حادثة شهيرة وقعت في أيام الحج رواها الإمام ابن الجوزي، ملخصها: أن أعرابياً انتهز طواف الحجاج بالكعبة وحسر عن ثوبه، ثم بال في البئر أمامهم، فما كان منهم إلا أن انهالوا عليه بالضرب حتى كاد يموت، وجاء به الحراس إلى الوالي الذي قال له: قبّحك الله، لِمَ فعلت هذا؟ قال الأعرابي: حتى يعرفني الناس، يقولون: هذا فلان الذي بال في بئر زمزم!
في زماننا يسعى أعراب “مودرن” إلى تكرار هذا الفعل الشنيع، والتبول في بئر زمزم دون حياء أو خجل، لتحقيق مآرب شخصية، وخدمة بعض الجهات، وتحقيق الشهرة والإثارة وما يسمى “التريند”! دون مراعاة للحقائق أو الدين أو الأخلاق.. وللأسف لا يضربهم الناس، ولا يوبخهم الوالي، بل يجدون كثيراً من الدعم والمكافآت والجوائز، لسبب واحد هو: أنهم من فرسان المعبد الجدد، الذين يقومون بمهمة استئصال الإسلام، ويسعون للخروج بأكبر قدر من الفوائد المادية والمعنوية، بعد أن يُسيلوا دماء المروءة ويسحقوا عظام الشهامة، ولعل ما فعلوه أخيراً مع الإمام الراحل الشيخ محمد متولي الشعراوي، خير دليل على ذلك، لقد شنوا هجوماً ضارياً على الشيخ الراحل بمناسبة كلام بعضهم عن الاحتفال بتقديم سيرته الذاتية مع بعض الأعلام من خلال عروض مسرحية في دار الأوبرا.
المايسترو واحد
كأنها حملة مرتبة وموزعة الأدوار، المايسترو واحد، واللغة واحدة، وفرسان المعبد متشابهون: نائبة معينة في مجلس النواب، نقاد للأعمال الفنية، أبواق أخرى معروفة بعدائها للإسلام وموالاتها للغرب، “كومبارس” يقومون بأدوار ثانوية في بعض الأفلام والدراما.. المعزوفة التي يعزفونها واحدة وإن تعددت نغماتها: الشيخ رجعي، يصنع التطرف والإرهاب، يتاجر بالدين، وكون ثروة ضخمة من هذه التجارة، يقف ضد المرأة، يسهم في إشعال الفتنة الطائفية، يقدسه المصريون من دون الله.. إلخ!
أذكر في أواسط السبعينيات، أني كتبت في “الاعتصام” أنتقد الشيخ، وكان لما يزل نجماً بازغاً في سماء الدعوة الإسلامية، ويشكل نموذجاً يجمع حوله الناس في برنامج “نور على نور” للمذيع الشهير أحمد فراج، رحمه الله، كان انتقادي ينصب على ظهور الشيخ في البرنامج وهو يدخن سيجارة، وكان معروفاً عنه أنه كثير التدخين، ورأيت أن الداعية قدوة يقتدي به من يشاهده ويقلده، ولذا يتوجب عليه أن يظهر بالمظهر الذي لا يؤدي إلى سلبيات وخاصة لدى الشباب، وكان في الانتقاد تلميح إلى تعاطفه مع السلطة، وعدم المواجهة في بعض القضايا الإسلامية التي كانت مطروحة آنئذ.
امتنع عن التدخين
غضب الشيخ فيما علمت، وكان العناد فيما يبدو دافعه إلى ذلك الغضب، ولكني لاحظت بعد فترة قصيرة أن الشيخ امتنع تماماً عن الظهور وهو يدخن، ثم عرفت بعدها أنه امتنع عن التدخين تماماً، ومعلوم أن التدخين تسبب في ابتلائه بحساسية الصدر التي لازمته طويلاً حتى رحيله، وجعلته يعاني آلاماً مبرحة.
بيد أنني أيدته حين تصدي لممارسات الملازم عويضة التي أدانها القضاء وكشف من خلالها عن فساد في الأوقاف عظيم، ويحسب للشيخ أنه لو لم يفعل غير اقتلاع الملازم عويضة من المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، لكفاه أمام ربه سبحانه وتعالى، فقد كان الرجل أميناً للمجلس ومسؤولاً عنه، ومحصناً ضد المحاسبة أو المؤاخذة، بحكم أنه كان من الصف الثاني ممن قاموا بانقلاب 1952م، وكان معنياً بمسؤوليات الترويج للحاكم في أفريقيا وتجنيد الأتباع و”الهتِّيفة” عند زياراته لعواصمها، كما كانت له حكايات وقصص مع أموال الأوقاف، ليس هنا مجال الخوض فيها.
ظاهرة إسلامية
حين أخذ الشيخ يقدم خواطره حول القرآن الكريم على شاشة التلفزيون المصري التف الناس حوله، وأخذت شاشات عربية تنقل خواطره، وتحول إلى ظاهرة إسلامية تشمل العالم الإسلامي من إندونيسيا إلى موريتانيا، فقد رأى فيه الناس نموذجاً لتقديم الإسلام يعتمد على السهل الممتنع، ويقوم على التبسيط والتحليل اللغوي والبلاغي، وربطه مع المعطيات الحديثة التي يتحدث عنها العلم والعالم، فجذب الخاصة قبل العامة، وعلى رأسهم علماء الدين المتخصصون في دراسة القرآن وعلومه، كان ما يقدمه الرجل فيضاً من عند الله أبهر جماهير الأمة الإسلامية، وشدها إلى ساحة القرآن بعد طول غياب، وكثير كلام عن الاشتراكية والشيوعية والتقدمية والليبرالية وثقافة الغرب الوثنية، وهنا أدرك فرسان المعبد ومن يحركونهم أن الرجل يمثل خطراً عليهم وعلى مخططاتهم الاستئصالية الهادفة إلى إخراج المسلمين من الملة، وإخضاعهم للإرادة الأجنبية، فبدأت الحملات على استحياء، ثم تمددت، ولكنها ووجهت بردود مفحمة، وشعبية جارفة، وحب غامر للرجل وتفسيره، فنقلت خواطره من التسجيلات إلى الأوراق، وخصصت صحف صفحات أسبوعية لنشرها، وأخذ ناشرون على عاتقهم تقديمها في كتب مسلسلة، وتنافست إذاعات وشاشات في إعادة تقديمها للناس، وهناك من عالج موضوعات بعينها من خلال خواطر الشيخ، وقام كثيرون بتعليق صور الشيخ على مركباتهم وفي محلاتهم وجعلوا صوته نغمات في هواتفهم، حبّاً له وتقديراً واحتراماً وليس تقديساً وتوثيناً!
التحرش بالشيخ
ومع ذلك لم يتوقف فرسان المعبد ومن يحركونهم عن التحرش بالشيخ وتفسيره وآرائه، وهو تحرش رخيص يعتمد على الكذب والافتراء والقصص الخيالية التي لا أساس لها من الصحة.. حتى عد بعضهم أن هناك مواسم للهجوم على الشيخ واتهامه بما ليس فيه.
وفي الأيام الماضية تجدد موسم الهجوم على الشعراوي، ولم يكن غريباً أن أرصد مجموعة كبيرة من الموضوعات تحمل عنوان “موسم الهجوم على الشعراوي”؛ مما يعني أن أصحابها واثقون أن الهجوم مخطط ومقصود، وليس من أجل اجتلاء الحقيقة أو النقاش العلمي، أو السعي إلى المعرفة الحقة.
تحفظات معينة
لقد تم تداول تصريحات لشخصيات في الوسط الفني تفيد بأن روحانيات الشيخ الشعراوي متخلفة ورجعية وليست عصرية ومتزمتة، وتقدمت نائبة معينة في مجلس النواب المصري، أسلمت لتتزوج شيوعياً، بطلب إحاطة لرئيس مجلس الوزراء، ووزيرة الثقافة، تتهم فيه الوزارة بضعف الأداء وقلة الوعي، لأن الوزارة تقوم بإنتاج مسرحية عن الشيخ الشعراوي، الذي سجد لله بعد هزيمة 1967، وزعمت أنه فرح لهزيمة مصر! وأنه حرَّم الفن وأموال الفن، وحرض على عدم وضع النقود في البنوك لأن فوائد البنوك حرام.
وردت وزيرة الثقافة بنفي الموضوع، وادعت أن الشيخ الشعراوي “عليه تحفظات كثيرة”! وأضافت أنه كان هناك اقتراح مقدم بعقد أمسيات عن بعض الشخصيات الدينية في رمضان، ولم يعرض على اللجنة حتى الآن، إذ إن اللجنة تقرر الأعمال حسب بعض المعايير والشروط، وأضافت الوزيرة: «لا بد أن يكون هناك اختيار للشخصيات التنويرية (؟) المؤثرة في المجتمع لتقديم سيرتها على المسرح القومي».
سجود الشعراوي
ويبدو أن النائبة التي غيرت دينها من أجل الزواج نسيت أن توجه الاتهام لمن أذل مصر، وجعلها ضحية راكعة تحت أقدام الغزاة، وتسبب في ضياع الأرض والعرض، ولم يأبه لآلاف الشهداء والأرامل والأيتام في سبيل كرسيه الزائل، واشتراكيته البائسة، لم تتذكر إلا سجود الشعراوي، وفسرته بالفرح للهزيمة، ولم تدرك أنه سجد لأن دبابات الغزاة القتلة لم تصل إلى القاهرة، وتسقط زعيمها المهزوم من على كرسيه، واشتراكيته الرديئة، وأيضاً فإن الوزيرة- راقصة الباليه- حين تتحفظ على الشعراوي لم تخبرنا أي تخصص فقهي أو علمي يعطيها الحق في التحفظ على العالم الكبير، وما هو المنتج الثقافي الذي تحمله كي تتحدث عن الرجل بهذه الطريقة؟
لقد تابع الوزيرة -راقصة الباليه- مرؤوسها مدير المسرح القومي، الذي نفى الموضوع تماماً ووضّح أنه سيطلق أمسيات ثقافية وفنية في رمضان تستعرض تاريخ القامات المصرية في كافة المجالات والتعريف بها وتأثيرها في مسيرة التنوير في مصر عبر التاريخ، وكأن الشعراوي لا يفوق هذه القامات جميعاً التي ذكرها في بيانه، ومعظمهم من أهل الهوى واليسار.
المخبر الغشيم!
أما من يسمى ناقداً فنياً، فقد آثر أن يقوم بدور المخبر الغشيم كما وصفته بعض التعليقات، وراح يصف الشعراوي بأنه يصدّر الأفكار التي صدّرها حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان! ولأن ناقد المطربات والمشخصاتية لم يتثقف جيداً ولم يقرأ التاريخ، فلم يعلم أن الشيخ كان وفدياً، وله شعر في زعماء الوفد ضمن ديوانه الذي جمع بعد رحيله! وأن الأفكار التي يصدرها كما يزعم هي أفكار الإسلام وثوابته، وليست أفكار حسن البنا!
لم يكتف الناقد الفني (بعلمه الغزير!) فادعى أن أفكار الشعراوي كلها ضد العصر، ويبدى حسرته لأن شعبية الشيخ أكبر من شعبية عبدالحليم حافظ، وأم كلثوم، ولاعبي كرة القدم، ثم أنه لا يعجبه أن يقول الشعراوي عن الفن: “حلاله حلال وحرامه حرام”، كما قال حسن البنا، مؤسس الجماعة، أي إنه مصرّ على القيام بدور المخبر الغشيم، الذي يهجو المسلمين ويتملق الطائفة ولا يرى فيها إلا المحبة، ويتمنى لو كانت الأمسية الرمضانية في وزارة الثقافة عن مجدي يعقوب، “لأنه حاجة جميلة تفتح النفس”!
متطرف “داعشي”!
ومن أعجب ملامح الهجوم الرخيص ما قاله بوق مأجور، عدو للإسلام والمسلمين، فقد وصف الشيخ أنه متطرف “داعشي” سلفي ضد الأقباط ويهين المرأة وليس وسطياً.. إلى هذا الحد وصل الانحطاط ببعضهم! كيف يكون الشعراوي متطرفاً “داعشياً”، ولم تولد “داعش” التي صنعها رعاة “فرسان المعبد” إلا بعد رحيله بسنوات؟ وما معنى أن يكون الشعراوي سلفياً؟ هل يقصد السلفية المدخلية مثلاً؟ إنه سلفي بلا ريب مثل كل الناس الذين يتبعون السلف الصالح، وليس الذين يتبعون السلف الطالح مثل أبي جهل، وأبي لهب، وعبدالله بن أبي، وحسن الصباح، وحمدان قرمط، وعلى خنفس، وآخرين لا نعلمهم، الله يعلمهم!
وكيف يكون ضد الأقباط، وهو الذي تبادل الهدايا الثقافية مع الأنبا شنودة، وقال له في تهنئته بعيد الميلاد الذي يحتفل به النصارى كل عام: “.. أهنئ -في شخصكم الكريم- أمة الأديان بعيد الميلاد المجيد الحدث الوحيد الذي كرمه رب الأرباب، بالخلق على غير مألوف الأسباب، وأضاف: وأسأل الله أن يطهر الفرحة بميلاد الروحانية والوقار، من بدعة استقبالها بإطفاء الأنوار، وأن يمكن منهج السماء من القضاء على فجور الأهواء، حتى تستقبل الدنيا حياة كريمة سليمة، يعيش الناس بها في سلام حق وأمان شامل..”.
الغضب العارم
لسنا في حاجة إلى تفنيد الاتهامات الرخيصة التي يوجهها هذا البوق وأمثاله.. بيد أننا نود الإشارة إلى الغضب العارم الذي عبر عنه الشعب المصري في وسائل التواصل وغيرها، مما دفع بعض كتَّاب النظام إلى الدفاع عن الشيخ الشعراوي، والرد على الترهات والأكاذيب التي أطلقها فرسان المعبد الجدد.
وكان من بين الردود البسيطة العميقة التي دونها المتابعون على “فيسبوك” وغيره ما قاله بعضهم عن جبن هؤلاء المعادين للإسلام أمام غير المسلمين، وتحدى بعضهم أن يجرؤ بوق أو عميل على انتقاد شماس في كنيسة أو كاهن بسيط، أو حاخام في كيان الاغتصاب بفلسطين، وذكّروا بما فعلته “روز اليوسف” حين غيرت غلافها بالأمر واعتذرت، وتم التحقيق مع رئيس تحريرها في 23/ 6/ 2020 حين وضعت عليه في سياق انتقادها للتطرف: صورتين لشخصيتين؛ مسلم وغير مسلم، فرفعوا صورة الآخر وأبقوا على الأول، وكانت فضيحة، وكان عاراً! https://www.masrawy.com/news/news_egypt/details/2020/6/13/1808432/ –
لقد استنكر علماء الأزهر الحملة الإجرامية التي شنها فرسان المعبد الذين بلا فروسية، على الشيخ الشعراوي، وتدخلت شخصيات عامة بالتعليق على الجريمة، مثلما فعل علاء نجل الرئيس مبارك الذي وصف الحملة بأنها تطاول غير مقبول.. وتساءل: ما الهدف من هذا التشويه ولماذا الآن؟
لم يسرق ولم ينهب
إن المسلمين لا يقدسون الشعراوي، ولكنهم يرونه زاهداً متواضعاً بسيطاً، أفاض الله عليه من نعمه الكثير، فلم يسرق، ولم ينهب، ولم يقف في خندق الطغاة، فاكتسب محبة الناس، وفي الوقت نفسه، كان هو الرجل الذي بعث به السادات إلى الميدان ليحمس الجنود قبيل معركة رمضان، وأرسله إلى الملك فيصل ليقنعه بقطع البترول عن الدول المساندة للعدوان النازي اليهودي، فقد كان قريباً من قلب فيصل، منذ وقف ضد تغيير مكان مقام إبراهيم في الكعبة الغراء.
ونسأل الفرسان الذين بلا فروسية: لماذا تلوثون مياه زمزم؟!