تكررت الإساءات لهذه الشخصية والقامة الإسلامية الرفيعة في وقتنا الحاضر، ونقصد هنا شخصية السلطان العثماني المصلح عبدالحميد الثاني، فكلما خطر على بال أحدهم أن يُبرر هزيمته أو عجزه ردّ أسباب ذلك إلى آخر حاكم صان الأمة وحفظ حدودها ودافع عن دينها ضد أعداء الأمة في شرقها وغربها، وكلما خاص السياسيون في تركيا والعالم العربي سجالات حزبية أو تنافسوا في انتخابات دورية، قالوا: إن السلطان عبدالحميد سبب في الضعف وتمزق هذا البلد أو ذاك، وهو افتراء وتضليل وسطحية في قراءة التاريخ وسنن التبدل الحضاري.
فمن هو السلطان عبدالحميد الثاني؟ وما دوره في حماية وتوحيد الأمة الإسلامية في دولة قوية واحدة رغم كل التحديات التي واجهها في فترة حكمه؟
السُّلطان عبدالحميد هو السُّلطان الرَّابع والثَّلاثون من سلاطين الدَّولة العثمانيَّة، تولَّى عرش الدَّولة وهو في الرَّابعة والثَّلاثين من عمره؛ إِذ ولد في 16 شعبان 1258هـ/ 1842م.
ماتت والدته وهو في العاشرة من عمره، فاعتنت به الزَّوجة الثَّانية لأبيه، وكانت عقيماً؛ فأحسنت تربيته، وحاولت أن تكون له أماً، فبذلت له من حنانها، كما أوصت بميراثها له، وقد تأثَّر السُّلطان عبدالحميد بهذه التَّربية، وأعجب بوقارها وتديُّنها، وصوتها الخفيض الهادئ، وكان لهذا انعكاسٌ على شخصيَّته طوال عمره.
تلقَّى عبدالحميد تعليماً منتظماً على أيدي نخبةٍ مختارةٍ من أشهر رجالات زمنه علماً وخلقاً، وتعلَّم من اللغات العربيَّة والفارسيَّة، ودرس التَّاريخ، وأحبَّ الأدب، وتعمَّق في علم التَّصوُّف، ونظم بعض الأشعار باللغة التُّركيَّة العثمانيَّة. (السُّلطان عبدالحميد الثَّاني، محمَّد حرب، ص31).
وتدرَّب على استخدام الأسلحة، وكان يتقن استخدام السَّيف، وإصابة الهدف بالمسدَّس، وكان محافظاً على الرِّياضة البدنيَّة، وكان مهتماً بالسياسة العالميَّة.. والحقيقة، هو آخر من امتلك سلطة فعلية في إدارة شؤون العالم الإسلامي في الدولة العثمانية، وحكم بين عامي 1876 و1909م.
أولاً: دوره في إبطال مخطَّطات الأعداء:
شرعت بريطانيا منذ الرُّبع الأوَّل من القرن التَّاسع عشر في تحريض الأكراد ضدَّ الدَّولة العثمانيَّة، بهدف إِيجاد عداء عثمانيٍّ كردي من ناحية، وانفصال الأكراد بدولة تُقتطع من الدَّولة العثمانيَّة من ناحية أخرى.
وعندما قامت شركة الهند البريطانيَّة، زاد اهتمام الإِنجليز بالعراق، وعملت لإِيجاد حركةٍ قوميَّة بين الأمراء، وتجوَّل مندوبون بريطانيُّون بين عشائر الأكراد في العراق في محاولة لتوحيد العشائر الكرديَّة ضدَّ الدَّولة العثمانيَّة، وكانت المخابرات العثمانيَّة تتابع الأمور بدقَّة متناهية، ووضع السُّلطان عبدالحميد خطَّة مضادَّة للعمل التَّدميريِّ الإِنجليزيّ، فقام بالتَّالي:
– قامت الدَّولة العثمانيَّة بحماية المواطنين الأكراد من هجمات الأرمن الدَّمويَّة ضدَّهم.
– أرسل إِلى عشائر الأكراد وفوداً من علماء المسلمين للنُّصح والإِرشاد، والدَّعوة إِلى الاجتماع تحت دعوة الجامعة الإِسلاميَّة.
– اتَّخذ السُّلطان عبدالحميد إجراءاتٍ يضمن بها ارتباط أمراء الأكراد به وبالدَّولة.
– أسَّس الوحدات العسكريَّة الحميديَّة في شرق الأناضول من الأكراد، للوقوف أمام الاعتداءات الأرمنيَّة.
– كان موقف الدَّولة قويَّاً ضدَّ أطماع الأرمن في إِقامة دولة تُقتطع من أراضيها، وبذلك شعر الأكراد المقيمون في نفس المنطقة بالأمان. (السُّلطان عبدالحميد الثَّاني، ص132).
استطاع السُّلطان عبدالحميد أن يضيِّق على النُّفوذ البريطاني في اليمن، ويحقِّق نجاحاً ظاهراً في صراعه مع الإِنجليز في تلك المنطقة، فقد أنشأ فرقة عسكريَّة في اليمن قوامها 8 آلاف جنديٍّ، لإِعادة اليمن إِلى الدَّولة العثمانيَّة مَرَّة أخرى، وحاول الإِنجليز إِذكاء نيران التَّمرُّد في اليمن ضدَّ الدَّولة العثمانيَّة، ولكنَّ السِّياسة الحكيمة الَّتي سار عليها السُّلطان كفلت له النَّجاح في اليمن. (السُّلطان عبدالحميد الثَّاني، ص224).
وكانت العقليَّة العثمانيَّة تسعى لمدِّ خطِّ سكَّة الحديد من الحجاز إِلى اليمن، وهذا ما أثبتته الوثائق الَّتي دلَّت على وجود تخطيط ودراسة عميقة لهذا المشروع الكبير.
ثانياً: التصدي للأطماع الإِيطاليَّة في ليبيا:
كانت إِيطاليا تحلم بضمِّ شمال أفريقيا؛ لأنَّها تراه ميراثاً إِيطالياً، هكذا صرَّح رئيس وزرائها «ماتزيني»، لكنَّ فرنسا احتلَّت تونس، وإِنجلترا احتلَّت مصر، ولم يبقَ أمام إِيطاليا إِلا ليبيا.
رسمت إِيطاليا سياستها في ليبيا على 3 مراحل:
الأولى: الحلول السلميَّة بإِنشاء المدارس والبنوك وغيرها من مؤسَّسات خدميَّة.
الثَّانية: العمل على أن تعترف الدُّول بآمال إيطاليا في احتلال ليبيا بالطُّرق الدِّبلوماسيَّة.
الثَّالثة: إِعلان الحرب على الدَّولة العثمانيَّة والاحتلال الفعلي.
وكانت السياسة الإيطاليَّة لا تلفت النَّظر إِلى تحرُّكاتها، بعكس السياسة البريطانيَّة، أو الفرنسيَّة في ذلك الوقت، وكان الإِيطاليُّون يتحرَّكون بحكمةٍ وهدوء شديدين دون إِثارة حساسية العثمانيين.
وكان السُّلطان عبدالحميد متيقِّظاً لتلك الأطماع الإِيطاليَّة، وطلب معلوماتٍ من مصادر مختلفة عن نشاط الإِيطاليِّين في ليبيا وأهدافهم، فجاءته المعلومات تقول: إِنَّ للإِيطاليِّين بمدارسهم، وبنوكهم، ومؤسَّساتهم الخيريَّة التي يقيمونها في الولايات العثمانيَّة، سواء في ليبيا، أو في ألبانيا هدفاً أخيراً هو تحقيق أطماع إِيطاليا في الاستيلاء على كل من: طرابلس الغرب، وألبانيا، ومناطق الأناضول الواقعة على البحر الأبيض المتوسِّط.
قام باتِّخاذ التَّدابير اللازمة أمام الأطماع الإِيطاليَّة، ولمَّا شعر أنَّه سيواجه اعتداء إِيطالياً مسلَّحاً على ليبيا، قام بإِمداد القوَّات العثمانيَّة في ليبيا بـ15 ألف جنديٍّ لتقويتها، وظلَّ يقظاً حسَّاساً تجاه التَّحرُّكات الإِيطاليَّة؛ ممَّا جعل الإيطاليِّين يضطرُّون إِلى تأجيل احتلال ليبيا، وتمَّ لهم ذلك في عهد جمعيَّة الاتِّحاد والتَّرقِّي.
ثالثاً: الجامعة الإسلامية والتصدي للمطامع الغربية وتوحيد الأمة:
كان لفكرة الجامعة الإِسلاميَّة صدى بعيد في العالم الإِسلامي لعدَّة أسبابٍ، منها:
1- كانت الدُّول الأوروبيَّة في النِّصف الثَّاني من القرن التَّاسع عشر تنافس على الاستعمار في الشَّرق، وحدثت سلسلة اعتداءات على الشُّعوب الإِسلاميَّة؛ فاحتلَّت فرنسا تونس (1881م)، واحتلَّت إنجلترا مصر (1882م)، وتدخَّلت فرنسا في شؤون مرَّاكش؛ حتَّى استطاعت أن تعلن الحماية عليها (1912م) مقتسمة أراضيها مع إِسبانيا، وكذلك توغَّل الاستعمار الأوروبيُّ في بلاد أفريقيَّة إِسلاميَّة كالسُّودان، ونيجيريا، وزنجبار.. وغيرها.
2- تقدَّمت وسائل النَّقل والاتِّصالات بين العالم الإِسلامي، وانتشرت الحركة الصَّحفيَّة في مصر وتركيَّا والجزائر والهند وفارس وأواسط آسيا وجاوة (إندونيسيا)، وكانت الصُّحف تعالج موضوع الاستعمار، وأطماع الدُّول الأوروبيَّة في العالم الإِسلاميِّ.
3- كانت جهود العلماء ودعواتهم في وجوب إحياء مجد الإسلام، فقد انتشرت في ربوع العالم الإِسلاميِّ الدَّعوة إلى وحدة الصَّفِّ، وازداد الشُّعور بأنَّ العدوان الغربيَّ بغير انقطاعٍ على الشَّعوب الإِسلاميَّة ممَّا يزيدها ارتباطاً وتماسكاً، وبأنَّ الوقت قد حان لتلتحم الشُّعوب الإِسلاميَّة، وتنضوي تحت راية الخلافة العثمانيَّة. (صحوة الرَّجل المريض، ص112).
لقد نجح السُّلطان عبدالحميد في إِحياء شعور المسلمين بأهمّيَّة التَّمسُّك والسَّعي لتوحيد صفوف الأمَّة تحت راية الخلافة العثمانيَّة، وبذلك يستطيع أن يحقِّق هدفين:
الأوَّل: تثبيت دولة الخلافة في الدَّاخل ضدَّ الحملات القوميَّة التَّغريبيَّة، الماسونيَّة، اليهوديَّة، الاستعماريَّة، النَّصرانيَّة.
الثَّاني: وفي الخارج تلتفُّ حول راية الخلافة جموعُ المسلمين الخاضعين للدُّول الأوروبيَّة كروسيا وبريطانيا وفرنسا، وبذلك يستطيع أن يجابه تلك الدُّول، ويهدِّدها بإِثارة المسلمين، وإِعلانه الجهاد عليها في جميع أنحاء العالم الإِسلاميِّ. (صحوة الرَّجل المريض، ص112).
_______________________________________________________________
1- الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط، علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2003م.
2- السُّلطان عبدالحميد الثَّاني، محمَّد حرب، دار القلم دمشق، الطَّبعة الأولى، 1410هـ/1990م.
3- صحوة الرَّجل المريض، موفق بني المرجة، دار البيارق، الطَّبعة الثَّامنة، 1417هـ/1996م.