تستعد حكومتا العراق والولايات المتحدة الأمريكية لبدء جولة الحوار الإستراتيجي بخصوص العلاقة بين البلدين، المقرر أن تنطلق الأربعاء 10 يونيو الجاري، فيما تشهد الساحة العراقية جدلاً حول الفريق المكلف بالتفاوض، والقضايا التي ستكون على أجندة الحوار.
وبعد احتلال العراق عام 2003 من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، اضطرت واشنطن لإنهاء احتلاها، تحت ضغط المقاومة الشعبية التي أوقعت خسائر كبيرة في صفوف الجيش الأمريكي، لكنها لم تغادر العراق إلا بعد توقيع اتفاقية مع الجانب العراقي، خولت نفسها فيه بالدفاع عن سيادة العراق شرط أن تطلب بغداد ذلك، وهو ما حدثت عام 2014، عندما تمكن “تنظيم الدولة” (داعش) من احتلال ثلث مساحة العراق، ووصل إلى مشارف العاصمة بغداد.
اتفاقية الإطار الإستراتيجي
وقعت بغداد في نوفمبر 2008 اتفاقية الإطار الإستراتيجي للدفاع المشترك وتعزيز الأمن والاستقرار في العراق مع واشنطن، ونص القسم الثالث من الاتفاقية، على أنها: “جاءت لردع جميع التهديدات الموجهة ضد سيادة العراق وأمنه وسلامة أراضيه، من خلال تنمية الترتيبات الدفاعية والأمنية”، كما ألزمت الاتفاقية الطرفين بالتعاون في مجالي الأمن والدفاع، وبموجب الاتفاقية “يواصل الطرفان العمل على تنمية علاقات التعاون الوثيق بينهما فيما يتعلق بالترتيبات الدفاعية والأمنية”.
وتحت عنوان “أحكام ختامية” تحدد الاتفاقية في القسم الحادي عشر منها آليات تعديل أو إلغاء الاتفاقية، وتشير إلى أنه “تظل هذه الاتفاقية سارية المفعول ما لم يقدم أي من الطرفين إخطاراً خطياً للطرف الآخر بنيته على إنهاء العمل بهذه الاتفاقية، ويسري مفعول الإنهاء بعد عام واحد من تاريخ مثل هذا الإخطار”، بالإضافة إلى أنه “يجوز تعديل هذه الاتفاقية بموافقة الطرفين خطياً ووفق الإجراءات الدستورية النافذة في البلدين”.
وطلبت الحكومة العراقية وباثر رجعي لهجمات “داعش” من أمريكا مساعدتها للوقوف بوجه تهديداته، ودعتها إلى زيادة حجم ونوع الدعم العسكري المقدم لها، وهو ما استجابت له واشنطن سريعاً وتم تشكيل التحالف الدولي لمحاربة التنظيم من 82 دولة، بقيادة الولايات المتحدة، التي رفعت من أعداد جنودها وقواعدها العسكرية، ومع هزيمة “داعش” عام 2017، وصل عدد جنودها إلى أكثر من 5000 جندي، وتجاوز عدد قواعدها الـ9 قواعد عسكرية في وسط وغربي وشمالي البلاد.
دواعي تعديل الاتفاقية
حصدت إيران ثمرة عمل المقاومة العراقية، فكان خروج القوات الأمريكية مغنماً لها وللجهات السياسية والفصائل العسكرية المرتبطة بها، فتمكنت من إحكام قبضتها السياسية على المشهد، وتوسعت الفصائل العسكرية التي تدين بالولاء لها، خصوصاً بعد أن أبلت بلاءً حسناً في محاربة “داعش”، وتحرير المناطق التي احتلها، في ظل عجز الجيش النظامي عن مواكبة قدرة هيئة الحشد الشعبي المظلة التي جمعت الفصائل الشيعية عام 2014.
ورغم التعارض الظاهر بين أمريكا وإيران وحلفائها في العراق، في المصالح والتوجهات والرؤى والتصورات، إلا أن القوات الأمريكية لم تواجه أي مشكلات خلال حرب التحرير، فطائرات التحالف تسيطر على سماء المعركة، والقوات العراقية ومعها الفصائل المسلحة تسيطر على الأرض.
انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي مع إيران، في مايو 2018، وتشديدها العقوبات على طهران، كانت نقطة افتراق وتمايز في الصفوف بين الجانبين، وأصبح العراق ساحة رئيسة من ساحات المواجهة بين واشنطن وطهران.
وصعدت الجهات التي تدين بالولاء لإيران ضد الوجود الأمريكي في العراق، معتبرة إياه احتلالاً، وتحركت القوى السياسية بطرح أفكار مع انتهاء الانتخابات التشريعية عام 2018 تدعو إلى مراجعة الاتفاقية مع أمريكا، وتطالب بسحب قواتها ووضع حد لتوسع قواعدها العسكرية في العراق.
مقتل قائد الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني، ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، بضربة جوية أمريكية قرب مطار بغداد، في 3 يناير 2020، أخذ المواجهة إلى مداها الأقصى، وبدأت الفصائل المسلحة تشن ضربات عشوائية ضد القوات الأمريكية، وتهدد بشن المزيد من الضربات ما لم تراجع الحكومة اتفاقياتها مع واشنطن، وتعمل على سحب قواتها من العراق.
سياسياً أصدر مجلس النواب العراقي (البرلمان)، بعد يومين من حادثة الاغتيال قراراً يلزم الحكومة بالبدء بمفاوضات لإخراج القوات الأمريكية، بعد جلسة طارئة حضرها النواب الشيعة وغاب عنها النواب السُّنة والأكراد.
المستجدات السياسية والعسكرية دفعت الجانب الأمريكي إلى دعوة العراق إلى لحوار إستراتيجي، حول واقع ومستقبل العلاقة بين الطرفين، وقال وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، في أبريل الماضي: إن الولايات المتحدة ستضطر إلى إعادة تقييم إستراتيجيتها في العراق في ظل الضغط المتزايد لقوات الحشد الشعبي على وجود القوات الأمريكية.
ولم يفوت رأس الدبلوماسية الأمريكية الفرصة ليذكّر باحتمال انزلاق العراق لحالة من عدم الاستقرار والفوضى، بسبب الانقسامات السياسية الداخلية، وتعزيز النفوذ الإيراني، في ظل انتشار فيروس كورونا، وانخفاض أسعار النفط الذي تسبب بتراجع الاقتصاد العراقي، محذراً من أن مجمل هذه المعطيات قد تؤدي لعودة “داعش” من جديد، وهو ما تحقق مؤخراً حيث نشطت خلايا التنظيم في وسط وشمال وغرب العراق، وأوقعت خسائر في صفوف القوات العراقية.
تمثيل مختلف عليه
اقتراب موعد انطلاق الحوار الأمريكي العراقي أظهر للعلن خلافات كانت مستترة وراء كواليس العمل السياسي، بخصوص الوفد الذي يمثل العراق في الحوار مع واشنطن.
حيث طالبت فصائل مسلحة بتمثيل للحشد الشعبي في الوفد المحاور، جاء ذلك على لسان أبو علي العسكري، المسؤول الأمني لكتائب حزب الله العراقية، الذي قال: فوجئنا بتعيين مجموعة للتفاوض مع “العدو الأمريكي”، يتماهى أغلب أعضائها مع المشروع الأمريكي في البلاد.
ودعا في تغريدة عبر موقع التدوينات القصيرة “تويتر” إلى استبدال 3 من أسماء فريق التفاوض بهدف ضمان “نجاح الحوارات”، حسب تعبيره.
وطالب العسكري بتضمين الفريق التفاوضي شخصية من “الحشد”، وأخرى من العشائر، وثالثة من الإعلاميين.
وفي تغريدة مماثلة، قال محمود الربيعي، القيادي في عصائب أهل الحق: إن أي مفاوضات متعلقة بسيادة العراق يجب أن يشارك فيها من قدم الدماء الزكية، لأنه يعرف قيمتها وسيكون وفياً لها.
وأضاف معترضاً على بعض أعضاء الوفد: إن الوفد يجب ألا يضم أي حامل لجنسية أمريكية، لأن ولاءه للقسم الذي أداه في واشنطن سيزاحم ولاءه للعراق.
ويرى مراقبون أن العراق يسعى للوصول إلى اتفاقية جديدة بديلة عن اتفاقية “الإطار الإستراتيجي” غير الواضحة وغير العملية، كما يسعى إلى تجنب أي عقوبات اقتصادية أمريكية تطاله بسبب الصراع بين واشنطن وطهران، خصوصاً أن هنالك 35 مليار دولار للعراق في البنك الفدرالي الأمريكي، تريد الحكومة الاستفادة منها في ظل الأزمات الاقتصادية التي تحيط بها، فتجميد هذه الأموال أو رفع الحماية عنها كفيل بانهيار الوضع بالكامل.
لكن أمريكا لن تقدم للعراق ما يريد بدون مقابل، لذلك ستحرص على وضع آليات لتقليص النفوذ الإيراني في العراق، وضمان سلامة تواجدها العسكري والدبلوماسي، فهي لا تريد انسحاباً كاملاً من العراق لأن مثل هذا الانسحاب يعد انتصار إستراتيجياً لطهران، ولهذا تبحث عن خيارات البقاء وإعادة الانتشار مع ضمان تحييد النفوذ الإيراني.