تأثرت الحياة الأدبية والثقافية في مصر والبلاد العربية على مدى العقود الماضية بعوامل وتغيرات مختلفة، أدى معظمها إلى إلى خفوت تأثير الكلمة المكتوبة لصالح الكلمة المصوّرة..
مع النصف الثاني من القرن العشرين انتشر البث التلفزيوني في أرجاء العالم، وظهرت القنوات الفضائية عابرة القارات، وتطورت صناعة السينما إلى تقنيات حديثة، ثم تطور أجهزة الحاسوب أو الشبكة الضوئية ، أو ما يطلق عليه اختصار (النت)، وراح الناس يستخدمون تطبيقات ما يسمى وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة في العقود الثلاثة الأخيرة، وكانت المركزية الغربية في العقود السبعة الماضية، قد أمطرت البلاد الهامشية بنظريات أدبية ونقدية وفلسفية جديدة، كثير منها ليس مناسبا للأدب المحلي واللغة القومية، فضلا عن نقلها على هيئة شديدة التعقيد في لغة تشبه الألغاز والفوازير، وفي الوقت ذاته كانت عجلة الانحدار أو الانهيار تمضي سريعة في مجالات التعليم والقيم والتماسك القومي والوطني في أوطاننا العربية والإسلامية، (يكفي أن تنظر إلى مؤشر الغش في الامتحانات والاختبارات التي تجريها المدارس والجامعات، وتربط ذلك بهبوط مستوى الخريجين بشكل ملحوظ)، وشكل ذلك تراجعا حادا في الاهتمام بالكلمة المكتوبة من حيث أدبيتها وجودتها، وصار المجال خاليا لما يمكن أن نسميه “أدب الصورة”، حيث بات التلفزيون ينقل الأفلام السينمائية والدراما في غرفة النوم، ويشاهدها المتلقي وهو مسترخ في سريره دون أن يبذل جهدا، أو يعنّي نفسه في محاولة فهم رواية مكتوبة أو قصيدة منسوخة، أو مسرحية في كتاب. إنه يرى الفيلم أو التمثيلية أو المسلسل، دون عناء، ومع كثرة القنوات وتطبيقات الشبكة الضوئية على الحاسوب أو الهاتف المحمول، فإنه يستطيع أن يستعيد المادة المصورة مرارا وتكرارا. ويشاهد ما يريده ويشد اهتمامه.
المادة المصورة، سينما أو تمثلية أو دراما، مطلوبة شعبيا، ومحببة إلى نفوس العامة، وربما الخاصة أيضا، ولهذا فرضت وجودها في السياق الأدبي شئنا أم أبينا، فهي أداة لنقل الأفكار والرؤى والتصورات والسلوكيات، بل والمعتقدات، ومن ثم تبذل دول مختلفة اهتماما غير عادي، ومالا وفيرا، وعناصر تنفيذ بغير حساب، لتبعث برسائل متنوعة تخص الدولة والسلطة إلى من يعنيهم الأمر في الداخل والخارج، وأضحت المادة المصورة مصدرا من من مصادر تفسير اتجاهات الدول وطموحاتها فضلا عن منهجها وأسلوبها في التعامل مع مواطنيها والدول الأخرى.
دعا الدكتور عبد القادر القط- رحمه الله- إلى الاهتمام بأدب الصورة، وكتب دراسة مهمة تدعو إلى نقد هذا الأدب، وقدم أمثلة متنوعة، وتناولها بميزان النقد الأدبي والفني، ليخبرنا في النهاية أن أدب الصورة يستحق الاحتشاد والتناول وتطبيق المقاييس النقدية عليه لتقويمه، وتسديدخطاه في الاتجاه الصحيح، وهو ما جعلني أتناول بعض ألوان الدراما المصورة، وأقدمها للقراء والمشتغلين بالأدب والدراما، لعلها تجد صدى لديهم في إنتاج دراما مصورة تخدم الأمة وتثري تجاربها.
أظن- وبعض الظن ليس إثما- أن الكلمة المكتوبة لن تفقد سحرها ومستقبلها مهما كان طغيان أدب الصورة سهلا وقريبا ومحبوبا، فللكلمة المطبوعة تأثير قوي ونفاذ، على الأقل بحكم الوظيفة التعليمية لدى الطلاب في التعليم العام والتعليم الجامعي، والباحثين في الدراساتالعليا والتأليف والبحث الأدبي، فهناك أعداد كبيرة من المتلقين،، يتعاملون مع الكلمة المكتوبة ومعطياتها المتنوعة في القصيدة والقصة والرواية والمقالة والبحث الأدبي والنقدي، والمسرحية….
ودراسة وبحث، لأنها مطمورة بين أغلفة الكتب، مع آفة النسيان، والاستسلام للإلحاح الإعلامي الذي يركز عادة على من يقتربون منه بطريقة وأخرى، ولو كان إنتاجهم متواضعا أو رديئا، أو لا تكتمل أدواته، وهذا يمثل نكسة في عرض الأدب الجيد، وترويجه بين جمهرة القراء.. ويفسح المجال أمام كتابات لا تستحق جهد التناول أو الدرس.. للأسف هذا ما يحدث في واقعنا الأدبي الراهن بكثرة، ويتجاوز إلى حد فرض هذا الإنتاج الضعيف في مجال الدراسات العليا بالجامعات!
أحاول بطريقة ما أن أبحث وأنقب في بعض العناوين التي لا يقاربها كثير من الباحثين والنقاد، تمردا على إلحاح الآلة الإعلامية..
هناك مثلا مانظمه الشعراء غير المسلمين في صفات الرسول محمد- صلى الله عليه وسلم- وقد تناولته من قبل في دراستي الضحمة (محمد- صلي الله عليه وسلم- في الشعر الحديث)، ومع أن بعضهم أغار على ماكتبت بلا خجل، ولم يشر إلى ماكتبت، فقد رأيت أن هناك عناصر جديدة في الموضوع، تحتاج إلى مزيد من البحث والتعميق، ساعدني على ذلك وجود النصوص النادرة التي زوّدني بها الأستاذ “وديع فلسطين”، نقلا عن صحف عربية محلية كانت تصدر في الأميركتين، أو مهاجر هؤلاء الشعراء!
وتبدو قضية القدس التي تناولها كثير من الشعراء والكتاب في أشعارهم ورواياتهم وقصصهم مجالا خصبا للبحث والدراسة، ولكن معظم من تداخلوا مع الموضوع توقفوا عند الرؤية الوطنية والقومية والمذهبية، ولم يتناولوه برؤية الإسلام الحقيقية الشاملة خوف اتهامهم بالتعصب، ولكن القضية في المبتدأ والخبر هي قضية إسلامية تشد إليها أصحاب الضميرالإنساني الحي من المسلمين وغيرهم على امتداد المعمورة!
إن من يتناول فضية القدس بمفهوم ديني متعصب هم اليهود الغزاة الذين اغتصبوا فلسطين، ومازالوا يواجهون العرب بسلاح وخطاب ترفرف عليهما رايات التواراة والتلمود والبروتوكولات!
هناك نوع من الكتابات الأدبية لا يقترب منه الباحثون كثيرا، وهو ما يكتبه الدعاة الإسلاميون، ففيهم من يكتب بلغة راقية، ويعالج موضوعات إنسانية ورقائق وجدانية بلغة تقترب من الشعر، ولكن التصوير الدرامي والإعلامي الزائف لهؤلاء الدعاة جعلهم في صورة خشنة عنيفة، والنظرة الموضوعية الجادة تكشف لنا كنوزا جميلة في هذا السياق. خذ مثلا ما ما كتبه الشيخ الغزالي في كتابه “جدد حياتك”. إنه يعرض لقضايا إنسانية يتعرض لها بعض الناس، نفسيا واجتماعيا وفكريا، فيتناولها برؤية إسلامية قريبة من النفس والقلب، تحل المعضلات، وتفكك المشكلات، وتطرح العلاج الإسلامي من خلال رؤية مبسطة..
ولا ريب أن أمتنا تحفل بالعديد من أصحاب الرؤى الإسلامية الواعية والراقية، سواء كانوا شعراء أو ساردين أو غيرهم، وللأسف يتجاهلهم الإعلام الهش، ووسائط الدعاية السطحية، فلايجدون من يحفل بهم أو يدرسهم، خذ مثلا الشاعر المغربي الكبير حسن الأمراني صاحب الرؤية الصافية النقية والتجربة الفنية الناضجة.. لقد أصدر عددا كبيرا من المجموعات الشعرية، والكتب البحثية المهمة، وهو في مجال الشعر يقدم تجارب فريدة غنية بالرؤى والأداء كما فعل في رحلته اليابانية.
إن دراسة هذا الشاعر تعيد للكلمة المكتوبة نكهتها الجميلة الطيبة، في عصر الهبوط الأدبي الاضطراري، وتمنح الأمل في صعود جديد لأدب الكلمة إذا توفرت الظروف والعناصر المناسبة للنهضة الثقافية في عصر سيادة الصورة.