إنها ذكرى عزيزة على قلوبنا، أليمة على نفوسنا، ذاقت فيها الأمة الإسلامية طعم اليتم بعد رحيل داعيتها الكبير وحاديها العظيم الشيخ محمد الغزالي (22 سبتمبر 1917م – 9 مارس 1996م)؛ حيث يمر اليوم ربع قرن على وفاته، الذي لا أرى أن غيابه قد عوضه أحد، ولا أرى أن الفهم في دين الله الذي قُبض برحيله قد سُدَّتْ ثُلْمته من بعده حتى اليوم!
إنني حين أمسك بالقلم لأكتب عن الإمام محمد الغزالي أشعر بالتقازم والتصاغر أمام هذا العملاق العظيم، أو حين أستضاف في أي قناة لأتحدث عنه لا أجدني أستطيع التوقف أو التقاط الأنفاس لشدة الحرارة الروحية التي تتلبسني حين الحديث عنه التي ترجع إلى إخلاص الشيخ وصدقه وتجرده في مواقعه ومواقفه جميعا، وفيما كتب وخطب على السواء.
الشيخ الغزالي هو ذلك الرجل المدافع عن دين الله والحارس لتعاليمه الذي عاش على الأرض يستشعر أنه المسؤول الأول عن الإسلام يدافع عنه في جبهات أعدائه من خارجه الشيوعيين والعلمانيين، وأعدائه من داخله من أصحاب التدين المغشوش المصابين بالعور الفكري يقدمون الجزئيات على الكليات والمتشابهات على المحكمات والفروع على الأصول، فيصاب الإسلام على أيديهم بهزائم شديدة.
لقد شق قلمُه المضيء حُجُبَ ظلماتِ الجهل والبعد عن الله ما يزيد عن ستين سنة، فاستضاءت أجيال متعاقبة بهذا القلم الصَّيِّب والكلم الطيب، وقد وجدت هذه الأجيال بغيتها عنده، فأصغى لدرر محاضراته الملايين من المسلمين في المشارق والمغارب، وأخرجت المطابع هذا الكلم الرفيع كتبا ورسائل ومقالات دبجها يراع داعيتنا الكبير تُزوِّد جيل العودة إلى الله بالبحث والحوار العلمي والتوجيه إلى طريق الرشد في ظل القرآن وتحت رايته.
إن عبارة الشيخ الغزالي عبارة ملهمة مجددة، تجد فيها الفكر الرصين، والهم الثقيل، والحرارة اللاهبة، والوعي الراشد، والصدق الماثل، والشفافية العالية، والأدب الأخاذ، والصياغة المحكمة، والحكمة البالغة، والحجة الدامغة؛ بحيث تجد من عبارته وجبة متكاملة للعقل والروح والنفس والوجدان.
معارك كبرى
لقد خاض الشيخ الغزالي معارك كبرى أبرزها “معركة المصحف”، ووقف بها في “وجه الزحف الأحمر”، وتجرع في رحلته الدعوية جرعات كبيرة من “الحق المر” استعان عليها بـ”تعامله مع القرآن” و”فقه السيرة”؛ فكان “مع الله” بعقله وروحه، وكم عالج من “علل ووصف من أدوية”، وقدم للإنسانية “الجانب العاطفي من الإسلام” لتعرف ما “ليس من الإسلام”، و”تجدد حياتها” دائما، وتقرأ “تراثها الفكري بين العقل والشرع”؛ فكانت حياته تعبر عن رحلة “كفاح دين” تذوق فيها “فن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم” ليضع معالم استشرافية لـ”الدعوة الإسلامية في القرن الرابع عشر الهجري”.
كان الشيخ الغزالي رغم حدته على المخالفين لهدي الإسلام رقيقَ القلب، قريب الدمعة، موطأ الأكناف، حلو المعشر، سريع النكتة، يبكي لأقل مشهد إنساني يراه، وتنزل دموعه حين يمر طائف رسول الله على خاطره، وكان قلبه مليئا بحب الله وحب رسوله، فلا تشعر أن في قلبه مكانا يكمله حبٌّ آخر!
ومن شدة حبه لرسوله عليه الصلاة والسلام ما تشعر به في كتابه الماتع “فن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء”، وكتابه “فقه السيرة” الذي يفيض بحبه للنبي الكريم، والذي كتبه في ظلال الروضة الشريفة ودمعه يختلط بالمداد، قال فيه: “إنني أكتب في السيرة كما يكتب جندي عن قائده، أو تابع عن سيده، أو تلميذ عن أستاذه (…) إن المسلم الذي لا يعيش الرسول في ضميره، ولا تتبعه بصيرته في عمله وتفكيره، لا يغني عنه أبدا أن يحرك لسانه بألف صلاة في اليوم والليلة”.
عاش الشيخ الغزالي 79 عاماً في الإسلام وللإسلام وبالإسلام، بكل كيانه، وكل مشاعره، وعانق الصبر على ذلك حتى لقي الله وهو يدافع عن الإسلام في مؤتمر الجنادرية بالرياض يوم 9 مارس 1996م، ودفن بالبقيع بين قبر الإمام مالك وقبر الإمام نافع، رحمهم الله جميعاً.
سيظل الشيخ الغزالي ذلك النموذج الكامل للداعية المسلم والمصلح المؤمن والمفكر المبدع، وسيدوم بيننا قيمةً ثابتة وقدوة نافعة.. إنه صاحب الروح المشرقة، والقلب الأواب، والدمعة القريبة، والعبارة البليغة التي تقنع العقل وتمتع القلب وتسعد الروح وتهذب الوجدان وتأخذ بالألباب، وتعبر عن حقائق الإسلام وتدحض أباطيل خصومه؛ لأنها خرجت من فقه عميق بشريعة الله، وولدت من رحم المعاناة، فكُتب لها الخلود والنفع والبقاء!
اللهم ارحم عبدك محمد الغزالي بقدر حبه لك، ونوّر قبره بقدر حبه لرسولك الكريم، وارفع درجته بقدر جهاده فيك بالإسلام وللإسلام، وعوضنا عنه خيراً، وانفعنا بعلمه، واجعل أثره ممتداً في العالمين.