بعد سقوط الخلافة قال «توماس إدوارد لورانس» المشهور بـ«لوارنس العرب» في كتاب «ثورة في الصحراء»: «لقد وضعنا بمهارة مكة في مواجهة إسطنبول، والقومية ضد الإسلام»، وقال في مناسبة أخرى: «علينا أن ندفع بالغرب لانتزاع حقوقه من تركيا بالعنف؛ لأننا بهذا نقضي على خطر الإسلام وندفع به (أي الإسلام) لإعلان الحرب على نفسه وبذلك نمزقه من القلب، إذ ينهض في مثل هذا الصراع خليفة في تركيا، وخليفة في العالم العربي، ويخوض الخليفتان حرباً دينية، وبذلك يُقضى على خطر الخلافة الإسلامية بصورة نهائية».
تمكنت «جمعية الاتحاد والترقي» الماسونية من تغيير الدستور التركي وتغيير نظام الدولة ووصلت قوتها في عام 1909م بعد خلع السلطان عبدالحميد الثاني في مشهد يكشف درجة تغلغل الصهيونية في البلاد، حيث تقدم رئيس معبد سالونيك الماسوني اليهودي «عمانوئيل قره صو» ليسلم السلطان باليد قرار عزله، ونفيه إلى مدينة سالونيك عقاباً له على رفضه منح فلسطين لليهود!
هذه الحقيقة التاريخية لا يعرفها كثيرون في الوطن العربي، وتسهم النخب المتغربة في طمسها، ويركزون على وحشية الخلافة العثمانية وطغيانها واستبدادها، دون أن يشيروا بكلمة إلى دور الصهيونية في تفكيك الخلافة وتمزيق المسلمين، وتحريضهم ضد بعضهم والتهام فلسطين وما حولها تمهيداً لإقامة الحلم الصهيوني الشرير (دولة النيل إلى الفرات!).
قبل سنوات، شاهدت برنامجاً تلفزيونياً للمسابقات يعتمد على المشاركة المباشرة لجماهير الشارع العربي، كان سؤال المسابقة: أين تقع قبة الصخرة؟ قال أحدهم: تقع في جدة، وقال آخر: موجودة في مقام الحسين، وقال ثالث: لا أعرف! وقالت فتاة: في القدس المحتلة.
دلالة السؤال والإجابة عميقة ومؤلمة؛ لأنها تكشف عن تدني الوعي، وبالتالي انتفاء الإرادة والقدرة على حماية مقدساتنا والخوف عليها، خاصة بعد هرولة نفر من العرب والحكومات الإسلامية نحو ما يعرف بالتطبيع مع العدو الغاصب، وإقامة علاقات رسمية ودبلوماسية واقتصادية وطبيعية معه، بينما يقوم هذا العدو بتهجير أهل القدس الأسيرة قسراً، وإخلاء مساكنهم والاعتداء على المسجد الأقصى والمسجد الإبراهيمي والسماح لقطعان المستوطنين باقتحام المصليات والأماكن المقدسة وبناء مستوطنات فوق أرض الفلسطينيين بذرائع أسطورية كاذبة.
لقد انعكس ذلك على المثقفين الذين يتصدرون المشهد الثقافي العربي طوال سبعة عقود أو نحوها، فتعاملوا باستهانة مع مقدساتنا وأوطاننا، لدرجة أن رأينا أخيراً بعضهم يتعامل باستخفاف غير مسبوق، ويعلن قبوله بناء معبد يهودي في ساحة المسجد الأقصى، وتسليم المدينة لإدارة غير عربية، كما رأينا آخرين يقفون مواقف غير مسؤولة وهم يشاهدون على الشاشات يومياً آثار العدوان الصهيوني على غزة والقدس الأسيرة والمدن الفلسطينية في أرجاء فلسطين المحتلة قبل عام 1948م وما بعدها، وممارسة الاضطهاد والفصل العنصري ضد المدنيين البسطاء، فيتجاهل كل ذلك وينخرط في سجال هجائي خسيس مع المقاومين الإسلاميين الذين يسقطون شهداء يومياً، وتدمر بيوتهم وعمائرهم ومؤسساتهم، ومدارسهم ومساجدهم ومزارعهم ومصانعهم.
إنهم لم يستنكروا ما يقوم به القتلة الغزاة بأحدث الطائرات، وأقوى الصواريخ وأضخم الدبابات والمدافع من ترويع لأهل فلسطين العزل، وقتل الأطفال والنساء والرجال، ولم يلتفتوا إلى ما قام به المقاومون الأبطال مع قلة عددهم وإمكاناتهم في مواجهة العدوان المجرم، ونقل المعركة إلى داخل المناطق التي يحتلها لأول مرة، حتى عرف أتباعه الغزاة الاختباء في الملاجئ، وأمست صافرات الإنذار طقساً يومياً، يثير الهلع في نفوسهم بعد أن ظلوا لأمد طويل يحاربون على أراضينا العربية، ويفرضون علينا وحدنا البكاء وتشييع الجنازات، ونقل جرحانا إلى المستشفيات، وذلك بعد أن ضربوا عرض الحائط بالقوانين الدولية والحقوق الإنسانية، ووجدوا في عواصم الغرب الاستعماري مساندة ودعماً مادياً ومعنوياً، خاصة في الأمم المتحدة!
تغيير الموازين
على أية حال، فقد استطاعت المقاومة الباسلة في عملية «سيف القدس» أن تقلب المعادلة وتغير الموازين، وتؤسس لقواعد اشتباك جديدة، جعلت العدو لأول مرة في تاريخه يشعر أن عجرفته على المحك، وأن أتباعه ليسوا محصنين بالعملية التي سماها «حارس الأسوار» كما كان يحدث منذ عام 1948م، وهو ما أشارت إليه «الواشنطن بوست» حين قالت: في تل أبيب شيء ما تغير، هذا الشعور بالحياة الطبيعية آخذ في الانهيار، ولا يشعر الناس بالأمان!
ومهما يكن من أمر، فإن التركيز على عناصر الارتفاع بالوعي وتقوية الإرادة في مواجهة العدو ومقاومته يصبح ضرورة الوقت، لقد نجحت الدعاية الصهيونية على مدى عقود في خداع البسطاء، واستقطاب بعض أصحاب الضمائر الميتة، للترويج لمقولات فارغة عن حبهم للسلام، وأنهم أبناء عمومة للمسلمين، وأن أرض فلسطين هي أرضهم، وهي أرض الميعاد التي وعدوا بها في التوراة، وأنهم وحدهم الساميون في المنطقة، وأنهم يملكون جيشاً لا يُقهر ولا يمكن التصدي له، وكل هذه أساطير لا أساس لها، تقتضي التصحيح والتفنيد، ووضع الحقائق بدلاً منها في مجالات صناعة العقل، وتوجيه الذهن، والتربية الإنسانية، وهو ما يمكن أن نوجزه في عدة مجالات، منها: الإعلام، التعليم، الثقافة، الفنون..
أولاً: الإعلام:
يصعب القول بأن دول العرب تملك آلة إعلامية مهنية حقيقية؛ فهي تملك آلة دعاية ضخمة موجهة لخدمة أهل الحكم في معظم العواصم العربية بالدرجة الأولى وليس خدمة الشعوب والأوطان، وهذه الدعاية نادراً ما تقترب من قضية الصراع مع الغزاة اليهود، وإذا اقتربت فهي تمشي على أطراف الأصابع، وتخافت في الحديث عن الحقائق، واستخدام المصطلحات غير الدقيقة أو غير المعبرة.
الدعاية العربية تعمل مثلاً بكل قوة على تفريغ الصراع من بُعده الديني، وتحرص على تنحية أي دور للإسلام في المقاومة، وتخجل أن تذكر أن فلسطين أرض مقدسة للمسلمين، وأنها مسرى النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها تضم المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين، وأنها وقف إسلامي لا يجوز التفريط فيه أو التنازل عنه، بينما العدو يجعل من احتلاله لفلسطين قضية دينية صرفة بدءاً من اسم الكيان الغاصب (نبي الله يعقوب «إسرائيل» اسماً له)، ويتعامل مع العالم من خلال ما تقوله التوراة بوصفه شعب الله المختار، وأن الكيان يجب أن يكون يهودياً خالصاً، وخالياً من أي عناصر أخرى، وأنه دولة اليهود من كل أنحاء العالم، ثم إنه يتفاوض مع الحكومات العربية وفقاً لما تقوله الأساطير اليهودية القديمة!
إن الدعاية العربية لا تمنح الصراع مع الغزو النازي اليهودي ما يستحق من اهتمام مع أنه صراع وجود، يمضي وفق خطة استعمارية تهدف إلى بناء إمبراطورية تمتد من الفرات إلى النيل، ويسعى في الوقت نفسه إلى استئصال الإسلام أو تفريغه من محتواه بثقافة أخرى تؤيد الاستسلام، وتقبل بالعبودية لما يسمى شعب الله المختار، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وقد شطبت الدعاية العربية مصطلح «الجهاد» تماماً من خطابها المسموع والمرئي والمكتوب!
يقول العلامة الجزائري البشير الإبراهيمي رحمه الله في بعض آثاره: «إن فلسطين وديعة محمد صلى الله عليه وسلم عندنا، وأمانة عمر في ذمتنا، وعهد الإسلام في أعناقنا، فلئن أخذها اليهود منا ونحن عصبة إنا إذاً لخاسرون».
ألا يستحق صراع الوجود مع العدو من الإعلام العربي اهتماماً يعادل الاهتمام بفنان أصيب بـ»كورونا»، أو لاعب كرة تمرد على ناديه؟!
ثانياً: التعليم:
عقب الاتفاقيات التي وقعت بين بعض الدول العربية والعدو الصهيوني، اختفى من المناهج التعليمية معظم ما يتعلق باليهود وتاريخهم في المفهوم الإسلامي؛ بل حاولت بعض الدول العربية تجميل صورة اليهودي و»أنسنته» في مناهج التربية الدينية الإسلامية واللغة العربية والتاريخ والتربية الوطنية، متجاهلة جرائمه التاريخية والمعاصرة ضد الإنسانية في فلسطين وخارجها، بينما على الجانب الصهيوني، لم تتغير صورة المسلم والعربي في المناهج اليهودية، وهي صورة بشعة ومريعة ينطق بها قادتهم، «مناحيم بيجين» يقول مثلاً: «الفلسطينيون مجرد صراصير ينبغي سحقها»! ويصف الحاخام «عوفاديا يوسف»، مؤسس حزب «شاس»، ومُمثِّل اليهود المُستجلبين من المغرب، العرب والمسلمين بأنهم أفاعٍ رقطاء، ويضيف في درس ديني حول موضوع عيد «الحانوكا» اليهوديّ قائلاً عن المسلمين: «إنّهم حمقى ودينهم مقرف مثلهم»! حسب وصفه.
إن مناهج اليهود التعليمية تطفح كراهية ووحشية ولما تزل ضد المسلمين، وصدق الله العظيم إذ يقول: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ) (المائدة: 82)، وتأمل تأكيد الفعل «تجد» باللام، ونون التوكيد الثقيلة، ووصف الحال والاستقبال، وفي القرآن الكريم صفات لليهود لا ترضي صاحب ضمير إنساني، بدءاً من الكذب على الله وقتل الأنبياء إلى نقض المواثيق والعهود، مروراً بتحريف الكلم عن مواضعه وقسوة القلب، وعدم التناهي عن المنكر الذي يقترفونه، قال تعالى: (لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) (آل عمران: 181)، وقال جل وعلا: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) (المائدة: 13)، وقال سبحانه: (كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) (المائدة: 79)، لماذا يتجاهل تعليمنا العربي ما يقوله القرآن الكريم ويصدقه الواقع؟ لماذا لا يطالبه الذين وقَّعوا معه اتفاقات سلام مزعوم بتنقية مناهجه من الوحشية والعنصرية؟
ثالثاً: الثقافة:
هناك جوانب عديدة للثقافة التي يتلقاها الفرد من مصادر متنوعة، فتصنع تصوره، وتؤسس لإرادته تجاه القضايا المختلفة، ولا ريب أن قضية العدوان النازي اليهودي على الأمة قتالاً وعنصرية وتوسعاً وازدراء، تفرض علينا أن نعلم كل شيء عنه، ونناقش ثقافته وتصوراته ونوثق جرائمه واعتداءاته، من خلال الوسائط المؤثرة والفعالة حتى لا ينخدع الناس بتمويهه على الحقائق أو تغييبها بالمصطلحات المراوغة الخلابة من قبيل السلام والمحبة والجوار الحسن والتعايش والتعاون الاقتصادي والزراعي والعلمي.. بينما الواقع غير ذلك، فهو يقتل العرب والمسلمين بلا رحمة، وتمنحه القوى الصليبية الاستعمارية ضوءاً أخضر ليمارس جرائمه دون عقاب أو لوم، بل يجد تأييداً ودعماً ومؤازرة.
ويصعب علينا فهم ما يصدر عن بعض المثقفين العرب ليقفوا مع اليهود الغزاة، ويعارضوا التمسك بالحقوق، ومقاومة العدوان، ويقوموا بخذلان المقاومين الأبطال، وتسمية الشهداء بالقتلى، والتقليل من قيمة المقدسات الإسلامية في فلسطين، والتحريض على استباحتها! والأشد إيلاماً للنفس قيام بعضهم بالترويج لإنسانية اليهود، عبر القصص والروايات، وسرد موضوعات عن علاقات حسنة مع يهود عاشوا بيننا، وخانونا، وهربوا إلى الكيان الغاصب، وحملوا السلاح ضد جنودنا في حروب عدوانية بشعة منذ الثلاثينيات في القرن الماضي حتى اليوم! مع الزعم أن الحكومات العربية أرغمتهم على الهروب من البلاد العربية!
لماذا يصر المتصدرون للمشهد الثقافي في بلادنا العربية من اليساريين وأشباههم على إدانتنا واستبعاد الإسلام وتشويهه، وتصوير المسلم بالمتخلف الغبي الإرهابي المتعطش للدماء، واليهودي بالرجل الطيب العبقري الذي يخدم الإنسانية، بينما يذبحنا وينكل بنا، ويغتصب أراضينا؟ لماذا يطمس الشيوعيون وأشباههم حقيقة أن مؤسس الشيوعية وأحزابها في العالم العربي يهودي خائن اسمه «هنري كورييل» عاش مع أبيه المرابي وعائلته في مصر يتمتعون بما لم يتمتع به المصريون، وخان بلاده وتجسس لحساب الرأسمالية الاستعمارية الإنجليزية، وكان مع أحزابه الشيوعية العربية أول من اعترف بحق الغزاة اليهود القتلة في أرض فلسطين؟ الثقافة العربية ليست بخير!
رابعاً: الفنون:
صارت السينما والدراما التلفزيونية والمسرح والأغنية والأوبرا والموسيقى ونحوها من الوسائل الفعالة لنشر الأفكار، ودحض عقائد الخصوم أو تشويهها، وتصوير صاحبها في الصورة التي يريد، وقد أتاحت منصات التواصل وبث الفنون فرصة ذهبية لإذاعة الأفلام والدراما وغيرها، واشتهرت منصة «نتيفلكس» ببث مسلسلات أعدها اليهود الغزاة لإثبات قدراتهم الخارقة، وخاصة جهاز «الموساد»، وبطولاته في القتل والاغتيال، وفي الوقت نفسه إظهار إنسانيته النادرة(!) في الحفاظ على الأطفال والنساء والأبرياء، إنه يقتل «الفلسطيني الإرهابي!» وسط عائلته دون أن يمسها بسوء! (شاهد مسلسلي «الجاسوس»، و»فوضى»، على سبيل المثال) هل رأيتم تدليساً وتضليلاً أكثر من هذا؟ والسؤال هو: أين نحن من هذا النشاط الفني اليهودي؟ وماذا أنتجنا غير «حارة اليهود»، و»أم هارون» لنجعل من اليهود ملائكة والمسلمين أشراراً؟ لماذا ننسى طبيعة القتلة الغلاّبة وهي المكر والغدر والدهاء والوحشية؟
طلب العقرب من الضفدع أن ينقله على ظهره إلى الضفة الأخرى من النهر لأنه لا يعرف العوم، فرفض الضفدع خوفاً من الغدر، فأقنعه العقرب أنه لو لدغه فسيموت الاثنان معاً، أحدهما بالسم، والآخر بالغرق، تمت الخديعة ولدغ العقرب الضفدع في منتصف النهر، وقبل أن يغرق الاثنان، سأل الضفدع: لماذا غدرت بي وقتلتني معك؟ أجاب العقرب: الطبع يغلب التطبع!
فاعتبروا يا أولي الألباب.
حفظ الله القدس وفلسطين، وهدى الأمة لما فيه الخير والصواب!