الاهتمام بشأن المسلمين، والتعرف إلى واقعهم، والاطلاع على أحوالهم، ومعرفة أوضاعهم، ومتابعة حاضرهم، في كل شؤون الحياة، ومن الجوانب كافة؛ من الواجبات اللازمات المهمات، التي لا يجوز إهمالها، والتقصير في ذلك يُدخل المسلم في قاعدة «من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم»؛ أي أنه بهذه الحالة يكون مقصراً أيما تقصير، ولم يمض على سُنة الهدى في طريقة المسلمين، في الاهتمام بهم، وهذا يتنافى مع الواجب المحتم في قانون «الأخوة الإسلامية» وواجباتها ولوازمها، واستحقاقاتها وسننها؛ حيث المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، وهم كالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، يفرح لفرحه، ويحزن لحزنه، ويكون في عونه، ويقوم على حاجته.
ولا يمكن أن تقوم بهذا كله، على الكمال والتمام –ولو بالأمر النسبي- إلا إذا سبق ذلك توصيف لواقع المسلمين في المكان الذي تريد النشاط فيه، ومن شرطه أن يكون ذلك من خلال دراسات علمية، قائمة على الإحصاء والمعلوماتية، تجعلك على بينة من أمرك، في القرار الذي تتخذه، وبالخطة التي تضعها، وهذا يخرجك من العبثية والارتجال، وكذا العواطف المجردة، والإغراق في الأمنيات والفلسفات، والتفكير الرغبي الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.
الخطاب الإيجابي
ومن بدهيات القضية السببية أنك تخرج بنتائج معينة، وحقائق محددة، ومفردات موصفة، ومن ثم تحول هذه النتائج إلى برامج عمل بعد وضع خطة لذلك، ومن ضمنها أن ترسم معالم خطابك لجمهور المسلمين، عامتهم وخاصتهم، ذكورهم وإناثهم، بصورة مدروسة، وشكل دقيق، وهذا الذي نسميه «الخطاب الإيجابي» الذي يرتب أصحابه الأولويات بشكل صحيح، ويقدر النتائج بصورة محسوبة، ويعلم إلى أي الأهداف يرمي، وعلى أي الطرق يسير، وإلى أي غاية يريد أن يصل، وأهم شيء في هذا الخطاب أن يكون ذا بعد عميق وفعل هادئ في توصيف الواقع بلا إفراط ولا تفريط، ولا ضياع للبوصلة، ولا خلط للأوراق.
المهم أن يوصّف الواقع ليكون له برنامج عمل، وهدفه معالجة الخلل، وسد الثغرة، وليس التوصيف لمجرد التوصيف، والمهم في الأمر أن تكون له نتائج إيجابية في الارتقاء بالواقع الإسلامي، وهذا هو المطلوب.
وعلى سبيل المثال؛ لو أردنا أن نشخص مرض الغفلة والإعراض عن ذكر الله تعالى، مثل ترك الصلاة، أولاً: نقوم بوصف الحالة بصورة واقعية، ومن أساسياته ذكر الواقع بما فيه من سلبيات وإيجابيات، ونرصد كل حقائقه، ونتابع تفاصيل أموره، دقها وجلها؛ فالخطاب الإيجابي لا يعني إهمال ذكر السلبيات مهما عظمت، ولا يصح تغطية المصائب التي نعيشها وإن كبرت، ولا نطمس رؤوسنا في التراب، ونظن أن النجاة في هذا.
وثانياً: نرسم الخطة الحركية للإصلاح، مثل مجموعة من الخطب، وجملة من الزيارات، وبرنامج نصح، ونشرات هادفة، وهكذا، وأهم شيء هنا الخطاب المتوازن المفيد النافع المثمر، الذي يعمل على البناء المنهجي بكل قواعده، ويمنح مفاصل العمل طاقة دافعة، ترتقي به في كل مجالاته، فيكون محركاً لا مقعداً.
وهذا الإمام حسن البنا، رحمه الله تعالى، مثال من أمثلة هذا النموذج الإيجابي، الذي درس واقع مجتمعه بصورة عميقة، وكان واقعاً مراً في كثير من حالاته، وحدد أعراضه، ودقق في أمراضه، ووصف علاجه، ووضع له المشروع الذي رأى باجتهاده أنه سوف ينقذ المجتمع؛ يقلل مفاسده، ويكثر مصالحه، والواقع –رغم مراراته الفظيعة– لم يخرج البنا عن خطابه الإيجابي الخالي من السلبية، والانفعال المؤذي؛ فجمع بين وعي التوصيف وإيجابية الخطاب، كما أنه زاوج بين العاطفة والعقل، فكان ذلك الذي كتبه في جملة ما كتب، خصوصاً رسائله المحددة الواضحة، ذات المعنى العزيز في اللفظ الوجيز؛ فكان الخطاب خالياً من الهدم، بل البناء رائده، وهو اسم على مسمى، حقاً إنها عبقرية البناء.
الخطاب السلبي
مشكلتنا في صنف من الدعاة العاملين للإسلام أنهم ينتجون لنا خطاباً غير مدروس، تتحكم فيه العواطف، وتحركه الحماسة المجردة، وتسيطر عليه عوامل الإحباط بصورة أو أخرى، حتى يتحول إلى ظاهرة صوتية، مزعجة ومؤلمة وذات لغو مفرط، ووقع على النفوس مزعج، مشوش، مقعد، ينتج العقد، ويتحول إلى ظلمة.
ويمكن أن نلخص هذا الخطاب بأنه لا يستند إلى توصيف علمي، ولا إلى رؤية للإصلاح، لذا يكون خالياً من خطة عمل، بل الوصف العام للخطاب أنه خطاب محبط، يائس، سلبي، يزرع في النفوس لغة الإقعاد، ويبعث على العجز من صناعة أي شيء مفيد، ومن أهم سمات هذا الخطاب الصياح والعويل، اللطم والنوح، البكائيات المحزنات، لا تسمع إلا كلمات: «الأمة هلكت»، «الأمة ضاعت»، «الناس في ويل وثبور»، «الأمة غسلت وكفنت وأدرجت الكفن، وتنتظر أن تدفن».. وما إلى ذلك من مفردات وعبارات وجمل، تصب كلها في خانة «الهلكة».
وهذا خطاب ناتج عن ضياع، وهو من أسباب التراجع الحركي، عند هذا الصنف من الدعاة.
ففي صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم»، قال الإمام النووي، في شرحه على صحيح مسلم: «قوله صلى الله عليه وسلم: إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم، روي «أهلكهم» وعلى وجهين مشهورين؛ رفع الكاف وفتحها، والرفع أشهر، ويؤيده أنه جاء في رواية رويناها في حلية الأولياء في ترجمة سفيان الثوري فهو من أهلكهم، قال الحميدي في الجمع بين الصحيحين: الرفع أشهر، ومعناها أشدهم هلاكاً، وأما رواية الفتح فمعناها هو جعلهم هالكين، لا أنهم هلكوا في الحقيقة.
واتفق العلماء على أن هذا الذم إنما هو فيمن قاله على سبيل الإزراء على الناس، واحتقارهم، وتفضيل نفسه عليهم، وتقبيح أحوالهم؛ لأنه لا يعلم سر الله في خلقه، قالوا: فأما من قال ذلك تحزناً لما يرى في نفسه وفي الناس من النقص في أمر الدين فلا بأس عليه، كما قال: لا أعرف من أمة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنهم يصلون جميعاً، هكذا فسره الإمام مالك، وتابعه الناس عليه.
الخلاصة: المطلوب من الدعاة، أن يكون لهم خطاب إيجابي، ناتج عن توصيف الواقع، بكل شعبه، ينتج العمل مع الأمل، ويدفع نحو البناء، ويتجاوز الهدم، فالصياح كل واحد يجيده، أما الصوت القائم على الفعل الذي يصنع الحياة، فيحتاج إلى نوع استثنائي من الدعاة، هم قرة العين حقاً وصواباً.