السنّة هي الطريقة الحكيمة المستقيمة، ومن سماتها أنّها ثابتة ومطّردة، قال الله تعالى: {وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} (الإسراء: 77) {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} (الأحزاب: 62) {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} (فاطر: 43). هذا هو شأنها، ما توافرت الشروطُ التي وُضِعت لها من قِبَل واضعها سبحانه وتعالى.
ومن شأنها كذلك العموم، فهي تَعُمُّ كل ما وُضِعت له وَوُظِّفت فيه، قال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} (النساء: 123). كما أنّ من شأنها أنّها قاعدة مجرّدة عادلة، لا تحابي ولا تجامل، وقد قال الله تعالى لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الزمر: 65).
هذه السنن منها سُنن كونية قهرية، ومنها سُنن إنسانية عمرانية؛ فأمّا الأولى فهي النواميس المادية والقوانين الفيزيائية التي يحكم الله بها الكون بما فيه ومَن فيه حكما جبريا لا تَعَلُّق له بكسب المكلفين. وأمّا الثانية فهي التي يحكم الله بها العمران البشري، وهذه لها نوع تعلّق وارتباط بكسب العباد.
هذه السنن بنوعيها وقسميها هي السنن الجارية، أي السنن الماضية التي تعمل من تلقاء نفسها وفق شروط وضَعَها مَن وضَعَ السنن وسَيَّرها وأجراها، وهناك بمحاذاتها سننٌ خارقة، مُبَرِّرُ وجودها أنّ الله تعالى الذي وضع السنن الجارية والنواميس الماضية لا تحتبس إرادته داخل ما وضعه من السنن؛ فمتى شاء خرق النواميس وعطّل القوانين وأوقف السنن الجارية وفرض الخوارق فرضا، لأنّه: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (البروج: 16).
والتغيير سلوك إنسانيّ عمرانيّ، يختلف من حيث المنطلقات والغايات، ومن حيث الوسائل والأدوات، ومن حيث الميادين والمجالات، ومن حيث الخطط والاستراتيجيات، يختلف من مكان لآخر ومن زمان لآخر ومن ظرف لآخر، لكنّه مهما اختلف وتنوع محكوم بقوانين إلهية وسنن ربانية لها من الخصائص ما ذكرنا آنفا، ولعل ما نعنيه بالدرجة الأولى هنا هو التغيير الذي تعانيه الشعوب العربية الآن، لتخرج من حال الضعف والتبعية ومن ظلال الاستبداد إلى حال الاستقلال والتحرر وإلى ظلال السداد والرشاد.
سُنّة جارية
وقد اضطرب أداء المعنيِّين بالتغيير على مستويات عديدة، كان من أهمها مستوى التعامل مع السنن؛ حيث وقع الارتباك في التعاطي معها، فلم نفلح في استثمارها ولم نفلت من وقع صرامتها وحسمها، فنحن -ابتداء- نحسِن الانتظار ونتقن التشوّف لما تطويه الأقدار، ننتظر أخذ الله للظالمين المجرمين، أليست هذه سُنّةً من سنن الله التي لا تتخلف ولا تتبدّل؟ ألم يقل الله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (آل عمران: 137) {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ} (الرعد: 6). أليست هذه سُننا ماضية لا تتبدّل ولا تتحوّل؟
بلى.. هي وربّي سُنّة جارية ماضية لا تتبدّل ولا تتحوّل، لكنّنا -فقط- لا نرى سوى ذلك الجانب السببي منها، وهو أنّ الطغيان سبب للأخذ من الواحد الديّان، وأنّ من طغى وتمادى في طغيانه فهو تحت طائلة الأخذ الشديد بموجب السنّة الجارية الماضية، لكنّ تنفيذ هذا الحكم الذي قضت به هذه السنّة قد يأتي عن طريق سنّة أخرى جارية وهي سُنّة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7).
وقد يأتي عن طريق سُنّة من السنن الخارقة، وهي سُنّة التدخل الإلهي المباشر بتحريك جنود الطبيعة التي فطرها، مثلما أخذ عادا بريح عاتية وثمود بالصيحة وفرعون وجنوده بالغرق: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} (فاطر: 43).
وهنا يقع خلط بين السنّة الجارية والسنّة الخارقة، وهذا الخلط يورث خللًا في الرؤية، كما يحدث خللٌ آخر من جهة قصر النظر على السنّة دون التطرق إلى شروطها، أو التوقف عندها دون الانتقال إلى السنن التي تتعاون معها وتكمل نتائجها؛ فالسنّة الخارقة لا تتحقق ولا تعمل إلا حيث تتعطل جميع الأسباب المادية وتنقطع، وحيث لا يكون هناك مجال لعمل السنّة الجارية، مع توافر النيّة واستقامة القصد واستفراغ الوسع.
فعلى سبيل المثال: عندما التقى الجمعان يوم بدر يوم الفرقان، وقد استفرغ المسلمون وسعهم ولم يقصّروا في الأخذ بما أتيح لهم يومها من أسباب، جاءت السنن الخارقة: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} (الأنفال: 12). ومن الملاحظ أنّ هذه السنّة الخارقة تجاورت في العمل مع السنّة الجارية: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 40)، تجاورت معها وأكملت نتائجها.
تأتي محمولة
وهناك أمر ثبت بالملاحظة والاستقراء، وهو أنّ السنن الخارقة تأتي محمولة على السنن الجارية؛ حيث تكون الجارية مقدّمة للخارقة، وتأتي الخارقة نتيجة وخاتمة؛ فالرسل استحقوا أن ينصرهم الله بالخوارق الإعجازية وبأخذ أعدائهم بالكوارث الكونية؛ لأنّهم استفرغوا وسعهم في البلاغ والبيان والدعوة الدائمة الدائبة، ثم انقطعت الأسباب ونفدت الحيل، وهذا واضح في قصص الأنبياء جميعا: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (الرعد: 110).
ومِن ثَمّ يكون العمل على وفق السنن الجارية شرطا لوقوع السنن الخارقة، وكلما كثرت السنن الجارية بازدهار البشرية ونضجها وتقدّمها وتمدينها كثرت شروط السنن الخارقة؛ ففي عهد الأمة الإسلامية جرت السنّة أنّ الله تعالى يأخذ الأمم المكذبة لها والمعتدية عليها بأيدي المؤمنين، لذلك بعدما ذكر الله تعالى مصارع الغابرين في سورة النجم، وأتى على ذكر قريش، قال: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} (القمر: 45). وبذلك ضاقت مساحة السنن الخارقة، لكنّها مع ذلك تعمل، بدليل ما وقع في بدر، ثم ما وقع في الأحزاب، تعمل في مساحة أضيق وبشروط أشدّ وأوسع.
وقد نصّ القرآن الكريم على مُضيّ السنن الخارقة وعلى أنّها لم تتعطل، فقال الله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} (الأنعام: 65) {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ * أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} (يونس: 50-51) {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (النحل: 45-47). لكنّها -كما أسلفنا- محمولة على السنن الجارية، ومشروطة بتوافق الناس معها وعملهم بها.
فما لم يعمل المسلمون بسُنّة الدفع ويتعاملوا بإيجابية مع سُنّة التدافع -وهما من السنن الجارية- فلا يمكن أن تعمل السنن الخارقة، وسُنّة التدافع منصوص عليها في قول الله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة: 251)، وسُنّة الدفع منصوص عليها في قول الله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 40)، فالناس في الأولى من العام الذي أريد به العموم، والناس في الثانية من العام الذي أريد به الخاص، وخاتمة الآية الأولى شاهدة بأنّه التدافع العام، وخاتمة الآية الثانية شاهدة بأنّه الدفع الخاص، فما لم يقم المسلمون بواجب السنّتين فلن تأتي السنن الخارقة، اللهمّ إلا في نطاق محدود رحمة من الله تعالى.
سُنن معطلة
وهناك سُنن إلهية من السنن الخارقة متوقفة ومعطلة بسبب غياب شروط عملها التي من أهمها العمل على وفق السنن الجارية، من هذه السنن: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} (المائدة: 64). فهذه من الخوارق المعطلة لعدم تحقق شرطها، وشرطها هو: المفاصلة مع الباطل وأهله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (الممتحنة: 4). فما لم تقع هذه المفاصلة التي هي سُنّة طبيعية ماضية في موقف المؤمنين من المعاندين فلن تتحقق السنة الخارقة، وهكذا في جميع السنن التي نؤمل في تحقيقها. والله تعالى أعلم.
—–
* المصدر: موقع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.