برغم أننا هنا نستخدم كلمة «تطبيع»، فإن الحقيقة التي يجب أن نتوقف عندها هي أن هذه الكلمة مضلِّلة، فالاحتلال الصهيوني لم يكن ولن يكون دولة طبيعية؛ وبالتالي لن تكون العلاقة معه طبيعية، فهو كيان قام على اغتصاب أراضي الشعب الفلسطيني وحقوقه الذي يعتبر مكوناً من مكونات الأمة والمنطقة، ولهذا فإن التعامل مع الاحتلال بشكل طبيعي يعني تجاهل حقوق معاناة الشعب الفلسطيني.
وفي الحقيقة، كان هناك انفتاح لدى بعض الدول العربية -من منظور التودد للولايات المتحدة كدولة مهيمنة على النظام الدولي- منذ أكثر من عقد من الزمان، على تطبيع العلاقات مع الاحتلال الصهيوني، ولكن بشرط إيجاد حل للقضية الفلسطينية وفق رؤية «حل الدولتين»، ولكن الاحتلال قلب المعادلة؛ حيث جعل تطبيع العلاقات مقدماً على إيجاد حَلّ، ومع الوقت نسف فكرة حل الدولتين من خلال إقرار القدس عاصمة غير مقسمة لدولة الاحتلال، ومحاولة ضم 30% من أراضي الضفة الغربية.
مع أن مكانة الولايات المتحدة ودورها قد تراجعا، فللأسف بقيت مسيرة «التطبيع» مستمرة وفي تزايد، ولم تقتصر على تمجيد العلاقة مع الاحتلال، بل شملت في بعض الأحيان تشويه الفلسطيني، والأكثر من ذلك أن هذه الحركة «التطبيعية» تتخذ شكل الهرولة أحياناً، وتترافق مع تخبط واضح في سياسات الدول أو الأشخاص الذين يهرولون نحو هذه العلاقة، وفي أوقات انقسام الداخل «الإسرائيلي» وعدم قدرته على تشكيل حكومة، حتى بات رئيس وزراء الاحتلال يتخذ من موضوع «التطبيع» إنجازاً ورافعة له في حملته الانتخابية!
بالرغم من كل المحاولات «الإسرائيلية» السابقة لتكريس العلاقات مع الدول العربية، فإن العلاقة بقيت في أطر محددة، وبقي كيان الاحتلال في نظر الشعوب والمجتمعات العربية عدواً إستراتيجياً، وتهدف هذه الموجة من التطبيع التي ذكرنا إلى أنها تطال مختلف القطاعات، وتحاول التأثير في الوعي إلى فتح اختراقات أكبر في وعي وثقافة الشعوب، وهذا يتوجب إحداث آلية مقاومة لهذه الاستهدافات الخطيرة التي لا تشكل خطراً على الشعب الفلسطيني، بل على الدول العربية جميعها.
انحراف إستراتيجي
إن التوجه لإقامة العلاقة مع كيان الاحتلال الصهيوني من قبل أي جهة عربية مسلمة، بغض النظر عن كونه انحرافاً أخلاقياً وحقوقياً واضحاً، فهو انحراف إستراتيجي مبنيٌّ على خلل في تعريف العدو، وعلى خلل في معرفة الأهداف من وجود الكيان الاحتلالي بالمنطقة العربية ابتداء، ثم سعيه للقيادة الإقليمية والتحكم في الدول التي تسعى للتطبيع معه لاحقاً، عبر إيجاد «لوبيات» وشبكات مصالح تجعل القرار العربي مرتهناً لها في حال تم إعطاؤها الفرصة للتعمق في هذا المسار.
لقد كانت أغلب دول المنطقة قبل «الربيع العربي» منقسمة، وقد استغل الاحتلال الصهيوني الفوضى التي حصلت بعد ذلك وتفكك عدد من الدول لقيادة محور إقليمي، ولكنه يدرك أن شعوب المنطقة وبعض قياداتها لا تزال تتعامل معه على أنه عدو، ولذلك قرر تنويع أعمال «التطبيع» من التطبيع السياسي إلى الأمني إلى الثقافي إلى الأكاديمي إلى الرياضي؛ من أجل تهيئة البيئة الإقليمية العربية لتحقيق الأهداف «الإسرائيلية»؛ سواء بالمواجهة مع إيران، أو ضد الحركات والجماعات السياسية الإسلامية، أو حتى إجهاض أي محاولة استقلالية لأي من دول المنطقة.
يدرك كل عاقل أن كيان الاحتلال عقد الكثير من التفاهمات السرية مع بعض دول المنطقة، ومع ذلك فهو يحاول جاهداً تصوير بعض التهديدات على أنها تهديدات مشتركة مع بعض الدول، ولكن حتى هذه العملية لا تبرر التنازل العربي الرسمي العلني عن حقوق الشعب الفلسطيني، وتبقي هناك صعوبة أمام الزعامات نحو هذا التوجه أمام شعوبها؛ ولذلك رأينا كثافة في رسائل التطبيع التي تقوم على إظهار الاحتلال على أنه صديق، أو أن العلاقة معه تمثل مصلحة، ولكن هذا لم يكف؛ لأن روابط الأخوة بين الشعب الفلسطيني والشعوب العربية قوية، فعمدوا إلى تشويه صورة الفلسطيني في صورة المواطن العربي بتصوير العلاقة معه على أنه عبء، وبالاعتماد على افتراءات من قبيل أن الفلسطيني باع أرضه.
لا بد أن يدرك الجميع أن الاحتلال الصهيوني لا يبحث عن مصالح دول المنطقة بقدر ما يبحث عن تأمين موطئ قدم له في كل دول المنطقة؛ لضمان بقاء هذه الدول في حالة فوضى واقتتال وعدم استقرار حتى يضمن التحكم في مصيرها ومستقبلها، ولا بد ألا يُسمح لممارساته في الوصول إلى ذلك بالنجاح، وهذا يتطلب تضامناً عربياً شعبياً ورسمياً لمواجهة هذه الخطوات، وإعادة حسابات من الدول التي انخرطت في هذه العملية.
وفي هذا السياق، ومع كل خطر مشروع «التطبيع»، ما زالت هناك قوى وزعامات حية ويقظة تدرك خطورة الكيان الصهيوني، وتؤمن بحقوق الشعب الفلسطيني الشقيق الذي يعتبر دفاعه عن المسجد الأقصى وتراب فلسطين جزءاً من دفاعه عن الأمة العربية والإسلامية، وقديماً قالت العرب: «من يصنع المعروف في غير أهله يلاق الذي لاقى مجير أم عامر»، وها هو الاحتلال الغاصب يحاول ابتزاز واستدراج العديد من الدول العربية ليفتك بها وبمصالحها وبمستقبلها؛ فلا بد من الحذر ومعرفة حقيقة العدو.