كان النبي صلى الله عليه وسلم يتفاعل مع المبشرات القرآنية فإذا مرّ بآية فيها بشارة دعا الله رغبة إليه، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: “كُنْتُ أقومُ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ليلةَ التمامِ، فكان يَقرَأُ سورةَ البَقرةِ، وآلِ عِمرانَ، والنِّساءِ، فلا يَمُرُّ بآيةٍ فيها تَخوُّفٌ، إلا دَعا اللهَ عزَّ وجلَّ واستَعاذَ، ولا يَمُرُّ بآيةٍ فيها استِبْشارٌ، إلا دَعا اللهَ عزَّ وجلَّ ورغِبَ إليه“[1]، وكان صلى الله عليه وسلم يحب تبشير المؤمنين بالخير في الدنيا والثواب في الآخرة.
ومن مظاهر حرصه صلى الله عليه وسلم على بث البشارات والتفاعل معها ما يأتي:
أولا- التبشير في منهجية الدعوة والتعليم:
حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن تكون البشارات حاضرة في منهجية الدعاة إلى الله تعالى، فبها أوصى رسله، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بَعَثَهُ وَمُعَاذًا إلى اليَمَنِ، فَقالَ: “يَسِّرا وَلا تُعَسِّرا، وَبَشِّرا وَلا تُنَفِّرا، وَتَطَاوَعا وَلا تَخْتَلِفا” [2]، فعلى العلماء والدعاة ألا يُقنِّطوا الناس، وأن ييسروا عليهم، لا سيما المبتدئ منهم، يبشرونهم ولا ينفروهم، ويوصي النبي صلى الله عليه وسلم عموم أصحابه بالتزام منهج التبشير، قال عليه الصلاة والسلام: “إنه سيُضرب إليكم في طلب العلم، فرحبوا وبشروا وقاربوا” [3].
ثانيا- إشاعة البشريات بين المسلمين:
كان صلى الله عليه وسلم يبث البشارات ويعجبه أن تنتشر بين الناس، قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: “أتَيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ومعي نَفَرٌ مِن قَومي، فقال: أبشِروا وبَشِّروا مَن وراءَكم، أنَّه مَن شَهِدَ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ صادقًا بها دَخَلَ الجنَّةَ، فخَرَجْنا مِن عندِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نُبشِّرُ النَّاسَ، فاستقبَلَنا عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه فرَجَعَ بنا إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال عُمَرُ: يا رسولَ اللهِ، إذَنْ يَتَّكِلُ النَّاسُ؟ قال: فسَكَتَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ” [4].
ثالثا- تخصيص بعض الصحابة بالبشائر
بالإضافة إلى البشارات العامة التي تعم المسلمين ولا تخص شخصا بعينه، فقد خصّ النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه ببشارات مخصوصة، حتى عُرف مصطلح العشرة المبشرين بالجنة، وهم المذكورون في الحديث الذي رواه عبدالرحمن بن عوف وسعيد بن زيد رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة” [5]. وبشّر النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها “ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب“[6].
ولقد بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا رضي الله عنه بالجنة، عن بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه، قال: أصبحَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فدعا بلالا فقال: “يا بلالُ بمَ سبقتَني إلى الجنَّةِ؟ ما دخلتُ الجنَّةَ قطُّ إلا سَمِعْتُ خَشخشتَكَ أمامي، دخلتُ البارحةَ الجنَّةَ فسَمِعْتُ خَشخشتَكَ أمامي، فأتيتُ على قصرٍ مربَّعٍ مشرفٍ من ذَهَبٍ، فقلتُ: لمن هذا القصرُ؟ قالوا: لرجلٍ منَ العربِ، فقلتُ: أَنا عربيٌّ، لمن هذا القصرُ؟ قالوا لرجلٍ من قُرَيْشٍ، فقلتُ: أَنا قُرشيٌّ، لمن هذا القصرُ؟ قالوا: لرجلٍ من أمَّةِ محمَّدٍ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، قلتُ: أنا محمَّدٌ لمن هذا القَصرُ؟ قالوا: لعُمرَ بنِ الخطَّابِ. فقالَ بلالٌ: يا رسولَ اللَّهِ ما أذَّنتُ قطُّ إلا صلَّيتُ رَكْعتينِ، وما أصابَني حدَثٌ قطُّ إلا توضَّأتُ عندَها ورأيتُ أنَّ للَّهِ عليَّ رَكْعتينِ. فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ: بِهما”[7].
رابعا- الترغيب بتبشير المهمومين:
– تبشير الثلاثة الذين خلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم تبوك: إن الترغيب بتبشير المهموم يدخل في باب حب الخير للناس، وهذا النهج حرص عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، اقتداء بنبيهم عليه الصلاة والسلام. ولعل أعظم مثال على ذلك ما جاء في قصة الثلاثة الذين خلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم تبوك، فعندما نزلت توبتهم، سارع الناس لتبشيرهم، والثلاثة هم: كعب بن مالك، ومرارة بن ربيع، وهلال بن أمية، رضي الله عنهم، يقول كعب بن مالك: “فلما صليت الفجر صبح خمسين ليلة، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عز وجل قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى على الجبل سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب أبشر، فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرج، وأذن رسول الله للناس بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قِبل صاحبي مبشرون، وركض رجل إلي فرسا، وسعى ساع من أسلم فأوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيّ فكسوته إياهما ببشراه والله ما أملك غيرهما يومئذ”[8].
– تبشير فقراء المهاجرين بسبق الأغنياء في الجنة: الفقر مع الهجرة عن الأوطان من ألوان الهموم الثقيلة، لذلك استحقوا بشارة النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالسبق في الجنة، عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: بينا أنا جالس في المسجد، وحلقة من فقراء المهاجرين وسط المسجد جلوس، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد نصف النهار، فانطلق إليهم، فجلس معهم. فلما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم جلس إليهم، قمت إليه، فأدركت من حديثه وهو يقول: “بشر فقراء المهاجرين، إنهم ليدخلون الجنة قبل الأغنياء بأربعين عاما” [9].
– الدعاء للمستضغفين: وكان صلى الله عليه وسلم يدعو للمستضعفين في مكة، الذين منعتهم قريش من الهجرة واللحوق بالنبي صلى الله عليه وسلم، وآذوهم وعذبوهم، وكان يدعو على معذبيهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قال: سمع الله لمن حمده، في الركعة الآخرة من صلاة العشاء، قنت: “اللَّهُمَّ أنْجِ عَيَّاشَ بنَ أبِي رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ أنْجِ الوَلِيدَ بنَ الوَلِيدِ، اللَّهُمَّ أنْجِ سَلَمَةَ بنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ أنْجِ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وطْأَتَكَ علَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عليهم سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ.”[10]. وفي رواية لابن حبان: “اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم كسني يوسف، اللهم العن لِحيان ورِعلا وذكوان، وعُصيّة عصتِ الله ورسوله”، ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما نزلت: (ليس لك من الأمر شيءٌ أو يتوبَ عليهم أو يعذبَهم فإنهم ظالمون) [آل عمران: 128] [11]. وظل النبي صلى الله عليه وسلم يدعو للمستضعفين حتى قدموا إليه، ففي رواية لمسلم، وابن حبان: “قال أبو هريرة رضي الله عنه: وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فلم يدع لهم، فذكرت ذلك له، فقال صلى الله عليه وسلم: أما تراهم قد قدموا” [12]. قال الخضري: “كان عليه الصلاة والسلام يدعو لهم في صلاته، وهذا أصل القنوت، وقد حصل في أوقات مختلفة ومحالّ في الصلاة مختلفة، فكان في وتر العشاء، وصلاة الصبح بعد الركوع وقبله، فروى كل صحابي ما رآه، وهذا سبب اختلاف الأئمة في مكان القنوت” [13].
– تبشير أهل الشهداء بكرامة شهدائهم عند الله تعالى: عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، قال: لقيني النبي الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: “يا جابر، ما لي أراك منكسرا؟ فقلت: يا رسول الله استشهد أبي وترك عيلا ودينا. فقال: ألا أبشرك بما لقي الله به أباك؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: ما كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب، وإن الله أحيى أباك فكلمه كِفاحا، فقال: يا عبدي، تمنّ أعطك! قال: تحييني فأُقتل قتلةً ثانية. قال الله: إني قضيت أنهم لا يَرجعون. ونزلت هذه الآية: {ولا تحسبن الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يُرزقون} [آل عمران: 169][14]. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن الرُّبيع بنت النضر أتت النبي صلى الله عليه وسلم وكان ابنها حارثة بن سراقة، وكان أصيب يوم بدر أصابه سهمٌ غَرَبٌ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أخبرني عن حارثة لئن كان أصاب خيرا احتسبت وصبرت، وإن لم يصب الخير اجتهدت في الدعاء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “يا أُمَّ حارِثَةَ إنها جِنَانٌ في جنةٍ وإنَّ ابْنَكِ أصاب الفِرْدَوْسَ الأعْلَى والفِرْدَوْسُ رَبْوَةُ الجنةِ وأَوْسَطُها وأَفْضَلُها” [15]. وفي رواية البخاري: “فَقالَ لَهَا: هَبِلْتِ، أجَنَّةٌ واحِدَةٌ هي؟ إنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ، وإنَّه في الفِرْدَوْسِ الأعْلَى. وقالَ: غَدْوَةٌ في سَبيلِ اللَّهِ أوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وما فِيهَا، ولَقَابُ قَوْسِ أحَدِكُمْ، أوْ مَوْضِعُ قَدَمٍ مِنَ الجَنَّةِ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وما فِيهَا، ولو أنَّ امْرَأَةً مِن نِسَاءِ أهْلِ الجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إلى الأرْضِ لأَضَاءَتْ ما بيْنَهُمَا، ولَمَلأَتْ ما بيْنَهُما رِيحًا، ولَنَصِيفُهَا -يَعْنِي الخِمَارَ- خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وما فِيهَا”[16].
* عضو هيئة علماء فلسطين في الخارج.
[1] أخرجه أحمد (ح24609)، وأبو يعلى (ح4842)، والبيهقي (ح3839).
[2] رواه البخاري (ح3867، 527)، ومسلم (ح3865).
[3] رواه الرامهرمزي وفي سنده رجل لم يسمه، انظر السلسة الصحيحة للألباني، مكتبة المعارف، ط1، 1/ 568.
[4] رواه أحمد (ح19597، 19612)، وانظر: مجمع الزوائد للهيثمي 10/86.
[5] رواه الترمذي (ح3680)، والنسائي في الكبرى (ح8193، 8194)، وأحمد 3/136. وانظر: ابن حجر، تخريج المشكاة 5/436.
[6] رواه البخاري (ح1791، 1792)، ومسلم (ح2433)، وابن حبان (ح3339، 3340).
[7] رواه الترمذي (ح3689)، وأحمد (ح23046).
[8] ابن كثير، البداية والنهاية 5/23.
[9] رواه ابن حبان (ح3627)، وانظر: صحيح موارد الظمآن للألباني 2/503 (ح2176).
[10] رواه البخاري (ح1006)، ومسلم (ح675).
[11] ابن حبان (ح6538)، وانظر رواية مسلم (ح675).
[12] مسلم(ح675)، وابن حبان (ح6836).
[13] الخضري، نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، دار ابن حزم-بيروت، ط2، 1422هـ/ 2001م، ص101.
[14] رواه ابن حبان (ح3358)، وانظر: السلسلة الصحيحة للألباني (ح3290).
[15] رواه الترمذي (ح3174).
[16] رواه البخاري (ح6567).