منذ نشأة الكيان الصهيوني، ظل السعي مستمراً لجعله كياناً «طبيعياً» ومقبولاً في المنطقة، واعتبر بن جوريون، أول رئيس وزراء للكيان، أن هذا متطلب أساسي من متطلبات الأمن والبقاء، فالمنظور الأساسي لعمليات التطبيع التي يقوم بها الاحتلال الصهيوني منطلقها في الأساس أمني، وفي ظل ما تشهده المنطقة من حالة تراجع وغياب لأي مفهوم للأمن العربي أو الإسلامي المشترك، بل واستبداله بتصدعات عربية-عربية، وإسلامية-إسلامية، ترى دولة الاحتلال أن عمليات التطبيع يمكن أن تتطور إلى مرحلة تقود فيها دولة الاحتلال تحالفات إقليمية على المستوى العسكري والأمني والاقتصادي.
وانطلاقاً من هذه المقاربة، لم يعد التطبيع مع الكيان الصهيوني مجرد نزوات سياسية أو فكرية هنا أو هناك، أو اختراقات محدودة ينفذها العدو في جسم الأمة، لقد بات التطبيع مع الكيان الصهيوني يمثل تهديداً إستراتيجياً وأمنياً لوحدة الأمة العربية والإسلامية، ويهدد مستقبلها وهويتها، ويمهد الطريق لوضع اليد الصهيونية على مقدراتها ومقومات أجيالها.
عامل تفرقة
فعلى المستوى السياسي، يسمح التطبيع لدولة الاحتلال في النفاذ للبنى السياسية والاجتماعية للدول المطبعة، وسرعان ما تعمد دولة الاحتلال إلى التأثير على المشهد السياسي الداخلي لهذه الدول، والتغلغل في أوساط النخبة السياسية والأمنية والعسكرية؛ للتأثير على توجهات هذه النخب حيال القضايا الداخلية والسياسة الخارجية لهذه الدول بما يخدم مصلحة دولة الاحتلال.
كما أن محاولة تأطير التطبيع في اتفاقيات إستراتيجية وأمنية كـ«اتفاقيات أبراهام» وتصديرها في سياق تشكل إقليمي أوسع لا يخفي حقيقة أن التطبيع يوفر البنية التحتية لدولة الاحتلال لتهيمن على الأمن الإقليمي وتلحق الدول المطبعة بها، وتوظف قدرات هذه الدول في رسم نظام أمني إقليمي يحمي دولة الاحتلال ومصالحه، وفي المقابل، يكشف دول التطبيع أمنياً وسياسياً أمام شعوبها وأمام كل المناهضين لدولة الاحتلال.
وبالنظر لدوافع الدول المطبعة مع دولة الاحتلال، نجد أنها تتعلق في جلها بقناعة أن المدخل لحل مشكلات هذه الدول مع المنظومة الدولية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية يأتي عبر دولة الاحتلال وقوة تأثيرها في المعادلة الأمريكية، وهي القناعة التي تجد دعماً وتأييداً من الإدارات الأمريكية التي تسهم في دفع التطبيع مع دولة الاحتلال إلى الأمام لما يشكله ذلك من مصلحة عليا لها.
كما أن التطبيع مع دولة الاحتلال يعزز الانقسامات العربية والإسلامية، ويجعل من العلاقات مع دولة الاحتلال نقطة للتمحور والصدام بين مكونات المنطقة، فالبيئة السياسية لمنطقتنا تشكلت منذ سنوات وفقاً لنهج الدول في التعامل مع دولة الاحتلال بين مناهض لها ورافض للاعتراف بوجودها، وبين من يريد السير في ركبها وتطبيع العلاقة معها، فالاحتلال عامل تفرقة وليس العكس.
سلب ثروات المنطقة
وعلى المستوى الاقتصادي، يدرك قادة دولة الاحتلال أنهم يفتقدون لمقومات اقتصاد مستقل ومستقر نظراً لمحدودية المقومات البشرية والجغرافيا، وهم في سعيهم لردم هذه الفجوة يتطلعون للمقومات الاقتصادية المتوفرة للدول العربية والإسلامية، حيث تهدف عمليات التطبيع التي تقودها دولة الاحتلال لوضع البنية التحتية لشراكات اقتصادية عابرة للمنطقة، تشمل قطاعات الطاقة والكهرباء والتجارة والموانئ والزراعة والتكنولوجيا، وفي ذلك تهديد بالغ للأمن الحيوي لشعوب المنطقة ودولها، فهذه الشراكات تهدف للولوج لمقومات الدول العربية والإسلامية وربطها بالمنظومة الصهيونية، حيث تسعى دولة الاحتلال إلى أن تشمل هذه الاتفاقيات مجموعات اقتصادية دولية كالاتحاد الأوروبي، وأن تحظى برعاية ودعم الولايات المتحدة الأمريكية، ولعل المثال الأبرز على ذلك، اتفاقية تبادل الكهرباء والماء مع الأردن التي رعتها الولايات المتحدة الأمريكية والإمارات العربية؛ وعليه، لم يعد التطبيع الاقتصادي على شكل صفقات أو شركات أو مشاركات على مستوى رجال الأعمال، إذ يسعى الاحتلال للانتقال إلى مستوى الشراكات الاقتصادية الإستراتيجية التي تتيح للعدو الولوج لاقتصادات المنطقة والاعتماد عليها.
ولطالما تم الترويج لاتفاقيات التطبيع الأولى التي وقعتها مصر في «كامب ديفيد» عام 1979، وثم الأردن في «وادي عربة» عام 1994، على أنها ستفتح المجال أمام استقرار سياسي وأمني لهذه الدول وتفتح آفاق تنمية اقتصادية وتجارية، إلا أن المتتبع للواقع الاقتصادي والتنموي لهذه الدول يجد أن ما تم تصديره كنتيجة لتطبيع العلاقات مع العدو الصهيوني لم يتحقق، وأن الطفرات المالية أو التنموية المحدودة التي شهدتها مصر والأردن لم تكن مرتبطة بمسار التطبيع، بل على العكس، ساهمت دولة الاحتلال في محاصرة مصر في أمنها الحيوي والمائي.
اختراق ثقافي
وعلى المستوى الثقافي، يسعى الاحتلال لتحقيق إنجازات في اختراق البنية الثقافية للأمة العربية الإسلامية، لكن وكون التطبيع بقي مقتصراً على جزء من النخب الحاكمة في الدول المطبعة، لم تجر هناك تحولات في الموقف الشعبي والمعبر عنه في الفن والتمثيل والأدب من دولة الكيان، لقد مولت دول التطبيع وبالتعاون مع دولة الاحتلال العديد من المسلسلات والأفلام والمواقع على الشبكة العنكبوتية وحسابات على وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات، وأجرت مشاركات ثقافية لأفراد من دولة الاحتلال، ولكن ذلك كله أشبه بالعمليات الأمنية المحدودة وصور مختلقة، فلا يوجد امتداد أو بنية تحتية لتطبيع ثقافي بين الشعوب العربية والإسلامية ودولة الاحتلال، ومع ذلك، يجب ألا نهون من الجهود التي ترعاها دول عربية غنية ولديها بنية إعلامية كبيرة لتطبيع الوجود الصهيوني وتحسين صورته وتصديرها بقوالب ثقافية وفنية و«أنسنة» صورته البغيضة، فيجب أن نبقى متنبهين لمناهجنا التربوية ومحاولات العبث بها وتمرير الرواية الصهيونية عبرها.
مقاومة التطبيع بدعم المقاومة
ظلت جهود مقاومة التطبيع لسنوات طويلة مرتبطة بالموقف القيمي والأخلاقي من القضية الفلسطينية، وهو ارتباط معتبر ومطلوب أن يستمر، إلا أننا اليوم بتنا بحاجة لتنمية مفهوم مقاومة التطبيع وتعزيز جهوده انطلاقاً من مفهوم أوسع يشمل الأمن القومي العربي والإسلامي، بحيث تهدف مقاومة التطبيع لوقف التمدد الصهيوني ومحاصرته، ودعم كل الجهود الرامية لانتزاع هذا الورم السرطاني من جسم الأمة.
وفي هذا الصدد، تشكل مقاومة الشعب الفلسطيني على أرضه الدعامة الرئيسة والأكثر جدوى في مواجهة حملات التطبيع الصهيونية التي تحاول اجتياح المنطقة، فالمقاومة تُبقي جذوة الصراع المشتعلة، وتأتي على فلسفة التطبيع بتجاوز القضية الفلسطينية واعتبارها غير موجودة، كما تُظهر المقاومة صورة الاحتلال على حقيقتها، وتبني أسواراً من الوعي والحصانة في العقل العربي والمسلم أمام محاولة الاحتلال تحسين صورته والقفز نحو الوعي العربي بصورة جديدة.
إن اشتداد ضربات المقاومة في الضفة الغربية والقدس وغزة وفي كل مكان تسقط نظرية التطبيع بمنظورها الصهيوني، فالكيان العاجز عن توفير الأمن لنفسه سيعجز عن توفير الأمن لغيره كما يتوهم المطبعون، وإثبات هذه الحقيقة يأتي يومياً من أرض فلسطين؛ من جنين ونابلس والقدس ورام الله والنقب والجليل وغزة.
هذا الكيان الذي يعيش في ظل آلة حربه وحراب المقاومة يعجز عن تقديم نظرية اقتصادية وتنموية إقليمية وحمايتها والتأسيس لمشاريع بنى تحتية عابرة للدول، فالمقاومة في غزة وضعت موانئ ومطارات وسكك حديد هذا الكيان تحت مرمى نيرانها.
وعليه، فإن مقاومة الشعب الفلسطيني تستهدف أسس التطبيع ومبرراته وآلياته، ودعم هذه المقاومة هو المتطلب الأول والرئيس لنسج إستراتيجية شاملة لمواجهة التطبيع، فكما أن شرور التطبيع تبدأ من قلب الصراع في فلسطين، فإن مواجهة هذه الشرور يبدأ من نفس ساحة المعركة.
__________________________
كاتب فلسطيني- باحث في العلاقات الدولية.