حديث السفينة للنبي عليه الصلاة والسلام «مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصاَبَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فيِ أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المْاَءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا خَرْقًا فيِ نَصِيبِنَا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ تًركُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْديِهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا» (رواه البخاري).
يأتي مدخل السفينة على قاعدتين مهمتين، من الممكن أن تفيدا في مسارات البحث، ضمن موضوعات وقضايا يمكن أن تثور في حقول معرفية عدة، على رأسها: الاجتماع والسياسة والتربية.
القاعدة الأولى: أن الحديث النبوي، بما يمثله من «جوامع الكلم»، يمكن أن يشكّل مصدراً مهماً للمعرفة(1) والقدرة على صياغة مؤشراتها ومؤثراتها، في تناول كثير من قضايا العلم الإنساني والاجتماعي، وهو أمر سبق تجريبه من خلال جهد بحثي سابق، ويشكل هذا البحث مواصلة واستمراراً له.
القاعدة الثانية: أن تأسيس رؤى منهجية على قاعدة من فكرة “المثل”، وتفعيلها إنما تشكل واحدة من أهم الأدوات المنهجية المهمة، وهذا التعامل ليس بدعاً أو خروجاً على النشاط المنهجي للجماعة العلمية في حقول معرفية متنوعة في العلوم الإنسانية والاجتماعية.
من خلال هاتين القاعدتين (إحداهما معرفية والأخرى منهجية) ربما نصل إلى قاعدة ثالثة تنصرف إلى عملية تطبيق، تهدف إلى استخراج الصِّيغة من أصول الصِّبغة، والصياغة من رحم الصيغة، والتطبيق الذي يتجلى في إمكانات التوظيف والتفعيل والتشغيل ضمن قضايا بعينها(2).
المثال النبوي
بين وظيفة الرسالة وتوظيف الأمثال، قد لا يكون من المناسب في هذا المقام البحث تفصيلاً في هذا المجال؛ فلهذا شأن آخر ومجال أرحب فيما لو أردنا الحديث عن هذا الموضوع.
إن موضوع الأمثال يكتسب أهمية من حيث ذيوع مادته وانتشارها وامتزاجها الشديد بلغة الناس، وارتباطها بمختلف جوانب حياتهم؛ إذ إن الأمثال تمثل رصيداً حضارياً هائلاً لكل شعب من الشعوب، ويتأكد ذلك بالنسبة لأمثال الحديث النبوي الشريف؛ لحاجة المسلمين إلى معرفتها وإقبالهم عليها، وهي من جملة وظيفة الرسالة في البشارة والنذارة والدعوة والبلاغ والأثر، المتمثل في استنارة حياة الناس في معاشهم، والقضايا المرتبطة به (السراج المنير)، وكل هذه الوظائف هي من جملة متطلبات الشهود الحضاري الواجب الاضطلاع به والوقوف عليه.
ويطول بنا المقام لو تتبعنا توظيف الأمثال، خاصة ما ارتبط بها من أحاديث نبوية؛ فالأمثال في كل أمة خلاصة تجاربها ومحصول خبرتها، وقواعدها المكنونة وصيغتها المقبولة، وإذا كانت سائر أمثال الناس بهذه المثابة؛ فلا غرابة في أن تكون أمثال الرسول صلى الله علية وسلم أكثر أهمية، وأبلغ حكمة، وأنصع بياناً، وأكرم معنى(3).
والمثل بهذا الاعتبار مجمل المعنى ومفعم بالمعاني الكثيفة، وهو على ما قال شوقي -أمير البيان العربي- واصفاً جوامع كَلِم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الكلام الذي قلَّ عدد حروفه وكَثُر عدد معانيه، وجلَّ عن الصنعة، ونُزه عن التكلُّف؛ ومن ثم هو ميراث الحكمة، المقترن بالقبول الجامع بين حسن الإفهام وقلة عدد الكلام، من استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته، وهو -من حيث توظيفه- الأعم نفعاً، والأعدل وزناً، والأحسن موقعاً، والأسهل مخرجاً، والأفصح معنى، والأبين مغزى(4).
والمثل في معانيه اللغوية قد يعين على تصور معنى “الصيغة” فيه؛ أي النموذج، التي اشتهرت عند علماء نظريات المعرفة بمعاني “Paradigm” أي النموذج(5)؛ فالمَثَل في اللغة ما يُضرب من الأمثال، وهو من المماثلة والمشابهة، ومثَّل الشيء بالشيء سواه به، وجعله مثله وعلى مثاله ومنواله: الصيغة، والقاعدة، والمثال وضع الشيء ليُحتذى به.
وللمثل معان أخرى متقاربة نص عليها اللغويون والمفسرون، منها: الشبه، والنظير، والحجة، والآية، والعبرة، والعظة، والقضية ذات الشأن.. إلى غير ذلك من معانٍ(6).
ومن هنا نقل الميداني في “مجمع الأمثال” في مقدمة للنظَّام حيث قال: “يجتمع في المثل أربعة لا تجتمع لغيره من الكلام: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكتابة..”، فالمثل -في إيماءة للجاحظ- هو المثال الذي يحذى عليه، ويقاس به، وينسب إليه، وعلى هذا فالمَثَل مأخوذ من المثال، وهو قول سائر يشبه به حال الثاني بالأول، والأصل فيه التشبيه(7).
وها هو الحكيم الترمذي يتوقف عند معنى “المثال” في الأمثال حيث قال: “الأمثال: نموذجات في الحكمة، لما غاب عن الأسماع والأبصار، لتهتدي النفوس بما أدركت عياناً”(8).
وهذا من ألطف ما قيل في هذا الباب وأجمع، مفصلاً عن حديثه عن “النموذج”، فإنه يحدد وظائف الأمثال اجتماعياً وتربوياً، “فالأمثال عنده بمثابة وسائل الإيضاح، في عصرنا الحاضر، تمكن النفوس مما خامرتها الحيرة فيه، من أمور خفية، وترسخ الأفكار في الأذهان، فالأمثال نماذج حسية لأمور معنوية”(9).
وها هو الفارابي يحرك أصول التوظيف الحياتي للمثل وأثره: “المثل ما ترضاه العامة والخاصة، في لفظه ومعناه، حتى ابتذلوه فيما بينهم، وفاهوا به في السراء والضراء، واستدروا به الممتنع من الدر، ووصلوا به إلى المطالب القصية، وتفرجوا به عن الكرب المكربة، وهو من أبلغ الحكمة، لأن الناس لا يجتمعون على ناقص أو مقصر في الجودة، أو غير بالغ المدى في النفاسة”(10).
ويفيدنا المرزوقي أن المثل “.. جملة من القول، مقتضبة من أصلها، أو مرسلة بذاتها، تتسم بالقبول، وتشتهر بالتداول، فتنتقل عما وردت فيه، إلى كل ما يصح قصده بها، من غير تغيير يلحقها في لفظها، وعما يوجبه الظاهر إلى أشباهه من المعاني؛ فلذلك تضرب، وإن جهلت أسبابها التي خرجت عليها..”(11).
وكأن لسان حال المرزوقي يستنفر الباحثين في تجليات وتطبيقات المثل كأداة مهمة حينما يقرر: “فتنتقل عما وردت فيه، إلى كل ما يصح قصده بها”(12).
وللبلاغيين مدخل في هذا الباب يطول بنا المقام لو تقصينا بعضاً من أقوالهم وتنوع توجهاتهم(13).
غاية القول بنا في هذا المقام أن نشير إلى مجاميع الأمثال كما أشارت إليها العرب:
1- الأقوال الموجزة السائرة، المتصلة بمناسبة من المناسبات.
2- الحِكَم السائرة أو القائمة في العقول، والقصص ذات المغزى الأخلاقي.
3- التشبيهات التمثيلية (التصويرية).
4- عبارات كثُرت مناسباتها، فكثر تِرْدادها، حتى صارت على ألسن الناس.
فمن هذا البيان الذي أردناه إجمالاً في هذا الباب، فإن القصد النبوي بضرب الأمثلة لم يكن إلا تعليماً وتربية بطرائق متنوعة ومتعددة، قاصدة بذلك تحقيق مهمات الرسالة على أكمل وأبين وجه، ضمن رسائل اتصالية فاعلة تحرك الأفهام، وتؤصل للمعنى المفضي إلى المغزى، وتؤسس للوعي والسعي(14).
هذه مقدمة مهمة حول الأمثال عامة وأدوارها التي يمكن أن تقدمها في المعرفة والممارسة على حد سواء؛ نقدم من خلال هذه المقدمة قراءة واسعة من منظورات وزوايا مختلفة قراءة حضارية لحديث السفينة.
_____________________________________________________________________
(1) السُّنة كمصدر للمعرفة والبناء الحضاري: عمر عبيد حسنة، من فقه التغيير.. ملامح من المنهج النبوي بيروت، الـمكـتب الإسلامــي للنشـر، 1995م، برغوث عبدالعزيز بن مبارك، المنهج النبوي والتغيير الحضاري، سلسلة كتاب الأمة (43).
(2) الارتباط بين الصبغة والصيغة والصياغة في معمار المنهجية الإسلامية: د. نادية مصطفي، د. سيف الدين عبدالفتاح (إعداد وإشراف)، دورة المنهاجية الإسلامية في العلوم الاجتماعية: العوم السياسية نموذجاً، مركز الحضارة للدراسات السياسية – المعهد العالمي للفكر الإسلامي، القاهرة، 2000.
(3) محمد جابر فياض العلواني، الأمثال في الحديث النبوي الشريف، مكتبة المؤيد، الطبعة الأولى، 1414.
(4) محمد طه جابر العلواني، المرجع السابق.
(5) محمد جابر الفياض، الأمثال في القرآن، هيرندن – فيرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1993م، ص66.
(6) في المعاني اللغوية للمثل يمكن مراجعة: المرجع السابق، ص 27 وما بعدها.
(7) انظر في تلك الإشارات حول المثل من النظام والجاحظ: الميداني، مجمع الأمثال، تحقيق: محيي الدين عبدالحميد، ط2، القاهرة: مطبعة السعادة، 1959، ص7 وما بعدها.
(8) انظر هذا الرأي لدى الحكيم الترمذي: الترمذي، الأمثال في الكتاب والسُّنة، تحقيق علي محمد البحاوي. (القاهرة دار نهضة مصر الفجالة. (1395-1975)، ص2.
(9) دفعنا هذا التعريف الفائق والرائق إلى الوقوف لتضمينات مهمة لحديث السفينة.
(10) الفارابي، أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم، ديوان الأدب، تحقيق د. أحمد مختار عمر، الجزء الأوّل، مجمع اللّغة العربيّة، القاهرة، (2003) ص 74.
(11) السيوطي، المزهر، تحقيق محمد أحمد جاد المولى ومحمد أبو الفضل إبراهيم وعلي البحاوي (القاهرة، البابي الحلبي د. ت)، ح1/ 486ـ487.
(12) المترتبات على المثل مما يحسن الوقوف عليه وعنده: المرجع السابق.
(13) فاطمة الوهيبي، في المشترك بين الشعر والمثل قراءة في المدونة التراثية والتنظيرية، مجلة التراث العربي، مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب، دمشق العدد 110 السنة الثامنة والعشرون، حزيران 2008م، جمادى الآخرة 1429هـ.
(14) محمد جابر فياض العلواني، الأمثال في الحديث، مرجع سابق، ص30 وما بعدها.