أصدر مركز البحوث والدراسات الكويتية، مؤخراً، كتاب «معالم مدينة الكويت القديمة» في ثلاثة أجزاء، بهدف الكشف عن تاريخ مدينة الكويت القديمة ومعالمها المختلفة، من أجل تعريف الأجيال الحالية والقادمة على الأماكن التي عاش فيها الآباء والأجداد، وإطلاعها على طرق معيشتهم وما تكبّدوه من ضنك العيش والسعي في طلب الرزق، ومن ثَمَّ التأكيد على ضرورة المحافظة على المعالم القديمة التي تعكس الذاكرة التاريخية لدولة الكويت.
ويمكننا أن نقول دون أدنى شك: إن هذا الكتاب نجح -من خلال أجزائه الثلاثة- في تحقيق هدفه المنشود؛ حيث قدم صورة الجغرافية التاريخية لدولة الكويت بجميع أبعادها السكانية والعمرانية، وتوزيع الأنشطة المختلفة المتعلقة بحياة الناس كمواقع الأسواق والمؤسسات الحكومية والميناء وغير ذلك، كما قدم صورة اجتماعية تاريخية عن أسماء السكان وجيرانهم والسكك المختلفة، والنافذ منها وغير النافذ، والساحات بين المنازل (البرايح).
وفي هذه المقالة، سنقدم نبذة موجزة عن كتاب «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر الجزء الأول منه عام 2020م، في حين صدر الجزآن الثاني والثالث عام 2021م.
الكتاب نجح بتقديم صورة الجغرافيا التاريخية بجميع أبعادها السكانية والعمرانية والأنشطة المختلفة
أهمية الكتاب:
يأخذ كتاب «معالم مدينة الكويت القديمة» أهميته البالغة وقيمته العلمية من كونه يعرّف الأجيال الحالية والقادمة -ممن لم يرَ مدينة الكويت القديمة- على المكان الذي عاش فيه الآباء والأجداد، وبالتالي فهو يدعو إلى ضرورة المحافظة على المدن القديمة بكل معالمها من أحياء وبيوت وشوارع وأزقة وأسواق وأسوار وآبار وغيرها، ولا شك أن المحافظة على المدن القديمة ومعالمها المختلفة تعتبر «أفضل سُبُل حماية الهوية الوطنية وإثبات وجودها التاريخي والحضري»، كما تقول ديباجة هذا الإصدار المميّز حقاً.
لقد صرّح القائمون على هذا العمل المنهجي بأن معالم مدينة الكويت القديمة -التي تقع داخل حدود سور الكويت الثالث الذي تم إنشاؤه عام 1920م- قد أزيلت ضمن سلسلة من عمليات الهدم وإعادة البناء من أجل تطوير المدينة وتحديثها؛ حيث بدأت عملية الهدم وإعادة البناء منذ تصدير النفط وبداية التثمين في أواخر الأربعينيات، ويبدو أن عمليات الهدم تلك كانت بداية لخسارة فادحة في نظر البعض، ولهذا حرص مركز البحوث والدراسات الكويتية على إصدار كتاب «معالم مدينة الكويت القديمة» من أجل تدارك الأمر وتعويض جزء من تلك الخسارة الفادحة، وقد أشرف على هذا العمل المنهجي التاريخي فريق من الباحثين الخبراء في معالم مدينة الكويت، ونجحوا في استظهار مدينة الكويت القديمة وأبرز معالمها التاريخية من خلال التنقيب في الوثائق الشرعية والسجلات الحكومية القديمة والصور الفوتوغرافية.
خريطة الكتاب:
صدرت الأجزاء الثلاثة للكتاب واحداً تلو الآخر عن مركز البحوث والدراسات الكويتية، وقد اهتم كل جزء بجانب معيّن من معالم مدينة الكويت التاريخية المختلفة؛ حيث ركز الجزء الأول على الكشف عن نواة مدينة الكويت القديمة، فتحدث عن محلة مسجد ابن بحر (الإبراهيم)، ومحلة مسجد العبدالجليل وبراحة السليم، ومحلة مسجد العدساني (فريج العداسنة)، ومحلة الزبن وسكة الربان، ومحلة المناخ، ومحلة مسجد سرحان والعنجري، في حين تناول الجزء الثاني فريج الشيوخ وفريج غنيم وفريج سعود والشارع الجديد، أما الجزء الثالث فيبحث في تاريخ وجغرافية محلة مسجد الفهد، ومحلة سكة عنزة، ومحلة العتيقي، ومحلة مسجد السوق، ومحلة مسجد الحداد، ومحلة وفريج العوازم، ومحلة بودي والمعيلي.
وقد حرص فريق العمل على التعريف بمعالم كل محلة وفريج وتبيان الحدود الجغرافية من مختلف الجهات، وتضمن الكتاب مصطلحات عمرانية عديدة لمدينة الكويت تم وضعها في الصفحات الأولى من كل جزء من الأجزاء الثلاثة، ولعل من أهم تلك المصطلحات العمرانية الكويتية: الأسكِلَة (رصيف الميناء)، وبخَّار (المستودع)، وخفيز (مكاتب التجار)، والدروازة (البوابة الكبيرة)، وعاير (زوايا الطريق)، وفريج (الحي أو الحارة)، ومحلة (الحي المشهور باسم أهله)، ومَسكف (ممر)، واللايحة (الجانب)، والمسيل (مجرى السيل)، والنِّقْعَة (مرسى السفن)، والكُبَر (أكواخ أو بيوت صغيرة مصنوعة من سعف النخيل والخشب).
فريق العمل حرص على التعريف بمعالم كل محلة وفريج وتبيان الحدود الجغرافية من مختلف الجهات
منهجية الكتاب:
ويبدو جلياً أن الفريق الذي أشرف على إنجاز هذا المشروع العلمي المنهجي اعتمد على مجموعة من السجلات الشرعية والسجلات الحكومية القديمة والصور الفوتوغرافية المتعددة، واتّبَع منهجية واضحة في هذا الكتاب التاريخي؛ حيث قام بتحديد البيوت وأسماء ملاكها والمعالم المهمة للمدينة من واقع المصورات الجوية القديمة، ونقَّب في الوثائق العدسانية والوثائق اللاحقة لها والصادرة عن القضاة الشرعيين في الكويت قديماً، كما اعتمد على سجلات التثمين (سجلات التحديد) داخل المدينة التي يحتفظ بها مركز البحوث والدراسات الكويتية وإدارة نزع الملكية، وتتضمن تلك السجلات معلومات عن البيوت التي قامت الدولة باستملاكها ابتداءً من عام 1954م.
ولم يقتصر جهد فريق العمل على الاستفادة من المصادر السابقة فقط، بل استفاد أيضاً من المخططات التنظيمية العامة والمخططات المساحية للبيوت المستملكة المتوافرة لدى بلدية الكويت وإدارة نزع الملكية، وأورد في هذا الكتاب مجموعة من الصور الفوتوغرافية التي أخذت لمعالم مهمة في الكويت في النصف الأول من القرن العشرين؛ حيث التقط معظمها رحالة وزاور أجانب، وتم وضعها في أماكنها المناسبة من هذا المشروع العلمي المنهجي المفيد فعلاً للأجيال الحالية والقادمة.
المعالم والحداثة:
الكتاب خلص إلى أن مدينة الكويت القديمة راحت ضحية للافتتان بالحداثة بعد ظهور النفط
ويمكن القول: إن الخلاصة التي توصل إليها الفريق الذي أنجز هذا العمل الممتاز تتمثل في أن مدينة الكويت القديمة راحت ضحية للافتتان بالحداثة والإثراء بعد ظهور النفط، وذلك نتيجة سوء التقدير الإداري لمصير المدينة رغم الأهمية التاريخية والحضارية، ورغم أن تلك المعالم التاريخية المتعددة كان من الممكن أن تشكل لدولة الكويت «إرثاً حضارياً خالداً ومعلماً سياحياً مهماً يشهد على عراقتها وأصالتها، ويحميها من موجات العولمة وحملات تغيير الهوية التي بدأت تطل برأسها في الوقت الحاضر».
والظاهر أن الافتتان بالحداثة فعل فعله في معالم الكويت القديمة، وكاد أن يقضي عليها جملة وتفصيلاً، فقد ذهب أ.د. عبدالله يوسف الغنيم، رئيس مركز البحوث والدراسات الكويتية -في تصديره للكتاب- إلى أن مدينة الكويت القديمة لم يبقَ منها سوى بعض المعالم والديوانيات القليلة المتناثرة عند واجهتها البحرية، فقد «قضى «التثمين» والتطور العمراني الحديث على صورة المدينة وأحيائها القديمة، والآن وبعد نحو ثلاثة أرباع قرن يتساءل أبناء هذا الجيل عن بيوت آبائهم وأجدادهم وعن النمط العمراني الذي كانوا يعيشون في ظله»، حسب تعبير د. الغنيم.
ومهما يكن من أمر، يبقى من الجائز لنا أن نتساءل: هل راحت معالم الكويت التاريخية ضحية الافتتان بالحداثة والتطور العمراني الحديث فعلاً؟ أم أن هناك عوامل أخرى ساهمت في القضاء على جانب كبير من تلك المعالم التاريخية نحتاج إلى التنقيب عنها في السجل التاريخي لدولة الكويت؟!