في منزله بأم الفحم في الداخل الفلسطيني، وقبل أيام من دخوله سجن الاحتلال تنفيذاً لحكم قضائي جائر من قضاء الاحتلال، التقت «المجتمع» شيخ الأقصى رائد صلاح، رئيس الحركة الإسلامية في الأراضي المحتلة؛ حيث تجولنا معه في عدد من القضايا المهمة التي تخص القدس والمسجد الأقصى، بل والقضية الفلسطينية كلها في مرحلة مهمة ومفصلية من مراحلها، فكانت هذه أبرز المحطات التي توقفنا فيها مع الشيخ:
كان لا بد أن تكون البداية مع الشيخ صلاح منطلقة من الحديث عن المسجد الأقصى والقدس؛ حيث أكد ضرورة التعامل مع إستراتيجية الاحتلال في هذا المجال وعدم الانشغال ببعض الأحداث المتفرقة؛ حيث قال: أنصحُ أن نتعامل مع قضية المسجد الأقصى من خلال قراءة إستراتيجية الاحتلال «الإسرائيلي»، وليس من خلال قراءة حدث عدواني فقط، بمعنى لو سألنا أنفسنا: ما إستراتيجية الاحتلال «الإسرائيلي» في المسجد الأقصى؟
الجواب واضح؛ نجده في مقولة المشروع الصهيوني، التي أعلن عنها في القرن الثامن عشر، عندما قال: «لا قيمة لإسرائيل بدون القدس، ولا قيمة للقدس بدون الهيكل»؛ معنى ذلك أن المشروع الصهيوني قام على ثلاث خطوات؛ الأولى: إقامة كيان سياسي اسمه «إسرائيل»، وتحقق ذلك، الثانية: احتلال القدس وتحقق له ذلك، وبقيت الثالثة: إقامة الهيكل المزعوم لاكتمال تطبيق تلك الإستراتيجية.
ويتبادر للذهن السؤال عن سبب عدم بناء الهيكل حتى الآن؟ والجواب واضح؛ لأن المشروع الصهيوني ومن خلال ذراعه الاحتلال «الإسرائيلي» لا يريد أن يبني هيكلاً في أي أرض؛ فهو قادر على بنائه منذ عشرات السنوات، بل يريد أن يبني هيكلاً واحداً في مكان واحد وهو مكان المسجد الأقصى المبارك، ومن هنا يجب أن نفهم أن كل اعتداء على المسجد الأقصى هو عبارة عن وسيلة في حسابات الاحتلال «الإسرائيلي» من أجل أن تقربه لإقامة الهيكل المزعوم، وهناك مجسم للهيكل في القدس، تمهيداً لإقامة الهيكل المزعوم على حساب المسجد الأقصى، وخرجت إشاعات ودندنات أنهم أعدوا كل ما يلزم للهيكل عند إقامته مكان «الأقصى» من خادمين وخزائن وألبسة وسائر الطقوس.
وأضاف الشيخ صلاح: عُمْر الاحتلال «الإسرائيلي» قصير جداً، والعمر الطويل للمسجد الأقصى المبارك، سيزول الاحتلال، وسيبقى المسجد الأقصى، هذا يعني أننا مطالبون بفهم أهداف الاحتلال؛ فهو لا يهدف إلى فرض التقسيم الزماني أو المكاني وإغلاق باب الرحمة، فهو يعتبر كل هذه الأفعال مقدمات للوصول إلى بناء هيكل خرافي مكان المسجد.
وتابع قائلاً: لذا يجب علينا أن نؤكد في خطابنا الواضح الذي لا غموض فيه، أن المسجد الأقصى المبارك حقنا وحدنا فقط، والاحتلال «الإسرائيلي» لا يوجد له حق في ذرة تراب من الحرم القدسي الشريف.
ترجمة الشعار
وأشار إلى أن ترجمة شعار «المسجد الأقصى لنا» يكون وفق الظروف التي نعيشها ولا تخفى على أحد؛ فأهلنا بالقدس وفي الداخل الفلسطيني مطالبون يومياً بشد الرحال للمسجد الأقصى، وأن نؤدي عبادة الرباط، ونحافظ على تواصل العلاقة الدائمة والحيوية بين الأهل المقدسيين والأهل في الداخل، وهذا يشكل حامية بشرية لوجودنا في «الأقصى»، وعلينا ألا نتنازل عن خطابنا؛ وهو أن الوجود «الإسرائيلي» في المسجد الأقصى احتلالي باطل بلا سيادة وإلى زوال، إن شاء الله تعالى.
وتابع صلاح قائلاً: عندما يقوم الاحتلال بفرض سلاحه وجنوده على كل أبواب «الأقصى»؛ فهذه خطوة نحو إستراتيجيته الباطلة التي تحلم بإقامة الهيكل المزعوم، وإغلاق مبنى باب الرحمة، وتجريم الرباط في المسجد، واعتقال وإبعاد الصغير والكبير الذين يؤدون عبادة الرباط، والمساس بخطيب «الأقصى» الشيخ عكرمة صبري وفرض الإبعاد مراراً عليه؛ فهذا الاحتلال أهوج، وتصرفاته صبيانية، وتنم عن حالة هستيريا داخله، وكأنه يريد اختصار الزمن ويبني هيكله المزعوم، كون الظرف المحلي وكذلك الدولي مناسبين لتطبيق الخطوة الثالثة من إستراتيجيته المسعورة والباطلة، وأنا أجزم عقلياً وقلبياً ووجدانياً أن ذلك لن يكون؛ فهو وأحلامه السوداء إلى زوال، وقضية القدس والمسجد الأقصى هي القضية المنتصرة.
وأشار شيخ الأقصى إلى أن الهدف من تجريد الاحتلال لصلاحيات الأوقاف أصبح واضحاً، فهو يسعى إلى تجريد الأوقاف من صلاحياتها لهدفين؛ الأول: الاستفراد بالمسجد الأقصى وإدارة شؤونه منفرداً، وأن يتعامل مع المسجد كأنه لا يوجد أوقاف، كأنه صاحب القرار الوحيد، بالرغم من وثيقة «استاتيكو» التي تنص على الحفاظ على الوضع القائم، فهو يتعامل مع «استاتيكو» كأنها غير موجودة، وكأن هناك نظاماً جديداً، هكذا يتعامل الاحتلال من خلال إلغاء القديم وابتداع «استاتيكو» جديد، يكون فيها هو الآمر الناهي بعيداً عن الأوقاف، وصاحب القرار الأخير في الوضع الجديد، هذا هدفه من محاولة تجريد الأوقاف من صلاحياتها، فهو يريد تهيئة الأجواء للتدخل في شؤوننا، فإذا ظل الاحتلال «الإسرائيلي» سادراً في غيّه وتهوّره المجنون في «الأقصى»؛ فسيتدخل في قادم الأيام برفع الأذان في القدس الشريف؛ فهناك تفكير خطير مجنون، ومع ذلك ستبقى القدس هي القدس عصية على التهويد مهما كانت المخططات المرعبة وإمكانات الاحتلال، والمطلوب من أمتنا المسلمة وعالمنا العربي أن يتعاملوا مع القدس ليسوا كمتضامنين معها، فهذا لا يجوز، وهم أصحاب هذه القضية، ولا يكون تدخلهم كوسطاء، وهذا مرفوض جملة وتفصيلاً، بل المطلوب من الجميع الانتصار للقدس وللمسجد الأقصى المبارك كما تنتصر لأوطانها وللمسجد الحرام ومكة المكرمة والمدينة المنورة.
وعن الحفريات، قال صلاح: الحفريات بدأت منذ تلك الأيام السوداء الأولى في عام 1967م عندما وقع فيها المسجد الأقصى بيد الاحتلال، وبدأت عمليات الهدم لحارة المغاربة، وتواصلت الحفريات حول المسجد بلا توقف، وباعترافات الكثير من «الإسرائيليين»، وهذا يؤكد خطورة هذه الحفريات على بناء «الأقصى»، وتنذرنا بأن هذا الاعتداء بوسيلة اسمها الحفريات هي حلقة من حلقات وخطوات التمهيد لإقامة الهيكل المزعوم حسب حساباتهم الباطلة.
محاكمة ثوابت
وعن محاكمته الأخيرة، قال صلاح: هي محاكمة للقدس و»الأقصى» وفلسطين؛ فهي قامت على أساس جرأة المؤسسة «الإسرائيلية» على محاكمة ثوابتنا الإسلامية العروبية الفلسطينية، كما تجرأت المحكمة على نصوص القرآن الكريم والأحاديث النبوية، وأعطت لنفسها الحق أن تفسر هذه الآيات والأحاديث وكذلك بعض مصطلحات اللغة العربية، ففي القرآن وردت كلمة «رابطوا» والمحكمة «الإسرائيلية» جرَّمت الرباط، وهذا يعني أن المحكمة تدخلت في نصوصنا الدينية وكذلك الأحاديث النبوية؛ فعبادة الرباط مطالب بها كل مسلم بتوجيه رباني من القرآن الكريم والأحاديث النبوية، إلا أن القضاء «الإسرائيلي» أصم أذنيه كأن لم يسمع شيئاً، وحاكَمَ الآيات والأحاديث، وتم محاكمة الفلكلور الفلسطيني؛ فهكذا كانت أجواء محاكمتي حتى انتهت.
وأردف قائلاً: قراءتي لقرار المحكمة وطاقم المحامين أيضاً أن القرار لم يقم على أي معايير قانونية قضائية؛ ففي محكمة الصلح بحيفا نصَّب القاضي نفسه قاضياً على قضايا لا يفقه فيها؛ فهو لا يعرف شيئاً عن اللغة العربية والقرآن والأحاديث والفلكلور الفلسطيني، ومع ذلك أعطى لنفسه الحق بالبت في هذه الثوابت؛ فأي قضاء هذا؟!
وأبعد من ذلك، جاءت المحكمة المركزية في حيفا لتؤكد قرار ذلك القاضي، كما أن المحكمة قالت في ختام قرارها: إن «الذي لا يستنكر أي عملية إرهابية فهو إرهابي»؛ فالتجريم أيضاً للساكت، ونحن في مرحلة عجب عجاب! ويجب ألا ننكسر من أي صدمات، وعلينا بالصبر والثبات والتوكل على الله تعالى.
وعن إقرار قانون التحريض والقومية، قال صلاح: كل شعبنا الفلسطيني مستهدف بقوانين عنصرية بالاعتقال والملاحقة، وهناك المئات يحاكمون، فعلى سبيل المثال؛ الأخت الأسيرة آية الخطيب تحاكم لأنها أطعمت جائعاً وفقيراً ويتيماً، ووفرت الدواء لمريض، فهو عمل إنساني من الطراز الأول؛ فالاحتلال بات يستهدف كل فلسطيني أينما كان، فهذا جو الرعب السائد، لكن أوصي نفسي والشعب بالثبات.
وعن دخوله السجن، قال: سأدخل السجن حراً، وسأخرج منه حراً، مع أن دخولي السجن في أجواء غير مريحة، وسيكون ضمن أجواء جائحة «كورونا» التي تفشت في السجون، الأمر المقلق الذي يهدد حياة كل أسرى الحرية، ونحن نتوكل على الله في كل تفاصيل حياتنا، سأحيا بسجني في خلوة مع الله، سوف أحافظ على القراءة والكتابة والصلوات والاستغفار، وسأحيا بهذه الروح حتى يأذن الله ونعود إلى شمس الحرية.
وأضاف صلاح عن مطاردته من قبل الاحتلال: إن ظننتم أن مواصلة مطاردتكم لي ستجعلني أتخلى عن ثوابتي فهذا لن يكون، سأبقى مع ثوابتي حتى ألقى الله تعالى، وستنالون الهزيمة، وسوف أنتصر على وسائلكم.
وخاطب صلاح الأسرى قائلاً: أنتم خير شعبنا الفلسطيني، وتمثلون نبض وضمير الشعب الفلسطيني، وسيكون آخر شخص في السجن هو السجان، وستنعمون بشمس الحرية.
رسالة إلى غزة
وقال الشيخ صلاح موجهاً رسالته لأهل غزة: من أراد أن يتعلم الصبر والثبات فليتعلم من أهل غزة، ومن أراد أن يجمع بين التوكل على الله وأداء واجبه اليومي فليتعلم من أهل غزة، ونرى فيهم أن الحق لا يمكن أن يكون ضعيفاً، قد يكون أعزل لكنه لا يكون ضعيفاً، الحق لا يمكن أن يُهزم ولكن قد يُؤذى، وفي نهاية الأمر قد يخسر جولة، ولكن في نهاية الأمر هو المنتصر، وهذا ما أظنه لواقع أهلنا في غزة.
وإلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، قال صلاح: أؤكد ما قاله فضيلة الشيخ عكرمة صبري، في بيانه التاريخي والشجاع بأن إعادة مسجد «آيا صوفيا» إلى طبيعته كمسجد أفرحت الأهل في بيت المقدس، وأفرحت الأهل في كل العالم الإسلامي.
وأؤكد ما قاله الرئيس التركي أردوغان: إن إعادة السيادة إلى مسجد «آيا صوفيا» يعد المقدمة القريبة لإعادة السيادة إلى المسجد الأقصى، عكس ما حاول أن يشيعه بعضهم وفق هواهم، كما أؤكد أن إعادة السيادة إلى مسجد «آيا صوفيا» بعد عقود من الغطرسة والعدوانية يؤكد أن الاحتلال «الإسرائيلي» سيزول بكل ما مارسه من عدوانية ولو طال الزمان، وستبقى السيادة للمسجد الأقصى المبارك قبلة المسلمين الأولى وثالث الحرمين الشريفين.
وفي رسالته الأخيرة لـ»المجتمع»، قال صلاح: مجلة «المجتمع» وجدتُ فيها المنبر الحر الإسلامي العروبي، الذي يحافظ على الانتصار لكل قضايانا على المستوى الإسلامي والعربي والفلسطيني، وما زلتُ أحمل لهم الحب والتقدير والاحترام، وجزاهم الله خيراً.
ومن خلال منبرهم أفتخر أنني أنتمي إلى أمة إسلامية وعالم عربي وشعب فلسطيني، وأحب هذا الانتماء بكل جوانبه، وأعتبر نفسي في خدمة وقضايا هموم الجميع، والخير والهمة والعطاء كل هذا موجود في كل شعوب الأمة الإسلامية والعربية والشعب الفلسطيني، وهذه الشعوب تحب القدس كما نحبها، ويحبون المسجد الأقصى وقد يكون حبهم أشد، وهم حريصون على أن تأتي أيام يصلون فيها بـ»الأقصى» بعد زوال الاحتلال، كما نتشوق نحن دائماً للصلاة فيه.
لذلك أقول: نحن منكم وأنتم منا، نحن وأنتم الجسد الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»؛ فاصبروا وصابروا ورابطوا، أنتم أمة الهداية، أنتم أمة الحق، أنتم أمة الحرية، والحاضر والمستقبل لنا بإذن الله تعالى.