ارتبط مفهوم بناء الرؤية في بعض مراحل الحركة بتأكيد خاصية الانغلاق الفكري وعدم الالتفات إلى مصادر التفكير والرؤى الأخرى، وهي رغبة ارتبطت في ذهن القائمين على بناء هذه الرؤية في البرنامج التربوي للحركة بفكرة التحصين الذاتي – رغم أن الفكرة العلاجية للتحصين في بعدها الطبي تعني أن يأخذ الإنسان جرعات من الفيرس ذاته ليتكون التحصين ضده حال مهاجمة الإنسان- ولكن الفكرة داخل الحركة كانت عكس ذلك هو الابتعاد تماما عن كل مصادر الأفكار التي يمكن أن تسبب توترًا في مسيرة الفرد داخل الحركة أو تعطل مسيرة الحركة بالطرح والنقاش ( أو كما أسموه بالجدل الفكري العقيم) وتمسكوا في ذلك بمبدأ في الأصول العشرين يقول [وكل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها من التكلف الذي نُهينا عنه شرعًا] على الرغم من أن الإمام البنا وضح وفصل بعد تعميم فيما يقصد وهو […ومن ذلك كثرة التفريعات للأحكام التي لم تقع، والخوض في معاني الآيات القرآنية الكريمة التي لم يصل إليها العلمُ بعد، والكلام في المفاضلة بين الأصحاب- رضوان الله عليهم- وما شجر بينهم من خلاف، ولكلٍّ منهم فضلُ صحبته وجزاءُ نيته وفي التأول مندوحة]. ولكن هذا الأصل شكل مناخا عامًا للحركة الفكرية داخل الحركة الإسلامية التي اقتصر إنتاجها الفكري على شرح مكثف ومتعدد للأصول العشرين رغم أن الأصل السادس فيها هو [ وكل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم] ومثلت هذه الأصول – رغم أهميتها معرفيًا من ناحية ما- دستورًا فكريًا ورؤيويًا لعقل الحركة التربوي والذي كان يجب أن يحفظه بنصه (كل أخ عامل) ..ويفهمه على طريقة إحدى الشروح المعتمدة التي لم تخضع إلى معارضة فكرية واحدة داخل الحركة في صورة معلنة – على الأقل-.
ومن وجهة نظري أن هذه النصوص البشرية التي طُرحت من جانب مجدد في قامة الإمام حسن البنا (1906-1949م) لم يكن تلك الغاية منها مطلقا ..فهي كانت محددات لا أوامر أو نواهي، ومنطلقات نهايات لعقل الحركة، ومرتكزات للرؤية وليست سدًا أو غلقًا لمنافذ الوعي لها..ولكن نتيجة لمتغيرات داخل الحركة وخارجها مثلت هذه الأصول العشرين أو بالأحرى شروحها – التي كانت حصونا حتى لفهم أبعاد أخرى لها- كل وعي عقل الحركة وكل بنائها الفكري ..فحدث الانغلاق الفكري بدعوى أن الأفكار التي لا تحمل عملًا غير جديرة بالنقاش..رغم أن الدعوة في ذاتها فكرة، والإسلام فكرة ، والتوحيد فكرة، ..والأفكار هي التي تتحول إلى مبادئ للعمل وتمثل توجهات الأشخاص أو تصوبها، بينما الانغلاق جعل أفكار الحركة تدور في صورة دائرية أو بتعبير المنطق مصادرة على المطلوب..فلا جديد يقدم ..ولا جديد يطرح ..ولا جديد ينتظر ..ولهذا – وهو ما سيأتي في حلقة أخرى- لم تقدم الحركة إنتاجًا فكريًا في العقود الخمس الأخيرة ما يشكل ولو نصف ما تم تقديمه في عقدها الأول.
إن المطلب هنا هو إزالة الغبش: والغبش أقصد به هنا كل ما يشوه الرؤية ويحاصرها بشكل ضبابي فلا تجيد العين رؤية الأشياء بوضوح.. ومما يساعد على إزالة الغبش هو تحقيق الانفتاح الفكري الأفقي ( على كل الأفكار المتاحة في الميدان المعرفي الإسلامي بل والميدان الإنساني). ولعل هنا يفيد ما طرحناه سابقًا من أن مشروع الحركة الإسلامية هو مشروع يتكامل فيه كل أصحاب أفكار التجديد في الأمة، وأن الإمام البنا –رحمه الله- التقط كل الأفكار السابقة عليه من محمد عبده والأفغاني ورشيد رضا وطرحها في إطار حركي ..أي أن الإمام البنا حركته كانت من آثار الوعي بأفكار التجديد في الأمة، وأحدث لها بطرحه تتابعية فريدة ومُجدِدَة..ولكن تتابعية الوعي لعقل الحركة انقطع تمامًا بعد الإمام البنا لظروف ومتغيرات متعددة مرت بها الحركة، ولم تعد إلى هذا الوعي بل اكتفت بآثار البنا..شرحًا وتفسيرًا وتفصيلًا و..و…
ولهذا فمن متطلبات إزالة الغبش وتصحيح الرؤية أو بنائها من جديد هو إدراك تتابعية هذا الوعي: فأفكار مالك بن نبي، ومحمد إقبال، وعلى شريعتي، ومحمد باقر الصدر، وإسماعيل الفاروقي، وطه العلواني وغيرهم..هي مشاريع لا يمكن لطلائع الحركة الإسلامية أن يتغافلوها، أو لا يكونوا على وعي كامل بها وبكلياتها على الأقل.
إن فك الحصار عن عقل الحركة أمر ضروري، إن القرآن أشاع المناخ الفكري لعمل العقل وانفتاحه بكلمة واحدة هي “اقْرَأْ ” أزال بها غمة الإنسان كاملة وجهله بالعالم المحيط، وحقق الوعي كاملًا، وطرح القرآن كل رؤى الوجود الوضعية وطرحها للنقاش وبكل عمق وبكل استقامة وحيادية، ومن ثم كانت رؤية المسلم ثاقبة لكل ما أحاط به، وكل ما تعرف عليه من ثقافات وبنى عليه حضارة استمرت عشرة قرون – رغم ما أصابها من الداخل من إصابات قاتلة- لو سلامة رؤية العقل الجمعي التي حملت الأمة إلى هذا العطاء الحضاري الممتد ..والله أعلم