في زحمة الانخراط “الإسرائيلي” بما تشهده شرقي أوروبا من حرب طاحنة بين روسيا وأوكرانيا، صدر موقف لافت لوزير الاتصالات “الإسرائيلي” يوعاز هاندل، بقوله” “إن “إسرائيل” لن تتنازل عن أو تتخلى عن غور الأردن، لأنه موقف نابع من الدروس المستفادة من الحرب الدائرة، وعلينا أن نتعلم كيف يجب أن تظل “إسرائيل” قوة إقليمية، تعرف كيف تدافع عن نفسها”.
يبدو غريباً هذا الربط “الإسرائيلي” بين حرب تجري على بعد آلاف الكيلومترات منها، وبين مستقبل غور الأردن، مما يسلط الضوء على أهميته، ومسوغات المطالب “الإسرائيلية” بإبقائه تحت سيطرتها.
يدور الحديث عن سهل خصيب تبلغ مساحته 400 كم2، ويتراوح مستواه بين 200-400 متر تحت سطح البحر، وهو أكثر جهات العالم انخفاضاً، ويقع على امتداد نهر الأردن بين فلسطين والأردن، ويوجد فيه البحر الميت.
يعتبر الغور القطاع الشرقي للضفة الغربية الممتد على طول 120 كم، من منطقة “عين جدي” قرب البحر الميت جنوباً حتى الخط الأخضر جنوبي بيسان شمالاً، وعرضه 15 كم، ويعيش اليوم فيه أكثر من 47 ألف فلسطيني، في 20 بلدة ثابتة، بما في ذلك أريحا، أي نحو 2% من التعداد الكلي لفلسطينيي الضفة الغربية، ومجال التطوير فيه مع وجود مصادر مياهه وأراضيه الزراعية، يجعله ضرورياً لقابلية الحياة لأي دولة فلسطينية مستقبلية.
يكتسب الغور أهمية إستراتيجية: فحدوده مع الأردن تشكل نقاط تواصل هامة للتجارة والسفر مع بقية دول المنطقة، واستمرار السيطرة “الإسرائيلية” على قطاعات منه ستعني أن الضفة ستبقى مطوقة من قبل “إسرائيل”.
منذ احتلال الضفة الغربية في حرب 1967م، اعتبرت جميع الحكومات “الإسرائيلية” أن الغور هو “الحدود الشرقية” لـ “إسرائيل”، وطمحت في ضمه لمساحتها، وبهدف تعزيز سيطرتها عليه، أقامت فيه منذ مطلع سنوات السبعينيات، 26 مستوطنة، يعيش فيها اليوم 7500 مستوطناً.
على مدار السنين، تم الإعلان عن الغالبية العظمى من أراضي الغور، على أنها أراض تابعة للدولة، وضمها لمناطق النفوذ التابعة للمجالس الاستيطانية الإقليمية، وفي إطار اتفاق أوسلو، تم تعريفها على أنها مناطق C، يسيطر عليها الاحتلال بصورة تامة، وغالبا ما دأبت أوساط حكومية “إسرائيلية” التصريح بأن الغور سيبقى تحت سيطرتها في أي تسوية مستقبلية.
منذ عام 2005م، تفرض “إسرائيل” في غور الأردن سياسة من التقييد على حركة وتنقل الفلسطينيين، وأقامت أربعة حواجز ثابتة، شدد الجيش بصورة ملحوظة من التقييدات المفروضة عليها، وأتاح المرور فقط لسكان غور الأردن على أساس بطاقة الهوية، بشرط أن يكون العنوان المسجل في بطاقة الهوية هو إحدى قرى الغور، أما سكان الضفة الغربية، فيُطلب منهم إبراز تصريح خاص يصدره الجيش، وبدونه، فإن الجيش يتيح المرور فقط في “الحالات الإنسانية”.
يتضح من السلوك الميداني للاحتلال أنه لا يرى في غور الأردن وحدة جغرافية واحدة، مع باقي مناطق الضفة الغربية، وبالتالي، فإن الفلسطينيين الذين يسكنون خارجه، ويمتلكون أراض زراعية في مجالها، تم فصلهم عن أراضيهم، وفقدوا مصادر رزقهم.
تؤكد السياسة “الإسرائيلية” في الغور، أن الدافع من ورائها ليس أمنياً بحتاً، بل سياسي بامتياز، ويتمثل في “ضم هذه المنطقة من الناحية الفعلية لـ “إسرائيل”، وطالما أن الاحتلال يعتبر الغور جزءً من خططه الأمنية، فقد اتبع جملة سياسات للحد من الوجود الفلسطيني، وزيادة الوجود اليهودي، وتحكمه بالمصادر الطبيعية، ومنها:
1- إعلان المناطق المحاذية لنهر الأردن بعرض 3-5 كم، وتقدر بأكثر من ثلث مساحتها 400 ألف دونم، عسكرية مغلقة، يمنع الفلسطينيون من الوصول إليها لاستغلالها في الزراعة أو السكن أو أي نشاط اقتصادي، وإقامة نحو 90 موقعاً عسكرياً.
2- تدمير ومصادرة أكثر من 140 مضخة مياه تعمل في الأغوار يملكها فلسطينيون، وتسحب الماء من نهر الأردن لري مزروعاتهم في الأغوار الغربية، وحفر الآبار لصالح المستوطنات، لاسيما غرب الآبار الفلسطينية، للوصول للمياه العذبة، واصطياد المياه الجوفية المتدفقة من الغرب إلى الشرق.
3- إقامة سبعة حواجز عسكرية ثابتة، أربعة منها حول أريحا، وتشديد الجيش بصورة ملحوظة من التقييدات المفروضة على مرور الفلسطينيين منها.
وتحت شعار الأهمية الأمنية للغور، تبنى الاحتلال مقولة “يغآل ألون” إنه “لكي يتحقق الدمج بين سلامة “إسرائيل” من ناحية جيو-إستراتيجية مع إبقائها يهودية من ناحية ديمغرافية، يتطلب فرض نهر الأردن حدوداً شرقية لها”، وهكذا صاغ خطته للحل الإقليمي عقب حرب 1967م، متضمنة غور الأردن على النحو التالي:
1- خلق وجود “إسرائيلي” مدني، إضافة للوجود العسكري، بواسطة نقاط استيطانية.
2- الوجود المدني والعسكري يشكل تصحيحاً للحدود، ولا تعتبر المستوطنات مشكلة أمام الحل السياسي.
3- يشكل الغور تواصلاً جغرافياً بين “بيسان وصحراء النقب”.
4- تشكل المنطقة حزاماً واقياً للقدس من هجمات عسكرية من الناحية الشرقية.
تراوحت الخطط السياسية “الإسرائيلية” بين ضم الغور، وفرض سيطرة أمنية عليه من قبل الجيش، كونه يشكل منطقة أمنية لحمايتها من أي خطر من الشرق، والأردن سيكون حدودها الأمنية.
وفيما أكد رئيس الحكومة الأسبق “اسحق رابين” أن “مساعي “إسرائيل” تركز على منع قيام كيان فلسطيني على شاطئ البحر الميت، ومنعه من التماس الجغرافي مع أي رقعة أرض عربية”، فقد صرح “شاؤول موفاز” وزير الحرب الأسبق، أن “الحدود المستقبلية لـ “إسرائيل” ستشمل الكتل الاستيطانية وغور الأردن”.
اليوم، تؤكد الأوساط السياسية “الإسرائيلية” أن الغور سيظل بيدها، محيطاً بأي دولة فلسطينية من جهة الشرق، ومسيطراً على الحدود الدولية مع الأردن، وهي خطوات لا بد منها، للتأكد من عدم تسلل مجموعات مسلحة.
وقد عبرت الخطة الأمنية “الإسرائيلية” لعام 2006م عن آخر التصورات الرسمية للغور ضمن سيناريو أشمل يبحث مصير الضفة الغربية، أو التواجد “الإسرائيلي” فيها، عبر إعادة انتشار على “خط دفاعي” جديد في أعماق الضفة بضم الغور، ونقاط رئيسية على منحدراته الغربية.
ترى الخطة أهمية قصوى في السيطرة على نقاط إستراتيجية على المرتفعات الجبلية، وعلى حزام في غور الأردن يمتد من شمال البحر الميت وحتى شمال الغور، بحيث يكون واسعاً بما يكفي لتوفير “الدفاع الفعال”، وضيقاً بما يكفي لعدم تمكين السلطة الفلسطينية من الامتداد مستقبلاً نحو الشرق.
يمكن تلخيص الاعتبارات الإستراتيجية التي يتحدث عنها “الإسرائيليون” بالنقاط التالية:
1- اعتبار غور الأردن حاجزاً أمنياً أمام “الجبهة الشرقية” بحيث يحاط عمق الضفة الغربية من خلال حاجزين: شرقي يضم غور الأردن، وغربي هو الجدار الفاصل الحالي.
2- تطمح “إسرائيل” في إعادة بناء منطقة الغور، عبر إنشاء مشاريع صناعية وزراعية مرتبطة بالاقتصاد “الإسرائيلي”، إضافة للمشاريع السياحية في المنطقة.
3- السيطرة على الأحواض المائية الجوفية في الضفة الغربية، خاصة الأحواض الشرقية منها، نظراً لأهميتها في تنمية المنطقة.
4- الفصل الجغرافي بين فلسطينيي الضفة الغربية وفلسطينيي الأردن الذين يمثلون “عمقاً ديموغرافياً” لأي كيان فلسطيني قادم.
وهكذا تتلخص الرؤية “الإسرائيلية” تجاه غور الأردن بـ”الحفاظ على شريط طويل عريض على امتداده من أقصى الشمال عند بلدة الشونة، وصولاً إلى شرق مدينة إيلات، مع السيطرة الكاملة على الشاطئ الغربي للبحر الميت، ووضع اليد على ثرواته المحلية”.