يستذكر المسلمون كل عام واقعة عاشوراء المشؤومة التي حدثت عام 61هـ؛ تلك الواقعة التي كانت بداية تشكل الشيعة كطائفة سياسية، ومن ثم كطائفة ذات معتقدات دينية خاصة، حيث توالت الفرق الشيعية بعد ذلك؛ لكل منها عقائد خاصة، وليس يجمعها سوى مشايعة علي بأنه إمام المسلمين نصاً ووصية.
لقد أمضيت سنوات في تمحيص التاريخ الأموي؛ رواية وسنداً، ليتبين لي –وفقاً لعلم الجرح والتعديل- حجم المرويات الموضوعة على بني أمية وكثرة الدس عليهم؛ ذلك أن العلاقات بين الأمويين والطالبيين في العهد الأموي -وبالاستناد إلى الوقائع التاريخية الصحيحة والمصاهرات الأسرية- كانت تارة ممتازة، وتارة فاترة، وتارة يحصل الشقاق، ولأن التاريخ كُتب بيد العباسيين -أعداء الأمويين- ولأن الذين نسبوا أنفسهم إلى أهل البيت استغلالاً لعاطفة المسلمين؛ لم يتورعوا عن نسبة المرويات المكذوبة على أعدائهم؛ فقد شاع التركيز على وجه واحد للعلاقة مع الطالبيين؛ وجه الشقاق.
لقد أثّرت الصراعات السياسية التي جرت زمن الأمويين على مسار التاريخ الإسلامي بشدة، ولا سيما بعد واقعة كربلاء، وما يزال أثرها ممتداً إلى يومنا هذا، علماً أن هذه الحقبة الغنية بالمرويات الصحيحة وغير الصحيحة بحاجة ماسة إلى التدقيق، الذي من شأنه التخفيف كثيراً من المرتكزات التاريخية للصراعات الدينية التي تجري بين المسلمين اليوم.
وبالقطع؛ فإن الخلافات بين المسلمين في بدايات العهد الأموي لم تكن دينية؛ لا عقدية ولا حتى فقهية، وإنما كانت خلافات سياسية، ما لبثت أن تطورت مع الزمن، نتيجة لعوامل كثيرة، فأصبحت خلافات دينية؛ وفي صلب العقيدة الإسلامية، بما يعني استخدام الدين لنصرة التوجه الحزبي والهوى السياسي، وقد أدى هذا التطور الخطير إلى مد الصراع زمنياً إلى الماضي، وقراءة وقائع التاريخ على أساس الاعتقادات الجديدة (زعْم الإمامة نصاً لعلي بن أبي طالب مثلاً)، واستصحاب هذه الوقائع والقراءات التاريخية إلى المستقبل، لتتحكم بالعلاقات بين المسلمين.
إن قراءة السياقات التاريخية، والحكم على مآلات الأمور تفضي إلى أن سعي معاوية بن أبي سفيان في تولية ابنه يزيد الخلافة لم يجُرّ على الأمة إلا الوهن، وفضلاً عن تحول الخلافة إلى توريث، فإن خلافة يزيد كانت سوءاً؛ جرّع الأمة سموماً لا تزال تعيش تداعياتها إلى اليوم، كما أن خروج الحسين بن علي قبل أن تنضج الظروف، وتالياً استشهاده؛ فاقم الأمر إلى حده الأقصى.
إن الحكم على الأمور بمآلاتها فيما خص الحسين لا يعني خطأ المنطلقات، فالحسين -وبغض النظر عن الخداع الذي تعرض له من أهل الكوفة، وصلف عبيد الله بن زياد، وتقدير ظروف الخروج- إلا أنه كان مجتهداً ساعياً من أجل إصلاح أمر الخلافة، ورفض الظلم، لكن خروجه لم يكن ثورة للمطالبة بحق إلهي ورثه عن والده بعد شقيقه، كما شاع لاحقاً لغايات سياسية، ذلك أن نظرية الإمامة نفسها واجهت مجموعة من الأسئلة التي لم تلق إجابة مقنعة عنها إلى اليوم؛ إذ لا يمكن أن تكون الإمامة معقودة لعلي نصاً من الله تعالى ثم يتساهل في أمرها ثلاث مرات قبل أن تؤول إليه، كما لا يمكن لابنه الحسن أن يتنازل عنها أيضاً لمعاوية.
لم يقتصر الأمر على ذلك؛ فانتقال الإمامة من فرد إلى آخر واجه تاريخياً مآزق صعبة، فتارة تنتقل إلى الشقيق، وتارة كان يعتمد متبنو النظرية على “البداء” –أي أن الله بدا له أمر آخر- فتُنقل الإمامة من فلان إلى فلان، وتارة يغيب العقب فتظهر نظرية “الغيبة والظهور”، وهذا يعني أن الإمامة لم تستقر في خط معين، وإنما تشعبت في خطوط مختلفة، متأثرة بتطور الأحداث التي مرت بها، وقد حدث الافتراق بين الفرق الشيعية مرات عدة، ولا سيما بين محمد بن علي بن الحسين باقر العلم، وزيد بن علي بن الحسين، ومن قالوا بإمامة جعفر الصادق بعد الباقر، فقد اتفقوا على إمامة إسماعيل بن جعفر، في حال موت أبيه، لكن بعد وفاة إسماعيل في حياة والده، حدث الانقسام ونشأت الفرقة الإسماعيلية، واجترح آخرون حلاً على أساس أن الله بدا له بشأن إسماعيل فنقل الإمامة إلى الابن الثالث أو الرابع لجعفر وهو موسى بن جعفر، ومن استقر على الخط العلوي الحسيني الموسوي، فقد واجه مأزقاً بنقل الإمامة من الحسن العسكري عندما لم يكن له ولد ظاهر يرثه في الإمامة، فاعتُمدت نظرية الغيبة، وأصحاب هذا الخط (الشيعة الاثنا عشرية) حاولوا ربط عقيدتهم بمستند حديثي: “يكون اثنا عشر أميراً كلهم من قريش”، وهو صحيح عند السُّنة، ولكن لا دليل فيه على الإمامة بالمفهوم الشيعي؛ لأن نص الحديث لا يدل على حصر عدد الأئمة من قريش بهذا العدد، ذلك أن الواقع والتاريخ مغاير لذلك.
لقد ابتُلي الشيعة (شيعة علي)، كجماعة سياسية، بكثرة المتسلقين على ظهورهم، ووفرة من يبث في صراعهم مع الأمويين بذور الفتن والأفكار الهدامة، بدأ الأمر في زمن الفتنة أيام عثمان بن عفان، مع دعوة عبدالله بن سبأ، واستمر مع الحسن، والحسين، وأولاد الحسين، وصولاً إلى زعم أشخاص صلتهم ودعوتهم لإمام معين دون أن يكون له علم أو موافقة على ما يُطرح باسمه، لذلك كثر في التاريخ التبرؤ من فلان أو من قول محدد أو دعوة ما.
ونظراً للمظلومية التاريخية التي تعرض لها الشيعة- وهي حقيقة وإن كانت مضخمة- فقد ظهرت نظرية التقية؛ من أجل ضمان السلامة، لكن ما لبثت التقية أن تحولت إلى كارثة كبرى في التاريخ الإسلامي، وجرّت أمتنا إلى محن كثيرة، ليس لأنها تنافي ما ينبغي أن يسود الأمة من ثقة بين أبنائها، وإنما لأنها استعملت غطاءً للكذب، فعندما كان أئمة أهل البيت ينفون كل مقولات الغلاة، وينكرون نسبة أي طبيعة غير بشرية لهم، كان الغلاة يتسترون بشعار التقية، ويقلبون أقوال الأئمة رأساً على عقب، ويدعون أنهم يسرون لهم بما لا يستطيعون البوح به أمام الناس.
لقد أسهمت واقعة كربلاء في إنهاء الخلافة الأموية بدرجة أساس، ذلك أن معظم الذين خرجوا على الأمويين استصحبوا قتل الحسين وآل بيته، ليحركوا مشاعر المسلمين ضد الأمويين.. توالت الثورات منذ العام 61هـ دون أن ينجح أي منها في إسقاط الأمويين كأسرة حاكمة، إلى أن نجح أولاد العباس بن عبدالمطلب (عم النبي صلى الله عليه وسلم)، بعد سبعين سنة في إنهاء حكم بني أمية (132هـ)، وهؤلاء –العباسيون- ارتقوا على أكتاف العلويين (أولاد علي وشيعته) أثناء دعوتهم السرية وقبيل إعلان دولتهم، لكنهم تنكروا لهم واضطهدوهم بعد ذلك (معظم أئمة الشيعة الاثني عشرية قُتلوا في زمن العباسيين)، كما أنهم لم ينشئوا دولة شيعية؛ لا بالمعنى السياسي، ولا بالمعنى الديني الذي ساد فيما بعد.
قراءة كربلاء؛ رحلة عميقة في التاريخ والسياسة، واستحضارها في العاشر من محرم لا ينبغي أن يتم من خلال ممارسة طقوس لا تليق بالإسلام ولا بالحسين الشهيد، والأهم ألا تتحول من مناسبة؛ يفترض أنها تذكّر بموقف الحسين في إبائه وانتصاره للحق، لا إلى سبب للفتنة، واستغلال المشاعر لأهداف تخرج عن دروس الذكرى.