عبدالكريم بن محمد بن عبدالكريم بن الفضل بن الحسن القَزْوِنيّ الإمام الجليل أبو القاسم الرافِعْيّ، صاحب الشرح الكبير المُسَمَّى بـ«العزيز»، وقد تورَّع بعضُهم عن إطلاق لفظ العزيز مجرَّداً على غير كتاب الله، فقال: «الفتح العزيز في شرح الوجيز»، و«الشرح الصغير»، و«المُحَرَّر»، و«شرح مُسْنَد الشافعي».
كان الإمام الرافعيُّ متضلِّعاً من علوم الشريعة، تفسيراً وحديثاً وأصولاً، مترفِّعاً على أبناء جنسه في زمانه، نَقْلاً وبَحْثاً وإرشاداً وتحصيلاً، وأما الفقه فهو فيه عُمدة المحقِّقين، وأُستاذ المصنِّفين، كأنما كان الفقه ميِّتاً فأحياه وأنْشَره، وأقام عِمادَه بعدما أماته الجهلُ فأقْبَره، كان فيه بدراً يتوارى عنه البدر إذا دارت به دائرته والشمس إذا ضَمّها أَوْجُها، وجَواداً لا يلحقه الجَوادُ إذا سلك طُرُقاً ينقل فيها أقوالاً ويُخَرِّج أَوْجُها، فكأنما عناه البُحْتُرِيّ بقوله:
وإذا دَجَتْ أقْلَامُهُ ثُمَّ انْتَحَتْ
بَرَقَتْ مَصابِيحُ الدُّجَا في كُتُبِهِ
وكان يرحمه الله وَرِعاً زاهداً تقياً طاهِرَ الذَّيْل مُرَاقباً لله تعالى.
سمع الحديث من جماعة، منهم أبوه، وأبو حامد عبدالله بن أبي الفتوح بن عثمان العِمْرانيّ، والخطيب أبو نصر حامد بن محمود الماوراء النَّهرِيّ، والحافظ أبو العلاء الحسن بن أحمد العطّار الهَمَذانِيّ.
روى عنه الحافظ عبدالعظيم المُنْذِرِيّ، وغيرُه.
قال ابن الصَّلاح: أظن أني لم أرَ في بلاد العَجَم مِثلَه.
وقال النَّوويّ: الرَّافِعِيُّ من الصالحين المتمكِّنين، كانت له كراماتٌ كثيرة.
وقال أبو عبدالله محمد بن محمد الإسْفَراينيّ: هو شيخُنا، إمامُ الدِّين، وناصر السُّنّة، كان أوحدَ عَصْرِه في العلوم الدِّينيّة؛ أُصولاً وفُروعاً، فريد وقتِه في التفسير، كان له مجلسٌ بِقَزْوِينَ للتفسير ولتسميع الحديث. (انتهى كلامه)(1).
وأن خَوارَزْم شاه، يعني جلال الدين، غزا الكَرَج بتَفْلِسَ، في هذه السنة، وقتل فيهم بنفسه حتَّى جَمَد الدّمُ على يدِه، فلما مرَّ بقَزْوِينَ خرج إليه الرافعيُّ، فلما دخل إليه أكرمه إكراماً عظيماً، فقال له الرافعيُّ: سمعتُ أنك قاتلتَ الكفّارَ متى جمَد الدّمُ على يدك، فأُحِبّ أن تُخْرِجَ إليَّ يدَك لأُقبّلَها، فقال له السُّلطان: بل أنا أُحِبّ أن أقبّلَ يدَك، فقبَّل السُّلطانُ يدَه، وتحادَثا، ثم خرج الشيخ وركِب دابَّتَه، وسار قليلاً، فعثرت به الدابّةُ، فوقع فتأذَّت يدُه التي قبَّلها السُّلطان، فقال الشيخ: سُبْحانَ اللهِ، لقد قبَّل هذا السّلطانُ يدي، فحصل في نفسي شيءٌ مِن العَظمة، فعُوقِبْت في الوقت بهذه العقوبة.
سمعت شيخَنا شَمْسَ الدِّين محمد بن أبي بكر بن النَّقِيب، يحكي أن الرافعيَّ فقَد في بعض اللّيالي ما يُسْرِجُه عليه وقتَ التصنيف، فأضاءت له شجرةٌ في بيته.
تُوُفِّيَ في ذي القَعْدة سنة ثلاث وعشرين وستمائة(2).
الفوائد التربوية والإيمانية:
– الطهارة والورع والتقوى والمراقبة لله تعالى معالم نور وهدى في حياة علمائنا الأجلال؛ إذ لا تكاد تخلو سيرة أحدهم من هذه المعالم البارزة والمعاني السامية، فهي الخطوة الأولى إلى الفتح العزيز ورياض الصالحين والروض المربع ودار السعادة بل إلى أفراح الروح!
– المجلس التربوي للعالم الرباني وسيلة للتعليم الرباني والتواصل الاجتماعي والتذكير الإيماني، فقد كانت حياة العلماء حافلة بالمجالس التربوية، وكلما حرص عليها الدعاة المربون ارتقت أرواحهم وسمت أخلاقهم ونجحوا في تربيتهم لأنفسهم وللناس، بل وتَجَدَّدَ إيمانهم وَزكَى علمُهم وعملُهم وفقهوا دينهم.
– تقدير العلماء الربانيين للجهاد والمجاهدين، واحترام الولاة والحكام للعلماء الربانيين؛ بهذه تنمو الأمة ويسودها الأمن والأمان بمنهج أخلاقي يراه الناس في أعينهم بين العلماء والأمراء.
– ضرورة نشر علم الفقه بين الناس حتى يُعرف الحلال من الحرام، وتُعرف به أحكام الدين والشريعة، وحتى لا يتجرأ الجهال والغلاة على التحليل والتحريم والفتيا.
– حرص العلماء على نشر علمي التفسير والحديث؛ إذ بهما يُعرَف كتاب الله تعالى وسُنة رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
– معرفة العلماء لأنفسهم ومراقبة آفاتها وضعفها وأهوائها وحرصهم على تربية أنفسهم.
– إتقان العلماء للعلوم يأتي بعد شدة طلب وقوة تحمل وصبر عظيم وسعي للأكابر من الأئمة والعلماء الراسخين في العلم.
– للعلماء والصالحين كرامات يظهرها على أيديهم إذا شاء سبحانه وتعالى.
والحمد لله رب العالمين.
الهامشان
(1) بتصرف.
(2) عبدالوهاب بن علي السبكي، طبقات الشافعية الكبرى، ج8، تحقيق: عبدالفتاح محمد الحلو، محمود محمد الطناحي.