تتكرر وفاة إسلاميين في سجون نظام عبد الفتاح السيسي سواء عبر الإهمال الطبي أو فيروس كورونا؛ حتى لا يكاد يمر شهر واحد إلا تزهق أرواح كانتْ كافية في عهد المخلوع حسني مبارك بأن تُقيمَ مصر فلا تُقعدها، إلا بعد فهم الأسباب والمُلابسات وأخذ القوى الوطنية وعودًا بعدم التكرار.
ثم يُغادر عدد آخر متتالٍ منهم في الغربة للحياة، بعد أن ضاقت الأرض عليهم بما رحبتْ فصار ملجأهم تشاكي المحن وقسوة الاختبارات؛ وأن ليس لهم من الأمر شيء، وكأنهم لم يساهموا فيما وصل إليه حالهم ومآلهم المرير.
في حين آثر فصيل آخر من المُنتمين لإسلاميي مصر البقاء في الداخل، بعد تأييد واسع وعارم لأحداث الثالث من يوليو/تموز 2013م التي أطاحت بالملايين من شركاء العمل الإسلامي المُفترضين مع السلفيين وحزب النور، والبعض من الجماعة الإسلامية، وإن قل عددهم.
وفي جميع الأحوال يتفق المخلصون على أنه لا بد من وقفة تحدد أماكن الصواب والخطأ من حياة مُخلصي إسلاميي مصر ووجودهم، وكيفية التغلب على واقعهم الحالي.
مثلتِ الفصائل الإسلامية الثلاثة: الإخوان المسلمون، الجماعة الإسلامية، والسلفيون من حزب النور وغيره، رغم تقاطعاتهم وتبايناتهم؛ مثلوا جميعًا أغلبية منظومة مُجتمعية مُتفاوتة الظهور والانتشار لأكثر من نصف قرن، ومن الواجب دراسة كيف سارت الأمور حتى أصبح جميع الإخوان الظاهرين المعلنين بخاصة بعد مرحلة التمكين المُفترضة لدى قياداتهم (11 من فبراير/شباط 2011 ـ 2 من يوليو/تموز 2013م)، يُعانونَ نتيجة عدم إحسان قراءة المشهد عوضًا عن فهمه أو تدبره، أو الاستماع والإنصات لمراكز بحثية علمية (إن وُجدتْ)، أو مجرد تقريب مُفكرين أو أدباء من القيادات (رحم الله راحليهم، وخفف عن سجنائهم)، مع أغلب الجماعة الإسلامية الذي يعاني مع الفصيل الأول؛ بخلاف غالبية السلفيين الذين آثروا القفز من السفينة والانسحاب من المشهد لما أبصروا المُنزلق الأشد في وجودهم.
كان الفصيل الإسلامي وتياراته يُمثلون صمام أمان للمجتمع، وجانبًا من قواه وركيزته الدعوية التربوية الاجتماعية قبل الحزبية السياسية المُنافسة على السلطة؛ فلا يُنكر منصف أن جماعة الإخوان مثلتْ لعقود تتجاوز نصف القرن الفصيل المصري الأكبر نظامًا وترتيبًا بعد الجيش المصري؛ وكانت في دوائرها الواسعة ومؤازرة القوى الإسلامية الأخرى تمثل خط دفاع صُلب قوي ضد مخططات العدو الصهيوني في المقام الأول ورغبته الشديدة في التهام مصر حتى دون احتلال، بإغراقها في التبعية في جميع المجالات من زراعية وصناعية وصولًا للثقافية والفكرية.
ومثلما كان العدو الأصيل لمصر يُخطط ويُفعل للوصول لمُراده ومُبتغاة في أكبر دولة عربية ثقلًا وموقعًا جغرافيًا فضلًا عن عدد سكان، ومن قبل مُتاخمة له، كانت جماعة الإخوان في قلب الحراك الإسلامي تستوعب الخلافات المحلية الصادرة عن أذناب مُباشرين للعدو المُتمرس خلف الولايات المتحدة الأمريكية؛ وترى أن هؤلاء هم العدو الأُوجه والأولى بالمُقاومة، لكن عبر سياسة النفس الطويل والصبر، من أجل كشف الأطماع واستيعابها والقدرة على إحسان تفويتها، وكان من تعقل الجماعة قبل صورتها الأخيرة وقيادتها التي فجرت الموقف على نحو مُريع يرضي العدو ولا يسر أي شريف عاقل مُنصف؛ كان من صبر الجماعة حث وتشجيع دوائرها المُقربة وتحميس الفضلاء في الشارع المصري والعربي على ترك صغائر استفزازات أتباع الصهيونية، مع التعالي عن صغائر يُظهرها البعض ولا تصب إلا في مصلحة العدو الأول المباشر.
ولذلك اعتادت الأجيال أن ترى الجماعة تقدم يد العون حتى لمن يقفون منها موقفًا فيه نزاع طالما لم يوالوا العدو، ومن ذلك حرصها وإغرائها المُنسقين معها على إخلاء دوائر انتخابية برلمانية لرموز من الحزب الوطني وبعض المسيحيين .. حتى لا تدخل في صراع ولو مرحلي مع أحدهما، بل إنها كانت تحرص على تلاشي استحكام الصدام مع المخلوع مبارك عبر آليات منها استنكار المرشد الراحل محمد حامد أبو النصر لحادث أديس أبابا الذي كاد يودي بحياة مبارك في 1995م، رغم ضغط النظام على الإخوان المرحلي آنذاك، وصولًا إلى تصريحات لمرشد الجماعة الأخير قبل الثورة تقول بمكانة مبارك من العائلة المصرية، وأن من حق جمال مبارك الترشح لرئاسة الجمهورية!
لكن يبدو أن عوامل الخلخلة كانت أقوى من الاستيعاب في بُنية الفصيل وغيره من الإسلاميين حتى وصلنا إلى انسداد الأفق الحالي الذي أدى إلى تمطي العدو الأول المباشر، واستحواذ أذنابه على المشهد السياسي المصري عبر تسرع واضح من الذين آثروا الإيجابية من الإسلاميين، وتخاذل مُؤسف من الذين آثروا الحفاظ على الذات، وفي الحالين افتقد المجتمع “الفطر الصالح” الذي كان يُعينه على تخطي طبقاته الفقيرة أزماتها الشديدة المباشرة، عبر تقديم العون، والحرص على إيجاد بدائل لخواء وفساد السلطات بخاصة في مجالي الصحة والتعليم عبر مؤسسات خاصة، مع انتشار العناصر المُخلصة في مختلف أنحاء دولاب الدولة للحرص على عدم تمادي اعوجاجه.
ترى هل آن الأوان بعد أكثر من سبع سنوات بالغة الهزال من الانكفاء على الذات والأثرة والإصرار على أن جميع التيارات الإسلامية من الاتجاهين مختلفي التوجه من النظام لم تخطئا؟
هل آن الأوان أن يُراجع الجميع منهجه ليُحققوا المراد من وجوده وليسعوا لتعمير الكنانة التي أنهكتها الأزمات والمشكلات مجددًا، وليبحثوا عن الأسباب التي أودت بهم إلى هذا المصير المرير في الداخل والخارج كي لا تتكرر تجربتهم الأليمة؟!