– النظام يرى أن النخب الحالية مؤدلجة ولها ولاءات سياسية خارجية ومستقطبة بين المحاور الإقليمية
– رغم منع الحكومة النقابات من إجراء الانتخابات بحجة الوضع الوبائي كانت ترعى الانتخابات العشائرية الداخلية
– القانون الانتخابي الحالي كرَّس دور المال الأسود وغيَّب نواب العمل السياسي لصالح الخدميين
– نصيب الأحزاب الإسلامية مجتمعة لن يزيد على 10 مقاعد إضافة إلى بعض الكوتا العرقية والدينية التي تتحالف معهم
– إصلاح الحياة السياسية لن يمر إلا من بوابة تصحيح دور البرلمان وقيامه بالمهمة التي وجد من أجلها
نظام الحكم في الأردن نيابي ملكي وراثي، لكن ممارسات الحكم النيابي في الأردن لم تصل إلى شكل الحكم البرلماني الحديث في الوصول للسلطة من خلال الشعب وفرز القيادات السياسية للدولة من رحم الصندوق، فلا تزال المملكة توصف بالمملكة الشمولية النصف ديمقراطي.
يفسر البعض إصرار الجهات الحكومية وصناع القرار على إجراء الانتخابات البرلمانية في نوفمبر القادم رغم وجود جائحة “كورونا” وإعادة تفشي الوباء بشكل كبير بالأردن في المرحلة الأخيرة يعود إلى رغبة النظام في وصول مجلس نواب جديد بعمر أربع سنوات، بعيداً عن وقع الأزمة الاقتصادية التي سوف تضرب الأردن بعد انتهاء جائحة “كورونا”، وما يترتب عليها من زيادة نسبة الفقر والبطالة؛ وهو ما سينعكس على مزاج الناخب في طريقة التصويت أو قناعته بالذهاب للعملية الانتخابية من الأساس، لكن:
لماذا تغيب الحكومة البرلمانية في الأردن؟
وكيف يتم توظيف العشائر في العمل السياسي؟
وكيف يعطل قانون الانتخاب الحالي الحياة السياسية؟
وما المخرج لمعالجة الاختلال السياسي؟
كانت أول وآخر حكومة برلمانية جاءت من رحم الصندوق بالأردن في أكتوبر 1956م، وانتهت في أبريل 1957م، بمدة حكم 5 شهور و12 يوماً، حكومة كان يقودها سليمان النابلسي الذي حاز حزبه على 14 مقعداً من أصل 40 مقعداً في مجلس النواب، وقدم تحالفاً يسارياً في البرلمان مكَّنه من تشكيل الحكومة رغم خسارته الشخصية في الوصول للبرلمان، بعدها تم حل الحكومة وحل البرلمان من قبل الملك الأردني بسبب الاختلاف على السياسية الخارجية التي كانت تقوم على التجاذب بين المعسكر الاشتراكي، والمعسكر الليبرالي الرأسمالي، وتم إرسال النواب إلى السجون، وتعليق الحياة السياسية والحكومة البرلمانية حتى وقتنا الحاضر.
بعد ذلك تم العودة لطريقة اختيار رئيس الحكومة من قبل الملك، ويكلف رئيس الوزراء الذي يختاره الملك باختيار الطاقم الوزاري معه، ويعرض على مجلس النواب لأخذ الثقة عليه وعلى برنامجه الوزاري.
لم يحصل أن تم حجب الثقة عن أي حكومة اختارها الملك طيلة تاريخ مجلس النواب، وإن كانت حكومة سمير الرفاعي الجد في عام 1963م قدمت استقالتها أمام العاهل الأردني الملك حسين بعد أن علم رئيس الوزراء الرفاعي أن 23 نائباً من أصل 60 قرروا حجب الثقة عنه، ليصار إلى قبول استقالة الرفاعي وبنفس الوقت حل مجلس النواب واعتقال بعضهم، وبعد ذلك لم يحصل أن حجبت الثقة من مجلس النواب عن أي حكومة اختارها الملك سواء في عهد الملك حسين، أو عهد الملك عبدالله الثاني.
فالحكومة البرلمانية التي يختارها الشعب تغيب منذ عام 1957م، وقد يرجع ذلك لعدة أسباب:
1- يبدو أن قناعة صناع القرار هي أن النخب المؤثرة غير قادرة على تقدير احتياجات الأردن بالمسائل الإقليمية والسياسة الخارجية، فيبدو أن النخب من وجهة نظر صناع القرار نخب مؤدلجة بين التيارين اليساري والإسلامي، ويغيب عنها النخب الوطنية البرامجية، وتلك التيارات المؤدلجة توصف من أركان النظام بأن لها امتداداً خارجياً، ولديها ولاءات سياسية خارجية، ومستقطبة بين المحاور الإقليمية في المنطقة، وهذا لا يخدم المصالح والدولة الأردنية.
2- تخوف صناع القرار من خيارات الشعب، خاصة أن القبيلة أصبحت تمارس العمل السياسي موسمياً، وعدم نضوج فلسفة الديمقراطية في نفوس المجتمع، فما زال للانتماء القبلي الأثر الأكبر في الاختيار، في حين تغيب البرامجية عن اهتمامات الشعوب.
3- تمسك التيار “الأمنوقراط” في الصيغة الحالية لإدارة الدولة الذي يرى في الحكومة البرلمانية تهديداً حقيقياً لمصالحه التي يحققها بشكل غير مشروع (فساد)، قد تصل بهم إلى خلف القضبان والمعتقلات، خاصة لو جاءت حكومة تطبق القانون بشكل صارم، ويرى هذا التيار العميق في أجهزة الدولة أن الديمقراطية تهدد أمن البلاد، فهذا التيار يرى الحرية نقيضاً للأمن!
توظيف العشائر سياسياً
يوصف المجتمع الأردني بأنه مجتمع قلبي؛ إذ تشكل القبيلة ورابط الدم النسيج الاجتماعي للمجتمع الأردني، إلا أنه في الآونة الأخيرة بدأت هناك قوى رسمية (تيار الأمنوقراط) تدعم تحويل تلك الكيانات الاجتماعية إلى أحزاب سياسية موسمية تمارس العمل الانتخابي، ومن ثم تعود إلى صفتها الاجتماعية بعد انتهاء المواسم الانتخابية.
في الوقت الذي كانت الحكومة الأردنية تمنع النقابات المهنية من إجراء الانتخابات المستحقة في موعدها القانوني بحجة الوضع الوبائي، كانت الحكومة ترعى عملية الانتخابات العشائرية الداخلية وتدعمها لتقديم مرشحيها إلى الانتخابات البرلمانية وضمان وصولهم إلى القبة البرلمانية كبديل عن العمل الحزبي السياسي ورفع نسبة المشاركة في الانتخابات.
هذه معضلة سياسية؛ وهو تحويل العشائر من مكونات اجتماعية إلى سياسية، بدأت الأحزاب أيضاً تمارس العمل السياسي من خلالها؛ إذ يسعى كثير من مرشحي الأحزاب للحصول على الإجماع القبلي قبل الترشح في قوائم الحزب، وفي ذلك نكوص سياسي وتهديد لفكرة وفلسفة العمل الانتخابي البرلماني.
منذ عام 1989م وإجراء الانتخابات التي جاءت بالتيار الإسلامي إلى قبة البرلمان بربع المقاعد واستطاعته الوصول إلى رئاسة مجلس النواب، تم تعديل قانون الانتخابات أكثر من مرة، وتم تصميم القانون بحيث يمنع وصول أي تيار سياسي يشكل قوة ضغط داخل البرلمان، فتم خلق قانون الصوت الواحد ليصل الأمر بعد عقود إلى قانون القائمة النسبية المفتوحة، وهو قانون يمثل روح وفلسفة قانون الصوت الواحد المجزوء ولكن بثوب القائمة النسبية المفتوحة.
القانون المعمول به حالياً يقوم على فكرة تشكيل القوائم الانتخابية من المرشحين، ويكون للناخب أن يختار القائمة ويختار من داخلها أيضاً النائب الذي يريده، دون أن تكون هناك عتبة انتخابية، هذا القانون أخرج مجموعة من الإفرازات السياسية الخطيرة التي لا تقل عن قانون الصوت الواحد، أهمها:
1- أنه كرس دور المال الأسود بحيث يعمل المرشح الأوفر حظاً على تكوين القوائم الانتخابية التي يخوض بها الانتخابات من خلال المشاركة مع المرشحين الأقل حظاً، والهدف من ذلك هو الإتيان بالمرشح الضعيف وكتلته الانتخابية، وعادة ما يتم استخدام المال الأسود في جلب المرشح الضعيف ليكون ضمن قائمة المرشح القوي، وهو ما يسمى في العرف السياسي الأردني “الحشوة”، وعادة ما يُدفع مبلغ مالي للمرشح الحشوة مقابل انضمامه للقائمة هو وكتلته التصويتية التي تكون عصبة القبيلة.
2- أنه يصل إلى نتائج قانون الصوت الواحد ذاتها؛ إذ إن القانون جاء خالياً من أي عتبة انتخابية، ولذلك لا تستطيع أي كتلة انتخابية فرز أكثر من مرشح واحد وهو الأكثر أصواتاً داخل القائمة، والنتيجة نائب واحد عن كل كتلة.
3- القانون بشكله الحالي يعطي الفرصة لنواب الفرز العشائري ونواب المال الأسود، ويغيّب القادة السياسيين والحزبيين عن المشهد السياسي.
4- القانون يفرز نواب العمل الخدمي، ويغيب نواب العمل والبرنامج السياسي.
رغم قناعة كل النخب والأحزاب السياسية أن القانون الحالي لا يحسن نتائج العملية الانتخابية، وأنه بصيغته الحالية سوف يفرز مجلساً بعيداً كل البعد عن العمل السياسي ووظيفة مجلس النواب في الرقابة والتشريع، إلا أن هناك توجهاً عاماً لدى كل الأحزاب للمشاركة في الانتخابات من باب البقاء في الساحة والاحتكاك في المجتمع، واعتبار الانتخابات فرصة لتواصل الأحزاب مع أفراد المجتمع.
دائماً يتم التساؤل عن موقف الحركة الإسلامية -ممثلة بجماعة الإخوان المسلمين الأم- من المشاركة في الانتخابات، في الوقت الذي كانت تمارس الجماعة الأم المقاطعة السياسية كوسيلة ضغط على النظام، نجد اليوم الدولة غير معنية بمشاركة الإسلاميين، وبالوقت ذاته هناك رغبة معلنة من الحركة الإسلامية في المشاركة بالانتخابات لأسباب تتعلق بأزمتهم التنظيمية الداخلية التي أوصلتهم إلى مرحلة الحظر القانوني ونزع الشرعية القانونية عنهم.
فسوف تشارك في الانتخابات الحركة الإسلامية وجميع الأحزاب التي تولدت من رحمها نتيجة الانشقاقات التي لحقت بها في أزمتها الداخلية، غالباً باستثناء حزب الشراكة والإنقاذ الذي حدد الشارع كوسيلة للتغيير وكسر حالة الجمود السياسي، إلا أنهم وبمشاركتهم يتوقع أنهم لن يحققوا تحت القبة مجتمعين أكثر من 10 مقاعد، إضافة إلى بعض الكوتا العرقية والدينية التي تتحالف معهم.
الخروج من الأزمة
يعاني الأردن أزمة اقتصادية كبيرة نتيجة طبيعية لحالة الردة السياسية الراشدة طيلة العقود الماضية، وكل النخب المعارضة تشخص الحال، وتجد أن علاج الوضع الاقتصادي يكون بعلاج الوضع السياسي؛ حيث إن المرض الاقتصادي عرَض للمرض السياسي وليس مرضاً بحد ذاته.
وإصلاح الحياة السياسية لن يمر إلا من بوابة تصحيح دور البرلمان وقيامه بالمهمة التي وجد من أجلها (الرقابة والتشريع)، وإفراز رئاسة الحكومة (الحكومة البرلمانية) البرامجية، وهذا لا يمكن أن يتم من دون إصلاح القانون الانتخابي المعمول به حالياً.
لا تجمع النخب السياسية الأردنية على شكل القانون الانتخابي الذي يريدون، لكنهم بالنهاية يجمعون على أن القانون الحالي يفرز نواب القبائل ونواب الخدمات ويغيب نواب العمل السياسي ونواب الرقابة والتشريع.
والمعايير الحديثة في القوانين الانتخابية تقوم على معيار التوزيع الجغرافي (المساحة الجغرافية)، والتوزيع الديمغرافي (الكثافة السكانية)، وتركيز التنمية.
ونظراً للخطر السياسي الذي يحيط بالأردن (شبح الوطن البديل)، ونظراً للفجوة التنموية العميقة بين مدن الأطراف والعاصمة عمَّان، فإن التوافق يتبلور على أن أفضل القوانين التي يمكن أن تلائم الأردن في ظرفه الحالي هو الأنظمة الانتخابية المختلطة (النظام الفردي ونظام القوائم)، مع مراعاة التوازن بين معيار المساحات الجغرافية، والكثافة السكانية، والحالة التنموية؛ بحيث يتم تخصيص ثلث مقاعد المجلس للنظام الفردي، وهم نواب الخدمات وتنمية المناطق، على أن تكون تلك المقاعد من نصيب مدن الأطراف الأقل تنمية والمهمشة اقتصادياً، وتخصيص ثلثي مقاعد المجلس للقوائم النسبية المغلقة، على أن يراعى في تلك المقاعد معيار الكثافة السكانية للمدن، وتكون القوائم محكومة بالتالي:
1- قوائم حزبية أو تحالف حزبي تحت مظلة حزبية فقط.
2- قوائم مغلقة، بحيث يكون المتصدر هو رأس القائمة في الترتيب الرقمي داخل القائمة دون تصويت داخل القائمة لنضمن وصول قادة الأحزاب والنخب السياسية للقبة.
3- وجود العتبة الانتخابية بنسبة لا تقل عن 10%؛ لضمان تشكل كتل سياسية مؤثرة متماسكة داخل المجلس.
وبذلك يكون لدينا برلمان ثلثه خدمي تنموي، وباقي المجلس نخبوي سياسي يمارس الرقابة والتشريع، ويكون قادراً على إيصال نواب قادرين على تشكيل حكومة برلمانية قادرة على النهوض وتصحيح مسار إدارة البلاد الذي يسير بالاتجاه الخطأ.
من الواضح أن الدولة العميقة وتيار “الأمنوقراط” لن يسمح بسهولة بالتحول نحو الحكومة البرلمانية ورد سلطة الشعب للشعب، وهذا يحتم على النخب السياسية المعارضة التعاون فيما بينها من أجل استغلال كل الوسائل المتاحة سواء كانت من خلال الاحتجاج في الشارع أو الإصلاح من خلال الدخول لمؤسسات الدولة، أو من خلال الحوار مع صناع القرار للوصول إلى الحكومة البرلمانية، وبعد ذلك سيكون استرداد الأردن عافيته السياسية والاقتصادية مسألة وقت وتفاصيل ليس أكثر.
________________________
(*) كاتب ومحامٍ أردني.