إذا نظرتَ إليهم رأيت زهراً جميلاً، وشممتَ ريحاناً طيباً، يطير الفؤاد فرحاً بهم وهم ما زالوا أجنة في أرحام أمهاتهم، ويفوح شذا عطرهم منذ أول لحظة تبشَّر فيها بمقدمهم، وتشتَمُّ مسك رائحتهم وأنت تحضنهم؛ فهم الحياة المتجددة، والعمر الممتد، والذكر الجميل، والأثر الصالح، بهم تحلو الحياة وتبتهج النفوس، ويعيش المرء معهم لحظات لا تُنسَى، يُخرِج فيها لهم من مكنون حبه ومخزون عواطفه ما يُبهجهم، ويهَبهم من خلاصة فكره وزبدة تربيته ما يُصلحهم.
إنهم أحفادنا من البنين والبنات ممن امتن الله علينا بهم فقال لنا: (وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ) (النحل: 72)، وفي قول لابن عباس أن الحفدة هم الولد وولد الولد. (انظر: تفسير الطبري)، وذكر ابن العربي أن البنين أولاد الرجل لصلبه، وأن والحفدة هم أولاد ولده. (انظر: تفسير القرطبي).
إن الأسرة من الآباء والأبناء والأحفاد تشبه الشجرة العظيمة التي لها أصل وفروع وثمار، فالآباء أصلها وجذورها، والأولاد فروعها، والأحفاد ثمرات تلك الفروع التي تحمل داخلها بذور الحياة وتضمن استمرارها بإذن الله، وإن حب الولد فطرة في قلوب الآباء، فإنك لا تجد أحداً يحبه الوالدان من الأهل كحب الولد وما يتفرع عنه من الأحفاد التي هي امتداد له ولأبيه.
لقد ضرب لنا النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً عظيماً في حبه أحفاده من البنين والإناث، وشبههم بأجمل وأحسن تشبيه، ومارس معهم دوره العظيم كجدّ يحب أحفاده ويرعاهم، ذكوراً وإناثاً، فعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي العاص بن ربيعة، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها» (رواه البخاري)، وفي رواية مسلم: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم الناس وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع من السجود أعادها».
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «أَهْدى النَّجاشيُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حَلقة فيها خاتم ذهب فيه فصٌّ حبشي، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعودٍ، وإنَّهُ لَمُعرضٌ عنه أو ببعضِ أصابعه، ثم دعا بابنة ابنته أُمامة بنت أبي العاص فقال: تحلِّي بهذا يا بُنَيَّة». (رواه أبو داود وصححه الألباني)، فأمامة ماتت عنها أمها زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم وهي طفلة صغيرة، فكان لها جدها العظيم الرحيم صلى الله عليه وسلم خيراً من كل أهلها.
الريحانتان
أما أحفاده الذكور فنذكر منهم الريحانتين الحسن، والحسين، اللذين أحبهما حباً كبيراً، وكان يقول عنهما: «هذانِ ابنايَ وابنا ابنتي، اللهم إني أُحِبهما فأَحبَّهما وأَحِبّ مَن يحبهما». (صحيح الترمذي)، وحين سئل عن سبب حبه لهما قال: «وكيف لا أحبهما وهما ريحانتاي من الدنيا أشمهما» (رواه الطبراني)، فجعلهما ريحانتين وشبههما بهذه النبتة طيبة الرائحة خفيفة المحمل.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يهتم بأحفاده، ورغم مسؤولياته الكبيرة وأعماله الجسام، فإنه كان يلاعبهم ويعلمهم ويرأف بهم، انظر إليه صلى الله عليه وسلم وإلى خوفه على أحفاده ورحمته وحبه، ففي الترمذي من حديث بريدة قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، إذ جاء الحسن، والحسين، عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه..»، وحين كانا يلهوان والنبي صلى الله عليه وسلم في أعظم حالاته قرباً من الله لم يشأ أن يقطع عليهما لذة اللهو المحببة للأطفال، فعن عبد الله بن مسعود قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فإذا سجد وثب الحسَن، والحسين، على ظهره، فإذا منعوهما أشار إليهم أن دَعُوهما، فلما قضى الصلاة وضعهما في حِجْره، فقال: «مَن أحبني فليحب هذين» (صحيح ابن خزيمة).
ومع حبه العظيم كان معلماً ومرشداً؛ فحين أخذ الحسن تمرة من تمر الصدقة في فمه أخرجها منه ومنعه من أكلها وقال: «كِخْ، أيْ بنيَّ أمَا علِمْتَ أنَّا لا تحِلُّ لنا الصَّدقة» (صحيح ابن حبان)، يفيض عليهم من فيض حبه فيحملهم ويمشي بهم ويقبّلهم ويعلن حبه لهم، فعن أبي هريرة قال: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه حسن، وحسين، هذا على عاتقه، وهذا على عاتقه، وهو يلثم هذا مرة -يقبِّل- وهذا مرة، حتى انتهى إلينا..» (أخرجه النسائي).
أحفادنا.. والحياة المعاصرة
مَن ينظر لحال أحفادنا هذه الأيام يجد أنهم في حاجة أكبر للرعاية النفسية والتربوية والاجتماعية، وذلك في ظل الظروف المحيطة بالأسرة من جانب، وبالمجتمعات من جانب آخر، فلم تعد البيوت تتسع للأسرة الكبيرة كما كان من قبل، وإن اتسعت فإن الحياة الحديثة لا تساعد على سهولة الاجتماع الأسري كما كان من قبل، مع تباعد أماكن عمل الآباء وكثرة مشاغلهم ومسؤولياتهم والضغوط الكبيرة عليهم، أضف إلى ذلك انشغال كثير من الأمهات في أعمال المجتمع الوظيفية مع التغير في نظام الحياة وانفتاحها؛ مما أدى إلى مشاركة الغير في التربية والتعليم والتوجيه والإرشاد، سواء كانت المشاركة من الخادمات أو الحاضنات، أو كانت مشاركة عبر الوسائل الحديثة من الأجهزة الذكية التي استطاعت بذكائها أن تسلب عقول الأطفال وتعطل مواهبهم حين تعلقوا بها وصارت تحت أيديهم دون ضوابط.
وبعد أن كانت الأم هي المدرسة الأولى والمهمة في حياة أطفالها تنتقي لهم ما يفيدهم من القصص والحكايات التربوية، وتحتضنهم في حضنها الدافئ الذي لا بديل له، وتمارس معهم دور الأمومة بكل معانيها، صار أحفادنا تتجاذبهم منا كل الوسائل الأخرى، وتتخطفهم من بين أيدينا الألعاب الإلكترونية، وأفلام الكارتون الغث منها والسمين على السواء، ومناجاة الأصحاب الذين لا يعرف عنهم سوى اسم انتحلوه على شاشات التواصل لا ندري صدقه من كذبه، أضف إلى ذلك عموم البلوى حين يمتلك الصغير هاتفاً محمولاً نلهيه به حتى نرتاح من ضجيجه ونضمن سكوته وهدوءه!
إن دور الوالدين والأجداد تجاه الأولاد والأحفاد عظيم، ويجب ألا يكون جامداً، بل مؤثراً وفعالاً، ومع منظومة الحياة الحديثة علينا أن نستعيد هذا الدور المهم كما كان في سالف العهد، الذي يبدأ برعايتهم بحب، واحتضانهم برحمة، وتقديم القدوة الصالحة لهم بصدق، وإن لعبة تلعبها أيها الجد مع حفيدك أو صورة ترسمها أو تلونها معه، أو لمسة حنان تمسح بها وجهه، أو قالب حلوى تصنعه الجدة مع حفيدتها لهو جسر رائع للوصول إلى قلوب الأحفاد، فحب الجد والجدة فطري في قلوبهم يجدون فيهما الحضن الحاني بعيداً عن بعض الشدة التي قد تكون في الوالدين.
لذا؛ فإن على الأجداد أن يأخذوا بعين الاعتبار أثناء تعاملهم مع الأحفاد الاستفادة من كل ما جدّ من وسائل التربية الحديثة ووسائلها المتنوعة التي هي نعمة عظيمة إذا أحسن استخدامها، ويمكن ذلك من خلال اللعبة الإلكترونية الهادئة، والمسابقة الطفولية المسلية، والفيلم الكارتوني الهادف المناسب لعمره وحاله؛ إذ تشاركه في مشاهدته، وقد تضطر إلى تقريب أو تصحيح بعض المفاهيم غير المفهومة له أو غير اللائقة.
وما أجمل صحبة الحفيد في رحلة إيمانية في حديقة من الحدائق العامرة بصنوف النباتات أو الحيوانات التي تشير إلى قدرة الله عز وجل وعظيم صنعه؛ لتكون درساً شيقاً في معرفة الخالق وتوحيده! وما أجمل أن تعلمه التعلق بالله من خلال اصطحابه ليصلي معه بعض الصلوات في المسجد، وتعليمه الأذكار الخاصة بكل مناسبة وربطه بها، وأن تنمي فيه المواهب الكامنة؛ كالقراءة باصطحابه إلى المكتبة وشراء القصص والكتب المناسبة!
وكل هذا رائع ومتيسر إذا كان الجد قريباً من أحفاده، أما إذا كان اللقاء متعذراً بأن كان في بلد وأحفاده في بلد آخر، فإن على الأجداد في فترات الغياب الاستفادة من وسائل التواصل عن بُعد من خلال المكالمات الصوتية والمرئية، وتسجيل القصص والحكايات والأناشيد لهم، وكل ما يراه مناسباً من أجل المشاركة في تربيتهم، فيعلمه من خلالها فن التعامل مع الآخرين وأدب الكلام وصلة الأرحام واحترام الكبير وبر الوالدين ويربطه بأخلاق الإسلام حتى ينشأ عليها ويصبح قرة عين في الدنيا والآخرة.