اليوم هي ذكرى رحيل رجل طالما كان يبلغ رسالات الله، ويخشاه ولا يخشى أحداً إلا الله، سخَّر قلمه وكَلِمَه لله تعالى، حمل رسالة الإسلام على كاهله وكأنه هو الوحيد المسؤول عنها، وتحدث عن قضايا المسلمين وواقعهم كأنه أبو المسلمين وأمهم، كان جبلاً في العلم، وقامة في الفكر، وقمة في الدعوة، وقيمة في الإيمان والخلق.. إنه الشيخ محمد الغزالي، المجدد المصلح المفكر الداعية الأديب الشاعر، الذي لخص الإسلام بكلمتين، فكان يقول، وما أحراه بما قال: «الإسلام عقل ذكي وقلب تقي».
الشيخ محمد الغزالي (السبت 5 ذو الحجة 1335هـ/ 22 سبتمبر 1917م – السبت 20 شوال 1416هـ/ 9 مارس 1996م)، لم تمر ذكرى وفاة له منذ توفي إلا حضر على الساحة، وتحدث الناس عنه، وأقاموا حوله اللقاءات والمحاضرات والندوات، وكتب الكاتبون على صفحاتهم من كلماته وأقواله، فسألت نفسي: ما سر هذا الحضور؟ وما سبب هذه الفاعلية؟ وما حقيقة هذا النفع لما كتب في كل ذكرى تمر بنا عن الشيخ رحمه الله تعالى؟ ومن خلال اطلاعي على مجمل ما كتبه الشيخ الإمام وقفت على هذه الأسباب، وحاولت الوصول لهذه الأسرار، وهي:
أولاً: ربانية الشيخ وشفافيته:
فالشيخ الغزالي عالم رباني وداعية إيماني، خاشع القلب، رقيق الطبع، شفاف النفس، قريب الدمعة، رجاع إلى الحق، هو الذي قال: «وحينما أخطئ وأنا خطاء، أكون أطوع الناس لمن يأخذ بيدي إلى الصواب»، وهو الذي كتب كتابه الفريد «فقه السيرة» في الروضة الشريفة، وقال: «ودمعي يختلط بالمداد»، وهو الذي قال معلنًا حبه لله ورسوله في مقدمة طبعة جديدة من كتابه: «السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث» حين تطاول عليه البعض وشتمه، قال: «لكن الشتم الذي أوجعني اتهام البعض لي: بأني أخاصم السُّنة النبوية! وأنا أعلم أن الله ورسوله أحب إليَّ مما سواهما، وأن إخلاصي للإسلام يتجدد ولا يتبدد، وأنه أولى بأولئك المتحدثين أن يلزموا الفقه والأدب».
وهو الذي نشاهده في مرئيات كثيرة لا يتمالك دموعه حينما يذكر الله، أو يأتي ذكر رسول الله، وقد ألف كتباً تشير بوضوح إلى هذا الجانب وحضوره عنده، منها: «فن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء»، «الجانب العاطفي من الإسلام»، «فقه السيرة»، «كيف نتعامل مع القرآن»، فمن يقرأ هذه الكتب الروحانية يتملكه شعور بالحب للشيخ الغزالي، ويتقمصه إحساس أن قلب هذا الشيخ مليء بحب الله ورسوله.
حملته هذه الربانيةُ على الرجوع إلى الحق متى تبين، فكم من عالم أو داعية يتبين له الباطل ويخشى أن يرجع عنه؛ شعوراً منه أن رجوعه سينتقص من قيمته، أو يحط من قدره، وهذا مخالف لمقتضى الربانية التي جعلت الشيخ الغزالي يعتذر للمفكر الكبير د. محمد عمارة، رحمهما الله تعالى، حين أساء إليه وهاجم فكره دون أن يعلم من هو ولا ما فكره، واعتمد في هجومه على أقوال بعض الرجال؛ فكتب إليه خطاباً بخط يده وأرسله إليه يعتذر له عما بدر منه بحقه، وقد أورده العلَّامة محمد عمارة في كتابه عنه «الشيخ محمد الغزالي الموقع الفكري والمعارك الفكرية».
ثانياً: الاشتباك مع الواقع:
من الأسرار التي جعلت للشيخ الإمام الغزالي حضوراً أنه «داعية مشتبك» مع الواقع، ومع قضايا الأمة؛ ولهذا تجد ما كتبه وما خطبه معجوناً بهذا الواقع، مفعماً بروحه والحدب عليه ومحاولة تناوله ومعالجته.
إن ما كتبه الشيخ الغزالي لم يكتبه بين الكتب والأوراق، وإنما كتبه من الميدان، كتبه وهو في أتون المعركة، وسطره وهو على خط النار، فخرج ما كتبه من رحم المعاناة ومن ذوب القلب ودمع العين؛ ولهذا حين تقرأ أي كتاب من كتب الشيخ تجد هذه الروح، وتشعر بلذع هذا الإحساس النابع من المعاناة، والخارج من ميدان المدافعة والوقوف كالصخرة في وجه أعداء الإسلام من مستشرقين وسماسرة ومستبدين، ومع الأسف من بعض من ينتسبون للإسلام، فضلاً عن بعض من ينتسبون للعلم والعلماء.
إن كثيراً من العلماء يجلسون على مكاتبهم وبين كتبهم وأوراقهم يناقشون الحجج والبراهين، ويدرسون الآراء وأدلتها، والردود عليها وأدلة هذه الردود، وهذا فيه خير ونفع بلا ريب، لكن بعضهم يعيش في وادٍ والأمة وواقعها المؤلم في وادٍ آخر.
أما الشيخ الغزالي فقد عاش للإسلام وبالإسلام وفي الإسلام، واشتبك مع واقع أمة الإسلام وقضاياها المختلفة، وعاش معاركها المتنوعة، وخرج مظفراً في كل معركة خاضها، حتى كانت وفاته في مؤتمر يدافع فيه عن الإسلام، ودفن بالبقيع، ومن هنا كان لما كتبه مذاق خاص نابع من الحرارة الدعوية والصدق النفسي والإخلاص والتجرد لله تعالى.
ثالثاً: القوة في قول الحق:
إن من أسرار بقاء ذكر الشيخ الغزالي ومسيرته والانتفاع بعلمه –الذي أحسب أنه سيبقى ما بقي الليل والنهار– أنه كان متحرراً من سطوة الحكام ومن فتنة العوام على السواء، لم يكن يبالي بمعارضة حاكم مستبد، كما لم يكن يخضع لضغط الجماهير التي يسارع كثير من الدعاة والعلماء في هواها ويحذر غضبها ومخالفة مزاجها العام.
قاده ذلك إلى أن يجهر بالصدق، ويصدع بالحق، لا يخشى في الله لومة لائم، فهو القائل في كتابه: «قذائف الحق»: «وقد قررنا نحن أن نبقى، وأن تبقى معنا رسالتنا الخالدة، أو قررنا أن تبقى هذه الرسالة ولو اقتضى الأمر أن نذهب في سبيلها لترثها الأجيال اللاحقة، من أجل ذلك نرفض أن نعيش وفق ما يريد غيرنا أو وفق ما تقترحه علينا عقائد ونظم دخيلة، من حق المسلمين في بلادهم أن يحيوا وفق تعاليم دينهم، وأن يبنوا المجتمع حسب الرسوم التي يُقدمها الإسلام لإقامة الحياة العامة، والإسلام ليس عقيدة فقط، إنه عقيدة وشريعة! ليس عبادات فقط، إنه عبادات ومعاملات، ليس يقيناً فردياً فقط، إنه نظام جماعي إلى جانب أنه إيمان فردي، إنه كما شاع التعبير: دين ودولة».
كما أنه لم يكن يخشى التيارات المختلفة ممن يعارضون الإسلام؛ فقد كتب ضدها، وبيَّن عوراها وتهافتها، وهاجمها من فوق المنابر الدعوية والعلمية، وما الكاريكاتير الذي رسمه صلاح جاهين عنا ببعيد، الذي حمل جماهير جامع عمرو بن العاص بعد صلاة جمعة من الجمع إلى تسيير مظاهرة عارمة أولها عند جريدة الأهرام وآخرها عند جامع عمرو؛ حتى رضخت الجريدة وقدمت اعتذاراً للشيخ عن هذا الرسم المسيء.
وفي مقدمة كتابه «الإسلام في وجه الزحف الأحمر» الذي تحدث فيه عن الشيوعية وزحفها واحتلالها مساحات واسعة من أمتنا رغم عدم جدارتها بذلك، قال: «لذلك رأيت أن أكتب هذه الصحائف الحافلة بالحقائق العلمية والتاريخية، وأودعتها صرخات قلب غيور على دينه شفيق على أمته، وأعرف أنني بكتابتها سأتعرض لعداوات مميتة، ولكن بئست الحياة أن نبقى ويفنى الإسلام! إن الضربات تنهال من كل ناحية على هذا الدين الجلد! وعلى بعد ما بين الخصوم الضاربين من منازع وغايات فقد جمعهم حب الإجهاز على الإسلام واقتسام تركته..! وقد فرض الله على العلماء أن يقولوا الحق ولو كان مراً، وألا يخشوا في الله لومة لائم.. وعشاق الحق لا بد أن يحيوا معه، وإلا فبطن الأرض خير لهم من ظهرها».
وقال في كتابه «مع الله دراسات في الدعوة والدعاة»: «وإنما الذي يعنينا أولاً وآخراً أن يبقى الإسلام حياً، في هذا العالم يؤدي رسالته ويبلغ دعوته، وأن يكون معتنقوه على اختلاف أوطانهم، متمكنين من إقامة شعائره، وإنفاذ حدوده، والعيش وفق تعاليمه وغاياته».
إنني –كما ترى أيها القارئ العزيز- في كل كلمة أوردها من كلام الغزالي أجد فيها الربانية والشجاعة والحرقة والقوة بما يجعل من تراثه معلماً من معالم النهضة والتجديد والصحوة في عصرنا؛ ولهذا كتب لتراثه الفاعلية والحضور.
رابعاً: محاربة الاستبداد وعشق الحرية:
عاش الشيخ الغزالي حياته –على مستواه الشخصي– حراً طليقاً، فهو بوصفه شخصاً لا يحب التضييق ولا العسف ولا التحكم فيه، ويسعى دائماً إلى الحرية والتحرر إلا من كتاب الله وسُنة رسوله، يكره الظلم والتسلط على عباد الله، يقول بصراحة: «لا أحب أن أتسلط على أحد، ولا أن يتسلط عليَّ أحد».
هذه الطبيعة الشخصية والنحيزة النفسية جعلته يواجه الظلم ويقف في مواجهة الطغيان والاستبداد، حتى ألَّف كتاباً بعنوان «الإسلام والاستبداد السياسي»، الذي أراه مع كتاب الكواكبي «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» أهم ما كتب عن الاستبداد على مر التاريخ.
قال في مقدمة هذا الكتاب: «كتبت هذه الصحائف من بضع عشرة سنة، وكان دويها بعيد المدى في إقلاق الظلمة، وكانت استجابة القدر لها أسرع مما يتصور الكثيرون، فدكت عروش طالما عنت لها من دون الله الوجوه، وزالت مآس كاد الإياس من زوالها يستولي على الأفئدة، لكن آفاق العالم الإسلامي لما يعمها الصفاء المنشود، فبعد مضي هذه السنين الحافلة نرنو بأبصارنا إلى أقطار شتى، فإذا هي لا تزال ترسف في قيودها، بل إن أعراس الحرية كثيراً ما تحولت إلى مأتم يحفها السواد الكئيب، وتلهث فيها الجماهير الشقية، وتستباح فيها الدماء والأعراض.. والمسلمون أحوج أهل الأرض إلى الرواد الذين يمهدون لهم سبل الكرامة ويدفعون عنهم مكايد العسف، ونحن لن نتوانى عن أداء واجبنا الذي يسرنا الله له، وأعاننا عليه، وسنظل نساند قضايا الحق، ونناصر أهله حتى نلقى الحق -جل شأنه- صادقين أوفياء».
ولقد تناول كل ما يتعلق بالاستبداد وكيفية مواجهته، والحرية وسبل ضماناتها، قال في هذا الكتاب عن الحرية (ص 73): «الحرية صدى الفطرة، ومعنى الحياة، يشب المرء من نعومته وهو يحس بأن كل ذرة من كيانه تنشدها وتهفو إليها، وكما خلقت العين للبصر، والأذن للسمع، وكما خلق لكل جارحة أو حاسة وظيفتها التي تعتبر امتدادًا لوجودها واعترافاً بعملها.. كذلك خلق الإنسان ليعز لا ليذل، وليكرم لا ليهون، وليفكر بعقله، ويهوى بقلبه، ويسعى بقدمه، ويكدح بيده، لا يشعر وهو يباشر ذلك كله بسلطان أعلى يتحكم في حركاته وسكناته إلا الله الفرد الصمد، ربه، ورب الناس أجمعين».
خامسًا: اللغة الأخاذة والأسلوب الآسر:
لقد صاغ الشيخ محمد الغزالي فكره بلغة نادرة، تقف نموذجاً فريداً من بين كتَّاب عصره وأعلام زمانه؛ فقد كان يصوغ أفكاره وكتبه بلغة عالية الجودة، رفيعة القدر، تضعه في الطبقة الأولى من الأدباء والشعراء والكتَّاب؛ فإذا قرأت للغزالي ظننت أنه أديب من أدباء العصر العباسي الأول؛ ولهذا قال إمامنا وتلميذه الشيخ القرضاوي: «فكم من عبارة لشيخنا الإمام الغزالي شكلُها شكل النثر، وروحها روح الشعر».
وهذا حق؛ فالغزالي أصلاً أديب شاعر، وله ديوان «الحياة الأولى»، وقد كتب د. مصطفى الشكعة دراسة ضافية عنه في مقدمته؛ ذلك أن الغزالي شفاف النفس، شاعر الطبع، أديب المنزع، متوهج المشرب، متضلع من كتب الأدب قديماً وحديثاً، كما يبدو ذلك جليًا من استشهاداته في سائر كتبه، إن ما يكتبه الغزالي بلا استثناء يمكن أن يوضع فيما يسمى «الحِكَم» فكلامه حكمة، وفقراته حكم، وأسلوبه يتملكك ويسيطر عليك ويستبد بك.
كما أن صياغة الغزالي للأفكار والرؤى لا تقتصر على جانب دون جانب، وإنما هي عبارة تجمع الإيمان الصادق، والفكر الأصيل، والروح المشعة، والحرقة الواضحة، والصدق الظاهر، والشفافية البليغة، مما يجعل أي قارئ للغزالي يحبه ويرتبط به ويعقد بينه وبين كتبه عقداً لا يفصمه اختلاف الليل والنهار.
هذه إشارات –مجرد إشارات– لبعض الأسرار التي رأيت أنها من أسباب حضور الشيخ الإمام محمد الغزالي في ذكرى وفاته كل عام، وهي من أسرار فاعلية أفكاره وجديتها ونفعها لعصره وعصرنا وعصور لاحقة، إن شاء الله تعالى، ولعلك تقول أيها القارئ الكريم: «إن العبارات التي نقلتها عن الشيخ الغزالي تتضمن كل العناصر والأسباب التي ذكرتها»، وأبادر فأقول: هذا قول صحيح؛ لأن «إكسير» الربانية والإيمان والصدق والشفافية تنضح بآثارها على كل ما يكتب؛ فلا غرو أن تجد في فقرة واحدة: الربانية، والصدع بالحق، وكراهية الاستبداد، وعشق الحرية، وكل هذا بطبيعة الحال في صياغة أدبية رائقة، وهذا هو حال العلماء الربانيين.
إن هذه الكلمات التي تمثل صرخات من قلب مكلوم، ومن نفس تأبى الخنوع أو التلفت، لهي كلمات تخرج من القلب وتستقر في القلوب، وإن أحدًا مهما بلغ من قوة تحظر أو تمنع لن يستطيع أن ينزع ما استقر في القلوب؛ ولهذا كُتب البقاء والفاعلية والخلود والنفع لما كتبه الشيخ الغزالي، جدد الله عليه الرحمات والرضوان.