تعد حالة الفتور والصمت والتقوقع الذاتي بين أفراد الأسرة مقدمة بالغة الخطورة للتفكك الأسري أو حتى الانهيار الكامل له؛ لأن الأسرة هنا تفقد أهم وظائفها ألا وهي السكن الذي لن يتحقق إلا بوجود حوار صحي وآمن في بوتقة من الحميمية والقرب والتفهم، وهذا لن يحدث إلا بصناعة مساحة من المشترك بين أفراد الأسرة.
تفاصيل الحياة المكررة الصغيرة تصنع هذه المساحة، لكنها في كثير من الأحيان تختلط بضغوط المسؤوليات والالتزامات فتتحول لعبء إضافي يهرب منه الجميع لهذه القوقعة الذاتية مع الأجهزة الذكية الحديثة وجماعات الرفاق الذين يمتلكون الكثير من نقاط الاهتمام المشترك.
الترفيه من أهم الأدوات التي يمكن بها استعادة أجواء الارتباط وتعيد للحوار حيويته
يأتي الترفيه كأداة من أهم الأدوات التي يمكن بها استعادة أجواء الارتباط داخل الأسرة وصناعة أجواء مرحة تصنع مشاعر السعادة والقرب وتعيد للحوار حيويته وتدفقه، وفي هذا السياق يكون من الخطأ النظر للترفيه كوقت مهدر بلا قيمة؛ لأنه يقوم ببساطة بترميم الشروخ والفجوات التي توجدها رتابة الحياة وتخلفها الضغوط واختلاف وجهات النظر التي إن تركت دون إصلاح قد تتمدد ويتسع الخرق على الراقع كما يقال.
يأتي كأس العالم كفرصة ذهبية للترفيه الأسري غير التقليدي، ومن ثم إثراء الحوار والترابط بين جميع أفراد الأسرة إذا تم التخطيط لاستثماره بذكاء، فكثير من الأسر سوف تشاهد المباريات عبر الشاشات داخل المنزل، وهو سلاح ذو حدين، فلربما يشتعل الصراع بين محبي الرياضة ومحبي البرامج المعتادة والأعمال الدرامية، فكثير من الزوجات بالفعل يتذمرن طيلة فترات البث بسبب الحرمان من مشاهدة ما يرغبن، ومن الضجيج الذي تثيره المشاهدة، والمفارقة أنهن يتذمرن في الوقت ذاته من الخرس الزوجي مع أن زوجها يتحدث بطلاقة مع أصدقائه، دون أن تفكر في استثمار الحدث الرياضي في صناعة حوار مختلف.
كأس العالم فرصة ذهبية للترفيه غير التقليدي وتوجيه تربوي في قالب مرح
الحد الثاني لمشاهدة البطولة عبر الشاشات في المنزل أنه فرصة للاجتماع معاً والتحدث في قضايا لا علاقة لها بمشكلات الواقع اليومية، ولكي نستطيع استغلال هذه الفرصة لتحقيق هذا الهدف لا بد أن تتغير زاوية التفكير التي ينظر بها للحدث، فنستحضر لعب الحبشة في المسجد، واهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بمشاهدة السيدة عائشة للحدث، وتلك المسابقات التي كان يجريها بينه وبينها، ونحو ذلك، فالحياة ساعة وساعة، وساعة اللهو تعين على ساعة الجد.
قد لا تحب الزوجة الرياضة وأجواء البطولة، لكنها يقيناً تحب الدفء الذي قد يسري في منزلها إذا بذلت جهداً في الإعداد للتجمع العائلي، وجهداً آخر صغيراً في محاولة فهم ومتابعة ما يجري.
قد لا تكون المشاركة في المشاهدة فحسب، فمن الممكن أن يتجمع أفراد الأسرة في تحويل غرفة المعيشة (التي سيتجمعون فيها لمشاهدة البطولة) لمكان يشبه أجواء المونديال، وذلك بإمكانات غاية في البساطة؛ كوضع النجيل الصناعي الأخضر كفرش لأرضية الغرفة، ووضع عدد من المقاعد البيضاء المتشابهة للمشاهدة، ولو عدد الأسرة كبير فمن الممكن وضع صفين من الكراسي بحيث تكون المقاعد الخلفية أكثر ارتفاعاً وتمنح شعور المدرجات في الملعب، بالإضافة لوضع بعض كرات مختلفة الألوان والأحجام، صورة على الحائط لملعب، شبكة تشبه المرمى خلف شاشة التلفاز، ونحو ذلك من أفكار صغيرة لكنها قد تضيف مساحة من البهجة والإثارة، يمكن أيضاً تقديم وجبات صغيرة خفيفة في أكواب وآنية تحمل شعار المونديال أثناء المشاهدة فيتحول البيت لأجواء الملاعب الرياضية حتى يشعر أفراده كما لو أنهم سافروا لمتابعة البطولة، فيتحول البيت بتلك التفاصيل البسيطة لمكان يشع بالدفء والسعادة.
من الممكن أيضاً وضع بضع كروت صفراء وحمراء حتى يلتزم الأبناء بعدم التلفظ بألفاظ نابية أثناء المشاهدة فيكون ذلك توجيهاً تربوياً في قالب مرح ومثير.
التفكير الزائد
متابعة البطولة قد تساعد الإنسان فعلاً على التخلص من التفكير الزائد غير الممنهج وغير الإيجابي في معظم الأحيان، فمعظم تدريبات التأمل تسعى لوقف هذا السيل من الأفكار عن طريق تأمل شيء ما بدقة والانغماس في ذلك لبضع دقائق حتى يحصل العقل المجهد على قسط من الراحة، وهو ما يمكن أن يحدث في حال متابعة البطولة (خاصة في الأدوار النهائية منها) في أجواء جماعية مثيرة تحبس الأنفاس وتوقف سيل التفكير الزائد السلبي، وينعكس ذلك على التحسن المزاجي الفوري؛ ومن ثم القدرة على المزيد من الاندماج في الحوار والتفاعل، ويقلل من حدة النقد اللاذع والكلمات المحبطة التي تجعل الصقيع يعشش في البيوت.
الحوار حول البطولة والمباريات وأداء الفرق والتحليل الرياضي والتوقعات حوار سلس؛ لأن الخلاف فيه لا يمسنا بشكل مباشر، وفي الوقت ذاته يقارب بين الجميع، حتى هؤلاء الذين لا تستهويهم الرياضة يستطيعون بقليل من الانتباه والتركيز المشاركة في حوار نشط وفعال نستطيع استغلاله في تذويب الجليد القائم في كثير من الأسر، حتى لو شاهد الزوج أو الأبناء المباريات في المقاهي أو مع تجمعات الأصدقاء يمكن الالتفاف حول الأمر ببعض المتابعة لملخص المباريات أو تحليلها لإثراء الحوار.
هناك صور متنوعة للحوار يمكن أن تفعّل على خلفية بطولة كأس العالم، وهي تتضمن توجيهاً تربوياً مستتراً للأبناء، ومن ذلك:
– إدارة حوار حول الروح الرياضية وأهميتها مع الفوز والخسارة، وكيف يمكن أن ينسحب ذلك على باقي مناحي الحياة.
– إدارة حوار حول أهمية التنظيم في النجاح على خلفية متابعة التنظيمات الدقيقة للبطولة، ويمكن أيضاً في هذا السياق رفع حس الانتماء العربي لدى الأبناء، باعتبار دولة عربية هي قطر من قامت بكل هذه الجهود والتنظيم.
– إدارة حوار حول أهمية الرياضة في الإسلام، وكيف يمكن استغلال المناسبات الرياضية في الدعوة أو على الأقل في تغيير الصورة السلبية النمطية للمسلمين في الذهنية الغربية ودور الشباب في ذلك.
أهم ضابط لاستثمار مشاهدة المباريات في تنمية العلاقات الأسرية ألا تلهينا عن الصلاة
الصلاة والبطولة
أهم ضابط لاستثمار مشاهدة مباريات كأس العالم في تنمية العلاقات الأسرية ألا تلهينا هذه المشاهدة عن الصلاة؛ فالصلاة هي أهم ما في حياة المسلم؛ (إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً) (النساء: 103).
وإذا كان الترفيه مباحاً، فإن ضابط ذلك ألا يلهي عن الصلاة، وإلا صار محرماً، والبيت المسلم هو ذلك البيت الذي تقام فيه الصلاة التي هي أهم سبب للبركة، وتضييعها يعني حياة مليئة بصور من الشقاء والألم والصعوبة والجفاء؛ لذلك يجب علينا ونحن ننظم أمر متابعة البطولة واستغلالها في التقريب بين أفراد الأسرة أن نعلن أن إقامة الصلاة خط أحمر لا يمكن تجاوزه سواء بسبب المشاهدة أو لأي سبب آخر.