يسعى العقلاء إلى تحقيق مكاسب وانتصارات مستمرة تضمن تقدمهم في مختلف المجالات.
– يدرك الجميع أن الانتصار يغري بانتصار بعده، كما أن الهزيمة والفشل قد تكون بداية انهيار وتراجع مستمر؛ ما لم يتدارك المهزوم نفسه بانتصار قريب.
– تعددت صور الانتصار وتنوعت؛ فمنها ما هو فردي وجماعي، ومنها ما هو مادي ومعنوي، ومنها ما هو مرحلي واستراتيجي، ومنها ما هو قائم وقادم، ومنها ما هو وجداني وفكري وبدني، ومنها ما هو كلي وجزئي.
– يعتقد البعض أنه لا يمكن له تحقيق انتصار إلا إذا سحق الآخرين وحطمهم ومرغ أنوفهم بالتراب، والصحيح أن انتصار الإنسان على ذاته، بعد طول مجاهدته لنفسه في تغيير عادة أو ترك هوى هو أعظم انتصار.
– للانتصارات الحقيقية على مدار التاريخ سنن لعل من أبرزها:
١. وحدة الفريق وجمع كلمته وائتلاف صفه على الهدف الواحد.
٢. متابعة الأخذ بالأسباب الأمنية والإيمانية اللازمة (عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله).
٣. تجاوز التحديات العارضة واستثمار الفرص المتاحة.
٤. إعداد العَدد (الإنسان) والعِدد (الأدوات).
– حقَّق النبيُّ صلى الله عليه وسلم أعظم انتصار يوم فتح مكة، وكان انتصاراً ثنائي الأبعاد؛ فهو فتحٌ للبلاد من جهة، وفتحٌ لقلوب العباد من جهة أخرى، وفي ذلك قال تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا}.
– كان العرب يُتبعون انتصاراتهم الحربية بـ(الإثخان) في خصومهم، وملاحقتهم في عقر ديارهم، لأجل ذلك لا يمكننا تسمية ما جرى يوم بدر من (مصيبة) لنا: انتصارا لعدونا الذي خاف أن يتقدم خطوة نحو المدينة المنورة، وقد أدرك أبو سفيان زعيم جيش قريش ذلك حين قال لجيشه:
“لا محمداً أصبتم، ولا الكواعب أردفتم، فبئس ما صنعتم”.
– من انتصاراتنا الزائفة أو الشكلية وهي كثيرة، ما يأتي:
١. انتصاراتنا على الضعفاء والبسطاء والعاجزين.
٢. انتصاراتنا على إخواننا وأحبابنا في نزاعات شخصية.
٣. انتصاراتنا في ميادين اللعب وقت الجد.
٤. انتصاراتنا المادية في وقت هزيمتنا الذوقية والأخلاقية (ولك أن تنظر في مشهد دخول النبي صلى الله عليه وسلم فاتحا لمكة لتتعلم أخلاق المنتصرين).
٥. انتصاراتنا الخارجية في وقت هزيمتنا النفسية الداخلية.
٦. انتصاراتنا في معارك جانبية، في وقت تعاظم هزائمنا المركزية.
٧. انتصاراتنا في الجولة الأولى، وهزيمتنا فيما بعدها من جولات حاسمة (مثلما حصل معنا في الجولة الأولى من غزوة أحد).
٨. انتصاراتنا المؤقتة، ثم السماح للخبثاء بالانقلاب علينا.
٩. انتصاراتنا في عالم الرياضة أو السياحة وهزيمتنا فيما سوى ذلك من العوالم.
– أسوأ أنواع الانتصارات هو ذاك الذي يعطيكه خصمك وعدوك لتتلهَّى به، في حين تراه يحضر للإجهاز عليك وتحطيمك وإبادتك.
– في عالم الملاكمة والمصارعة يقولون بأن الانتصار الحقيقي يأتي بالضربة القاضية، وهي الضربة الذكية المفاجئة على نقطة ضعف عند الخصم.. وليس بالضرورة أن تكون أقوى الضربات بقدر ما هي أذكاها.
– معظم انتصارات أعدائنا علينا انتصارات مغشوشة لأسباب منها:
١. أنها تنطلق من ضعفنا لا من قوتهم.
٢. أنها تعتمد أسباباً لا أخلاقية مغشوشة فاسدة، فهم يبيحون كل شيء في سبيل تحقيق مآربهم الخبيثة {ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله}.
٣. أنهم يفقدون الروح المعنوية اللازمة للاستمرار في تحقيق الانتصار.
٤. أنهم متفرقون على مصالحهم، وإن ظننت أنهم مجتمعون على غاية واحدة هي الانتصار علينا.
٥. أن حزب الباطل والشيطان ولو بعد حين (هم الخاسرون).
– لا تزال سنة التدافع بين الحق والباطل وبين الخير والشر وبين قوى الكفر والإيمان قائمة ما قامت السموات والأرض، والأيام دوَل (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا).
– لا يعدّ نصراً حقيقياً ذاك الذي لا يحقق فيه الخصم أهدافه وإن سحقه وآذاه؛ لأجل ذلك لا يصح القول بأن الروم في غزوة مؤتة انتصروا علينا لأنهم لم يحققوا غايتهم في إبادتنا، بل لم يجرؤوا على التقدم نحونا.
– من أبهى صور الانتصار الحقيقي للمسلمين في السيرة النبوية ما يأتي:
١. انتصارهم في تحدّي الجهر بالدعوة وإعلانها رغم أنوف المستكبرين.
٢. انتصارهم في حماية الدعاة، بل وفتح أفق جديد للدعوة حين هاجروا للحبشة.
٣. انتصارهم في معركة الثبات على أذى قريش، ولم نسمع عن حالة ارتداد واحدة عن العقيدة والدين.
٤. انتصارهم لحظة الخروج بسلام من مكة إلى المدينة، على الرغم من ملاحقة قريش لهم في أثنائها.
٥. انتصارهم حين هددوا تجارة قريش وأرغموها على دخول معركة (بدر) خسروا فيها قيمتهم المعنوية وكبراءهم.
٦. انتصارهم حين أثبتوا وجودهم من اللحظة الأولى لدخولهم المدينة وقد صدحوا بالأذان ولم يحتاجوا إلى سنوات الدعوة السرية.
٧. انتصارهم حين بدأوا يكشفون مكائد يهود ثم يضعون حبال مكرهم في أعناقهم ويدحرونهم خارج المدينة.
٨. انتصارهم في معركة الحفاظ على السلم المجتمعي في المدينة، على الرغم من استفزاز الأشرار دسائس المنافقين فيها.
٩. انتصارهم بالرعب في غزوة تبوك، وبالخندق والريح يوم الأحزاب، وبالالتفافة الذكية من سيف الله يوم مؤتة، وبثبات القائد يوم حنين، وبكتم الخطوات يوم فتح مكة، وبلملمة الجراح في الجولة الثالثة يوم أحد، وبحسن ظنهم ببعضهم يوم حادثة الإفك، وبطلاقة الوجه في عام الوفود، وبالتنازل على الشكليات والتمسك بالجوهريات يوم صلح الحديبية .. وبحسن الظن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في المواقف كلها، قال تعالى: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) (الأحزاب: 22).
– لقد انتصر يوسف على إخوانه انتصار الخلق الجميل، وانتصار يعقوب على أبنائه انتصار الصبر الجميل، وانتصر جميع أنبياء الله تعالى على كبراء أقوامهم انتصار الثبات الجميل.
– من السهل خداع الناس بحكايات تاريخية قريبة أو بعيدة أو بمشاهد مفبركة تظهر فيها نفسك منتصراً ولكن:
ستعلم عندما ينجلي الغبار *** أخيل تحتك أم حمارُ!!
– للذين يسألون: (متى نصر الله) ؟ نجيبهم إن كان سؤالهم سؤال الواثق بقدرة الله وحكمته: (ألا إن نصر الله قريب).
– وختاماً:
من عدل الله تعالى أنه لا يحابي أحداً في سننه، ولو أنه حابى لحابى النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن الشدة، فلو أعطاه نصراً مغشوشاً لكان ضرر هذا النصر أكبر من نفعه، لأجل ذلك حرمه ومَن معه من المؤمنين من انتصارات لو أعطاهم إياها لكانت انتصارات مغشوشة فاسدة، ومن ذلك يوم غزوة أحد حين تعددت الخلافات وحصلت المخالفة: {حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم}، (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ) (25: التوبة) ..
– وما نراه اليوم من استعلاء وانتعاش وانتفاش للباطل إلا نوع من أنواع الانتصارات المغشوشة، ولن يسمح العزيز الحكيم باستمراره.
– وسيأتي يوم ينقلب فيه السحر على الساحر ويدرك زمرة الباطل أن أمر فرعون ليس برشيد {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَٰذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْقُرَىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ ۖ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ۖ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ۖ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ۚ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود: 102).
* المصدر: موقع رابطة العلماء السوريين.