وتستمر رحلة الغوص في أعماق الزمن مع الفقيه الأزهري، والخبير الاقتصادي الأستاذ الدكتور حسين حامد حسان، سبرا لأغوار تلك الرحلة، وتعرفا على مسارب التكوين المتعددة لهذه الشخصية الثرية..
وفي هذا الجزء من الحوار يؤكد حسان ملمحا غاية في الأهمية، تميزت به شخصيته على امتداد رحلتها، وكان له أكبر الأثر في طبيعة تكوينه، وهو ما يمكن أن نسميه فكرة “الانتماء الحركي” عند حسان.
وهذه الفكرة مرفوضة عنده على مستواها “الجماعاتي” إن صح التعبير والاشتقاق، وعلى مستواها المذهبي الفقهي كذلك..
فعلى مستوى الجماعات أكد حسان أنه لم ينتم في حياته إلا للجمعية الشرعية (إحدى الجمعيات الدعوية الاجتماعية العاملة بمصر) ليس باعتبارها جماعة، وإنما باعتبارها منفذا للدعوة المنظمة لا يقيد المنتسب إليه بفكرة أو منهج، وإنما هي “لتعاون العاملين بالكتاب والسنة المحمدية”، مؤكدا أن العالم وطالب العلم ينبغي أن يكون هذا سلوكه، وأن يكون ولاؤه الكامل للإسلام الشامل المستوعب.. على حد تعبيره.
وعلى المستوى الآخر.. المستوى المذهبي الفقهي، أعطى حسان مجموعة من الأمثلة الواقعية التي حدثت معه شخصيا، مؤكدا من خلالها ضرورة الانفتاح على كل المذاهب الفقهية، ورفضه الكامل حصر الإسلام في ترس من تروسه.. على حد تعبيره أيضا…
أزعم أن هذا الجزء من الحوار يؤصل لفكرة الشمول والانفتاح بحسبانها كلمة السر في قوة الفرد، خاصة إذا كان عالما أو طالب علم، وفي قوة الحضارة الإسلامية كذلك، حينما تكون حضارة شاملة مستوعبة ومفرزة في الوقت ذاته لشتى الأفكار والرؤى.
* في مرحلتك الثانوية كانت بداية الثورة، وكانت هناك مجموعة من التقلبات أدت إلى نشاط حركي لبعض التيارات.. أين كان الطالب حسين حامد حسان في هذا الخضم؟ كيف كانت خريطتك الحركية؟
** على الرغم من أني كنت أدرس في معاهد الأزهر، وفي آخر النهار كنت أدرس ليلاً، فقد توليت مهمة الخطابة عندما اجتزت امتحان السنة الأولى الابتدائية، وكان سني وقتها ثلاث عشرة سنة؛ لأن مراحل التعليم في الأزهر أربع سنوات ابتدائي، وخمس سنوات ثانوي، وكان سن الطالب عند دخول الأزهر اثني عشر عامًا..
فأنا فعلاً اشتغلت بالدعوة، واشتغلت بالخطابة وأنا في هذه السن المبكرة جدًّا، بدأت الخطابة في قريتي، ثم التحقت بالجمعية الشرعية وعملت فيها واعظًا وخطيبًا عدة سنوات، بل كنت كلفت بعد فترة من الزمن أن أكون ضمن لجنة اختيار الوعاظ الذين يرغبون في الانضمام للجمعية الشرعية.
وكان ذلك في عهد الشيخ أمين خطاب، والشيخ علي حسن حلوه، والشيخ درويش الجعبري، والشيخ عبد اللطيف المشتهري رحمهم الله جميعا، وقد استفدنا كثيرا من الجمعية الشرعية، وكوني وأنا في السنة الثانية أو الثالثة الابتدائي، أكلف من قبل رئاسة الجمعية بأن أكون مسئولا عن اللجنة التي تختار الوعاظ في ذلك الوقت، فهذا يعني أن تلك الجمعية المباركة كانت حريصة على الدفع بالشباب وتحميلهم عبء الدعوة..
تخيل مثلا وأنت في الثالثة عشرة من عمرك تخطب في مساجد كبرى في القاهرة والجيزة، والمحلة الكبرى، والسويس، تعطيك الثقة.. لا أحد يعطيك خطبة مكتوبة ولا يوجب عليك أن تقول كذا أو كذا، فقط توجيه داخل المبدأ العام، ولكن هو التكوين الحقيقي الذي يعطيك ثقة واسعة.
وشهادة للتاريخ فإن الجمعية الشرعية دربت عددا كبير جدًّا من طلاب الأزهر، وأفسحت لهم مجالاً ما كانوا يجدونه في أي مكان آخر، وشجعتهم، فكان منهم وعاظ وخطباء مشهورون.
أنا أقول هذا لأؤكد أنني لم أنتم ِمطلقا لأي جماعة أو حزب أو تيار غير الجمعية الشرعية، ليس باعتبارها جماعة، وإنما باعتبارها منفذا للدعوة المنظمة لا يقيد المنتسب إليه بفكرة أو منهج، وإنما هي كما يقول عنوانها: “لتعاون العاملين بالكتاب والسنة المحمدية”
وأريد أن أشدد على أن انتمائي للجمعية الشرعية كان لأنها لم تفرض على أي من وعاظها شيئا، هي فقط تحسن انتقاءهم، أن يكون سليم العقل، أن يكون عنده فقه ومعرفة، وعنده ملكات، ثم ينطلقون بعد ذلك محققين هدف التعاون مع كل العاملين بالكتاب والسنة المحمدية، وبذلك فهي فتحت الأبواب على مصراعيها، ولم تغلق على أعضائها أو التابعين لها الباب أبدًا، وهذا الأمر كان ميزة الجمعية الشرعية الحقيقة.
لكنني كنت بحكم دراستي وتكويني مستوعبا ومتابعا ومهتما بكل الحركات والتوجهات في العالم الإسلامي، وبالطبع كانت الحركات والتيارات العاملة في مصر في قلب اهتمامي ومتابعتي، وكنت على علم، وعلى صلة بها.
* على صلة تنظيمية؟
** لا.. لم تكن لي أي صلة تنظيمية مطلقا، وأنا أرى أن الأنسب لطالب العلم وللعالم -على الأقل بالنسبة لي- هو عدم تقيده بمؤسسة معينة، أو اتجاه معين، إنما ينبغي أن يكون ولاؤه دائما في كل عمله وبحوثه للإسلام، وكنت وما زلت أقدر جميع الجهود التي تبذل في مجال الدعوة، في مجال التعليم.. ودون تمييز، وكل من يسهم في خدمة الإسلام فأنا معه..
وهذه الفكرة أفادتني فيما بعد، فقد طُلب مني أن أنشئ جامعة، فأنشأت الجامعة الإسلامية العالمية في إسلام آباد، وكنت رئيسًا لها فترة ما يقرب من عشرين سنة، وفي هذه الجامعة جئت بطلاب من كل الاتجاهات ومن كل الأقطار، من الهند، ومن روسيا، ومن الصين، ومن بنما، وعقدنا اتفاقيات مع حكومة الصين، وأصبح هؤلاء الطلاب علماء الآن، وكنت إذا دخلت الجامعة الإسلامية العالمية ترى من كل الاتجاهات، يعني أيًّا كان المذهب والاتجاه، والمنهج، إذا كان وجهته نصر هذا الدين، وتثبيت عقيدة التوحيد، وجمع الناس حول هذا الدين، فأنا معه بكل ما أملك من قوة.
* إذا كان هذا السلوك قد تبلور كفكرة عن الدكتور حسان “العالم” فيما بعد.. فهل حسان الطالب الصغير كان عنده هذا الفكر نفسه، أم كان مانعك تخوفات معينة مثلا؟ بمعنى.. هل دعيت لتنظيم وأحجمت بسبب الخوف أو عوامل أخرى؟
** لا، لا.. لكن أنا لم تفتني محاضرة ولا ندوة في الشبان المسلمين، في أنصار السنة، في الجمعية الشرعية، في الإخوان المسلمين، في أي مكان هناك محاضرات هناك كتب تنشر، هناك صحافة تتكلم، مقالات، ما كنت أترك شيئا..
بمعنى أنني كنت أقرأ للجميع، قرأت لأبي الحسن الندوي، الهضيبي، قرأت عن السنوسية، عن المهدية، كنا نتشوق في ذلك الوقت لأي كتاب، وكنا فقراء، ولم أكن وحدي بالمناسبة، يعني أنا أذكر عشرات من إخواني كانوا على ذات النهج، ما كنا نرتبط في داخل بوتقة محددة..
وانا أشبه التحزب والانتماء لفصيل معين لا يرى الإنسان غيره، بأنك إذا خرجت من هذه الغرفة وأغلقت الباب فإن عندك مجالا فسيحا، لكن في داخل هذه الغرفة سيقال إنها هي الأصلح لك، وتكتفي بها، ولن ترى مطلقا “الأوتيلات” ذات السبع نجوم والخمس نجوم وتستمتع بغرفها، تماما كما لو كنت في داخل المدينة سترى ما حولك من عمائر فقط، أما إذا صعدت بالطائرة سترى المدينة كلها.
ولذلك فإنني أؤكد أن بُعد العالم عن كل ما حوله وانقطاعه لجماعة أو حزب أو حتى مذهب واحد أمر لا يصح أبدًا، ولا أجيز للعالِم أن ينخرط في تنظيم ويبتعد عن شمول رسالته.
* لا تجيز..! أهذه فتوى؟
** لا.. لا أجيز له، بمعنى لا أقبل له أن ينخرط في تنظيم وهو في سن مبكرة، ويغلق عينيه بعد ذلك ولا يرى غيره، بل يرى أنها هي منقذ الأمة الإسلامية، وأن الحق فيها ولا حق في غيرها، وأنها هي التي تحقق للأمة آمالها!!
هذا خطأ.. لا بد أن ينظر في الآخرين، إن منهج القرآن يعلمنا تحري الحق حتى عند من نعتقد باطلهم، مثل قوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء}، و{وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين}، وأنا أقصد هنا بالطبع العَالِم وليس عموم الناس الذين لم تتح لهم هذه الفرصة.
العالِم لا بد أن ينظر في خريطة العالَم الإسلامي، يرى كل أصحاب الدعوات والاتجاهات ما لها وما عليها، ويتزود من هذا، إنما لا يصح أبدًا أن يقال هذا عالم في المؤسسة أو المنظمة الفلانية، وهذا عالم يتبع المنظمة الأخرى..
العالم بانتسابه للإسلام بانتسابه للرسول عليه الصلاة والسلام، لكن في نفس الوقت يكون كما قلت يتابع، ويطلع، ويصحح المسيرة، ويدعم بكل ما أوتي من قوة ما يراه صوابا، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- دعي قبل البعثة إلى حلف الفضول، وهو حلف له أهداف سامية، منها الضرب على يد الظالم، ونصرة المظلوم، النبي عليه الصلاة والسلام، وضع يده في هذا الحلف مع عُباد الأوثان، وقال: ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت، وقال فيما روي عنه: أحب عمل عملته أنا قبل البعثة هو هذا الحلف، حلف الفضول.
* هل ترى أن هذا الأمر يصدق على الانتماءات السياسية فقط، أم تنسحب رؤيتك كذلك على الانتماء المذهبي الفقهي، خاصة أنه -الانتماء المذهبي- كثيرا ما صار مصدرا من مصادر الفرقة على مستوى السنة والشيعة وعلى مستوى المذاهب داخل السنة أو داخل الشيعة؟!
** هذا سؤال جيد؛ لأن البعض يعتقد أن الانتماء المذهبي عقيدة يدين الله بها.. وفي الحقيقة نحن نريد عالما لا يُضيع حياته في مذهب معين، حتى يستطيع تلبية احتياجات جماهير الأمة في أي وقت وفي أي مكان..
وأعطيك مثلا..
أنا مذهبي الأساسي الذي درسته في الأزهر هو الشافعي.. لكن حينما كنت رئيسا للدراسات العليا في ليبيا، طلبت مني الحكومة الليبية أيام الملك إدريس، وكان رئيس الوزراء وقتها عبد الحميد الباكوش، طلبوا مني أن أعد قانونا للأسرة، يعني الزواج والطلاق وسائر الأحكام المتعلقة بالأسرة، وطلبوا أن يكون القانون على أرجح الأقوال في مذهب مالك، وأعددت هذا المشروع “القانون” وانتهيت منه في شهر رمضان في عام ألف تسعمائة خمسة وستين..
والشاهد أنني لو كنت أنا شافعيًا بمعنى أنني لا أعرف شيئا غير الذي قاله الإمام الشافعي، فلم أكن أستطيع أن أقدم هذه الخدمة؛ لأنهم يريدون قانونا على مذهب مالك..
بمعنى آخر.. في النظام المالي الإسلامي، وفي كل فروع القانون ما عدا العبادات، يستحيل، يتعذر، أن تعد قانونا مذهبيا.. مثلاً لو قيل اجعل القانون المدني العادي قانون معاملات إسلامية، لا يمكن في الوقت الحاضر أن تقتصر على مذهب معين، تقول مذهب أبو حنيفة تأخذ منه قانون.. لن تستطيع؛ لأن الله عز وجل لم يجعل الحق في فهم أبي حنيفة..
الشرع، الوحي.. لم ينحصر فيما فهمه أبو حنيفة، أو فيما فهمه مالك، أو فيما فهمه الشافعي أو أحمد أو ابن تيمية أو غيرهم.. هذا إنكار لدين الله، أبو حنيفة أو مالك أو كل واحد من هؤلاء الأئمة العظام على حده معه ترس من الماكينة التي تنتظم من خلالها شريعة الإسلام..
إذن لا يجوز مطلقا أن تعتبر أي ترس منها على حده هو الإسلام، وتريد أن تحمل الناس عليه، فالإسلام هو مجموع فهم المجتهدين من الصحابة والتابعين، والأئمة الفقهاء، وأصحاب الحديث، وشراحه، وعلماء التفسير، هو مجموع هذا، ثم هذا الفهم لا يستمر حتى تقوم الساعة، بل يتغير تبعا لتغير الظرف والحال والسياق. ولذلك نؤكد على أن الانغلاق هو المشكلة الأساسية.