادة الكفاءة ثم الشهادة الثانوية. ثم درس في كلية أصول الدين بالأزهر الشريف وتخصص في الدعوة والإرشاد، ثم حصل على شهادة العالمية.
وقد تلقى العلم عن الشيخ محمود شلتوت والشيخ محمد أبو زهرة ود. محمد يوسف موسى وغيرهم..
يتحدث الشيخ محمد الغزالي عن لقائه الأول بالإمام الشهيد حسن البنا فيقول: “كان ذلك أثناء دراستي الثانوية في المعهد بالإسكندرية، وكان من عادتي لزوم مسجد “عبد الرحمن بن هرمز” حيث أقوم بمذاكرة دروسي، وذات مساء نهض شاب لا أعرفه يلقي على الناس موعظة قصيرة شرحاً للحديث الشريف: “اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن”، وكان حديثاً مؤثراً يصل إلى القلب.. ومنذ تلك الساعة توثقت علاقتي به.. واستمر عملي في ميدان الكفاح الإسلامي مع هذا الرجل العظيم إلى أن استشهد عام 1949”.
وكتب الإمام الشهيد حسن البنا للشيخ محمد الغزالي يوماً عام 1945: “أخي العزيز الشيخ محمد الغزالي، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته… وبعد..
قرأت مقالك “الإخوان المسلمون والأحزاب” في العدد الأخير من مجلة “الإخوان” فطربت لعبارته الجزلة ومعانيه الدقيقة وأدبه العف الرصين، هكذا يجب أن تكتبوا أيها الإخوان المسلمون.. اكتب دائماً وروح القدس يؤيدك، والله معك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته”.
ومن يومها أطلق الشيخ حسن البنا على الشيخ الغزالي لقب “أديب الدعوة”.
تظاهرات من أجل الشيخ الغزالي مرتين في مصر
يمكن أن نقول: إن الشيخ الغزالي هو الشيخ العالم الوحيد الذي قامت من أجله المظاهرات العامة في مصر تأييداً له.
المرة الأولى أيام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر أثناء وضع الميثاق الوطني، فاعترض الشيخ الغزالي رحمه الله على الجانب اليساري العلماني من الميثاق، فرسم صلاح جاهين -الرسام الكاريكاتيري- رسوماً ساخرة في نصف صفحة في “الأهرام” ساخراً من الشيخ الغزالي وعمامته! فخرجت الجماهير المصرية المسلمة غاضبة وحطمت واجهة جريدة “الأهرام”، واضطر الرسام صلاح جاهين أن يقدم اعتذاراً، واضطرت “الأهرام” أن تنشر اعتذاراً أيضاً.
والمرة الثانية في عهد الرئيس الراحل أنور السادات أثناء تغيير قوانين الأحوال الشخصية فاعترض الشيخ وخرجت الجماهير المسلمة بتحريض من الشيخ الغزالي.
“جدد حياتك”.. والشيخ الغزالي
أصدر شيخنا هذا الكتاب ليعالج الأمراض النفسية من خلال القرآن الكريم والسنة الشريفة والتراث الإسلامي والتاريخ البشري..
يقول الشيخ: “لقد قرأت كتاب “دع القلق وابدأ الحياة” للعلامة ديل كارينجي الذي عربه الأستاذ عبدالمنعم الزيادي، فعزمت فور انتهائي منه أن أرد الكتاب إلى أصوله الإسلاميّة، وإذا كان ديل كارينجي يحيا بقرائه في جوّ أمريكي بحت فمن واجبي أن أعيش مع قرائي في جو عربي خالص”.
لقد قرأت الكتاب “جدد حياتك” أكثر من ست مرات، وسعدت بقراءته، وسعدت خاصة بقراءة هذه الفصول:
– عش في حدود يومك.
– كيف نزيل أسباب القلق؟
– لا تدع التوافه تغلبك على أمرك.
– حياتك من صنع أفكارك.
– هل تستبدل مليون جنيه بما تملك؟
– أنت نسيج وحدك.
– اصنع من الليمونة الملحة شراباً حلواً.
– بقدر قيمتك يكون النقد الموجه إليك.
– كن عصياً على النقد.
– حاسب نفسك.
وأنا أنصح الشباب العربي والشباب المسلم بقراءة هذا الكتاب مرات ومرات.
جهود الشيخ الغزالي في التقريب بين المذاهب الإسلاميّة
شهد شيخنا الغزالي مولد “دار التقريب بين المذاهب الإسلاميّة” في القاهرة في الأربعينيات، ومن يومها وللشيخ مواقفه المتميزة في مجال التقريب علماً وعملاً ونشراً وحضوراً.
كان يحضر مؤتمرات الوحدة الإسلاميّة في طهران وغيرها من العواصم الإسلاميّة .
وما زلت أذكر الرسالة الخطية التي بعث بها الشيخ الغزالي من القاهرة للمؤتمر العالمي السابع للوحدة الإسلاميّة بطهران عام 1994 (تليت نيابة عنه) وقد أوضح فيها أن الأعداء يتربصون بالإسلام والمسلمين ويحيكون المؤامرات ضدهم ويهددون حاضرهم ومستقبلهم، ولهذا فإن هذه الأوضاع توجب علينا الاتحاد والتعاون وجمع الكلمة وتوحيد الصفوف. ورأى الشيخ الغزالي أنه قد آن الأوان لعقد تحالف مشترك للدفاع عن أصولنا الفقهية من ميادين التربية والأخلاق والفقه الجنائي والدولي والدستوري.
ونادى الشيخ أيضاً بضرورة عقد هدنة عامة في ميدان الفقه الفرعي.
وختم الشيخ رسالته للمؤتمر بقوله: “إن حضارة الغرب تكره الله وتنفر من الحديث عنه وعن لقائه يوم الجزاء، كما تكره ربط القانون بمواريث الدين إجمالا، وهي تتظاهر بأنها تجافي الأديان جملة.. وهذا كذب، فهي ناشطة في محاربة الإسلام وحده، وقد أقامت هيئة الأمم دولة لليهود على أنقاض العرب والمسلمين، إن التهديد يتجه للإسلام وأمته ونهضته، وإذا لم نستيقظ على عجل هلكنا”.
رحم الله الغزالي شيخنا وحبيبنا، ونفع الله المسلمين شيوخاً وشباباً بعلمه وكتبه وتراثه. وأثابه الله وجزاه عنا خير ما يجزي عباده الصالحين.
وسلام على روحه الطاهرة وتحية…
ولله ما أعطى.. ولله ما أخذ.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.